محمد القويزاني: لا نستطيع الوصول لعالم ما قبل الاستعمار من دون استخدام جسر من الاستعمار

أستاذ النقد الإنجليزي المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: لا أحب المناداة بمشروع عربي إذ أثبتت التجربة أن مشاريعنا وخصوصاً الثقافية منها غالباً ما تنهار

TT

لا تزال شريحة واسعة من الأدباء والمثقفين العرب يجهلون ما يسمى بأدب «ما بعد الاستعمار» Post Colonial Literature لجملة من الأسباب أبرزها انتشاره في حقبة زمنية مليئة بالتفاعلات السياسية والاجتماعية العصيبة يضاف لها محدودية الإلمام باللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية والفرنسية، إضافة إلى ضآلة المراجع والمصادر الخاصة المترجمة إلى العربية. يكشف الحوار التالي مع الدكتور محمد القويزاني استاذ النقد الإنجليزي المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عن بعض تلك تفاصيل هذا الأدب والنظرة الاستشراقية لمستقبل الأدب العالمي خاصة مع التطورات والأحداث السياسية التي يشهدها العالم حاليا:

* يسعى الغرب إلى تحديد المسافات وتسمية الفترات والمدد بشكل دقيق جدا، وهو الأمر الذي ينطبق حتى على الأدب كما في مصطلح «أدب ما بعد الاستعمار»، على سبيل المثال. فما هو تعريف هذا المصطلح؟

ـ شأنها شأن بقية النظريات الأدبية الأخرى، من الصعب الاتفاق على تعريف محدد لنظرية ما بعد الاستعمار. فبشكل مبدئي نستطيع القول إنها تعنى بأدب البلدان التي كانت واقعة تحت الاستعمار الغربي. إلا أن هذا يوقعنا في عدة إشكاليات، فمثلاً كيف نصنف أدب البلدان التي ما زالت تقبع تحت الاستعمار مثل إيرلندا، ومارتينيك، وغينيا الفرنسية، وسينت لوشيا، وفلسطين، وسبته المغربية، وغيرها. ثم كيف نتعامل مع الأدب ما بعد الاستعماري الذي وجد قبل الاستقلال السياسي، أي أثناء الاستعمار، أو حتى قبله، مثل كتابات رفاعة الطهطاوي، وبطرس البستاني، أو وطنيات أبي القاسم الشابي، وأحمد شوقي. فكان الأسلم حينئذ تبني تعريف موضوعي، لا تاريخي، أي تعريف يحدد مواضيع ما بعد استعمارية من دون ربطها بفترة زمنية محددة. وهنا نستطيع التبسيط في التعريف فنقول إن نظرية ما بعد الاستعمار تعنى بفكرة الرد على الخطاب الاستعماري، وهو ذلك الخطاب الذي ينتج في المركز الثقافي الإمبريالي (بشكل رئيس أوروبا وأميركا), ويستهدف تحليل, أو استكشاف, أو وصف ما هو خارج هذا المركز (بشكل رئيس العالم الثالث). وهذا الخطاب الاستعماري يفترض عالمية ومحورية طالما فرضها على الآداب العالمية الأخرى، التي تستقبل تلك العالمية المقبلة من المركز الثقافي (أوروبا)، وتعملها أو تعمل من خلالها.

* نعلم أنك متخصص في أدب ما بعد الاستعمار، فهل ترى هناك تشابهاً بين الحالات التي تتحدث عنها وبين واقع اليوم في جوانبه السياسية والاجتماعية؟

ـ لم يعد من السهل التفرقة بين السياسة والاجتماع والأدب. فهذه الثلاثة تغذي بعضها البعض، وتعطي الصلاحية والنفوذ لبعضها البعض. فالاستعمار ـ بشعور الهيمنة ـ يغذي الاستشراف وهيمنته النصية مثلاً، كما أن الاستشراق يمهد السبل النصية للاستعمار السياسي. وبالنسبة لعالم ما بعد الاستعمار، فهو يتأثر بنفس الانعكاسات السياسية والاجتماعية. وفي كل المؤتمرات التي حضرتها تقريباً كان هناك أكثر من بحث حول الواقع السياسي أو الاجتماعي لعالم ما بعد الاستعمار. والهيمنة السياسية أو الاقتصادية تولد هيمنة أدبية، ويصبح هدف الكتابات ما بعد الاستعمارية التحرر من هذه الهيمنة أو الرد عليها، سواء كانت في مجال السياسة، أو الاقتصاد، أو الأدب. وفي العالم العربي، أستطيع القول إن واقع ما بعد الاستعمار جلي في الانعكاسات الاجتماعية، والأدبية. فعصر النهضة في الأدب العربي كان متأثراً بالاستعمار والاحتكاك الثقافي المباشر مع الغرب مما أدى على المستوى الأدبي لولادة أجناس أدبية لم تكن موجودة من قبل مثل فن الرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية. والرواية كما نعلم هي فن الطبقة المتوسطة، لذا كان الاحتكاك بالثقافة الأوروبية التي هي في المقام الأول ثقافة طبقة متوسطة، جلياً في انتعاش الطبقة المتوسطة في العالم العربي، وتأثرها بالنتاج الأدبي الأوروبي، ومحاكاته، ومن ثم بروزها كطبقة فاعلة في المجتمعات العربية. وقد أشار الى تأثر الطبقة المتوسطة بالاستعمار فرانز فانون في كتابه الشهير «المعذبون في الأرض» (1961) الذي يعد من أوائل الكتب التي حاولت التنظير لمجتمع ما بعد الاستعمار.

* قليلة هي الدراسات العربية في مجال أدب ما بعد الاستعمار، ولعل القسم الأعظم من المثقفين غير المختصين، الذين لا يعرفون لغة أجنبية، يجهلون هذا الأدب. إلام تعزو ذلك؟

ـ هذه بكل تأكيد إشكالية تستحق الدراسة. فإن كانت نظرية ما بعد الاستعمار تهدف إلى إخراج العالم الثالث من العزلة الثقافية، وذلك برفض العالمية أو الهيمنة الأوروبية عليه، فكيف نفسر عدم وجود الكثير من النقاد العرب المختصين في هذا المجال؟ أولاً يجب التأكيد على أن ما بعد الاستعمارية، كنظرية أدبية واضحة المعالم، لم تنشأ إلا حديثاً، أي في أواسط أو أواخر تسعينات القرن العشرين، مع أن أصولها النظرية تعود إلى ستينات القرن. لذا ما زالت الكتب والمقالات تشرح هذه النظرية وتبين أبعادها أو حدودها النظرية. وقبل عشر سنوات لم تكن توجد إلا كتب معدودة في هذا المجال. واليوم لا تكاد تخلو جامعة أميركية أو أوروبية من مواد في نظرية ما بعد الاستعمار، وتزخر المكتبات والمجلات العلمية بالكتابات التي تقدم أطروحات ما بعد استعمارية تستحق الدراسة. صعوبة النظرية تكمن في تحديين. أولاً: أنها تستند على أسس نظرية غربية، مثل نظرية التفكيكية، والنسوية، والماركسية، وغيرها، وهذه النظريات معروفة بصعوبتها وتعقيداتها على المثقف غير المختص، إذ تعتمد على الفلسفة والفكر المجرد. وثانياً: لأنها تعتمد على كتابات أغلبها كتبت بلغات أجنبية، وخصوصاً بالإنجليزية. لذا يجد الباحث نفسه محصوراً بمصطلحات يصعب عليه نقلها جميعاً، ونقل دلالاتها. فكل مصطلح يحمل معه تأثير من كتبوا فيه، وظلالاً من المعاني لا تخفى على المختص. وترجمة المصطلح ما زالت إحدى أهم المعضلات أمام المترجم في كافة اللغات. ولكن تظهر هذه المشكلة بوضوح أكثر في نظرية ما بعد الاستعمار، التي كان من المفترض أن تقدم المنظور «العالمثالثي» لقضايا الفكر والأدب، إلا أنها تستمر في انتهاج الطرق النقدية والنظرية للنظريات الغربية. لذا فهي تعمل في خطاب هي في الأساس تنقده. وتحذر الكاتبة ليلا غاندي في كتابها «نظرية ما بعد الاستعمار: مقدمة نظرية» من أن تتحول النظرية إلى مجرد «شراب قديم في آنية جديدة»، فتعيد المركزية للثقافة الأوروبية. ولكن من جهة أخرى تظهر كتابات عربية جادة نستطيع تصنيفها في الكتابات ما بعد الاستعمارية، فكتابات خير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، وشكيب أرسلان، وعبد الرحمن الكواكبي، وشبلي شميل، وساطع الحصري كلها تندرج تحت العناوين العريضة لنظرية ما بعد الاستعمار. ومن الكتاب المعاصرين يبرز كتاب مثل: محمد عابد الجابري، وعبدالله العروي، ومحمد أركون، ومالك بن نبي، ومحمد شكري ككتاب بارزين في فكر ما بعد الاستعمار لجهودهم الجبارة في تحليل الواقع ما بعد الاستعماري، وبحث العلاقة بالآخر في الثقافة العربية. وفي السعودية يبرز كتاب مثل عبدالرحمن منيف على المستوى الإبداعي، وسعد البازعي على المستوى النقدي اللذين حاولا إبراز الصراع الحضاري/الفكري الناتج عن المقابلة بين الذات والآخر، أو بين الشرق والغرب، وتداعيات هذه المقابلة، وتأثيراتها على المجتمع (في حالة منيف) أو على الفكر (في حالة البازعي).

* ما العمل في هذه الحالة؟ ألا يمكن الدعوة لمشروع مشترك لسد الفراغ الهائل في هذا المجال الحيوي؟

ـ لا أحب المناداة بمشروع عربي لدراسة أي شيء. فقد أثبتت التجربة أن المشاريع العربية، وخصوصاً الثقافية منها غالباً ما تنهار، لتلونها بالسياسة (بمعناها البسيط) وأدلجتها بحيث تعبر عن وجهات نظر آنية لطبقة أو فئة معينة. ولكن من المهم أن نتجه، جماعات أو أفراداً، لدراسة التجربة الاستعمارية وتأثيرها الثقافي على المجتمعات العربية. فليس من الصحيح أن الاستعمار لم يترك آثاراً، كما أنه ليس صحيحاً أن كل هذه الآثار سلبية أو مادية. بل إن هناك آثاراً في طريقة تصور العالم، ورسمه، ومكان الذات منه، ورؤية الماضي ما قبل الاستعماري برزت كنتيجة للاحتكاك الثقافي المباشر مع الغرب الاستعماري. أرى ضرورة أن تقوم أقسام الأدب في الجامعات العربية بتقديم مواد في ما بعد الاستعمارية وأسسها الفكرية لدراسة هذه النظرية من الداخل، وتوفير البيئة الملائمة لولادة أفكار عربية تساهم في المناقشة السائدة حول مفاهيم مثل عولمة الثقافة، وثقافة العولمة، العنف والثقافة، الثقافة والمقاومة، علاقة الأنا بالآخر، وغيرها من القضايا التي ستثير الكثير من التعليقات داخل المؤسسات الثقافية العربية.

* هل هناك أعمال عربية يمكن تصنيفها ضمن «أدب ما بعد الاستعمار»؟ ـ هناك من الكتاب من حاول القيام بذلك فعلاً، إلا أن كتاباتهم لا تندرج ضمن نظرية ما بعد الاستعمار (postcolonial theory)، ولكن في الكتابات التي يمكن أن تصنف على أنها كتابات ما بعد الإستعمار (postcolonial writing)، فالأولى كتابات في النظرية، والثانية كتابات في السياسات والمواضيع ما بعد الاستعمارية. ومن هؤلاء كل من حاول الكتابة في مسألة العلاقة الثقافية بين الشرق والغرب، ونستطيع العودة هنا لكتاب النهضة أمثال رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وبطرس البستاني، وغيرهم، أو كتاب القرن العشرين أمثال: طه حسين، وسلامة موسى، بل إننا نستطيع إدخال الكتابات الإبداعية في هذا المجال، أمثال قصص سليم البستاني، وتوفيق الحكيم، والعقاد.

والمتفحّص لروايات نجيب محفوظ يجد أنها من أفضل الروايات العربية لدارس نظرية ما بعد الاستعمار، حيث يبرز فيها الصراع الثقافي الطبقي الناشىء عن التجربة الاستعمارية، وكذلك المجتمع المحلي حين يقابل الآخر وجهاً لوجه. وهنا يمكن ذكر روايات مثل خان الخليلي، وزقاق المدق، والثلاثية، كأمثلة على لقاء المجتمع المصري بالآخر، والتحول الثقافي الذي يعقب هذه اللقاء، وهذا هو قانون التغيير الذي يبرز في روايات محفوظ الأولى. وكل من يحارب أو يقف في وجه هذا التغيير هو زائل لا محالة (أمثال أحمد عاكف في خان الخليلي، وعباس الحلو في زقاق المدق، وأحمد عبد الجواد في الثلاثية). وتصبح هذه الشخصيات رموزاً للماضي الذي لم يتأثر بالاستعمار، أو يرفض التأثر به، ويصبح عيشها في المجتمع ما بعد الاستعماري أمراً صعباً للغاية، فتندثر في الماضي ما قبل الاستعماري. ولا يزعم محفوظ أبداً أن هذا الاندثار سهل، أو محبب، بل إنه صعب على النفس، فهو جزء من الثقافة أو الهوية يموت. لذا كان الضعف التدريجي لأحمد عبد الجواد في الثلاثية، وموته في آخر الرواية ثقيلاً على القراء، وذا أبعاد رمزية لا تخفى على القارئ المتمعن.

* يشهد العالم أجمع تغيرا في سياساته بفضل السيطرة على موازين القوى والدفاع عن المصالح، والحماية الأمنية والجديد هناك هو «الاستعمار بالديمقراطية» مثلا، أو بروز مصطلحات جديدة للتو في الساحة العالمية كـ«الإرهاب»، و«الاستشهاد»، أو «العمليات الانتحارية»، السؤال هنا: هل سبقت أعمال أدب ما بعد الاستعمار في التطرق لمثل هذه الموضوعات؟

ـ يقول الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو إن واقع اليوم هو تطور سياسي اجتماعي لسياسات الاستعمار القديمة، حيث نعيش عصر الاستعمار الجديد، إلا أن هذا العصر الجديد له آلياته ومؤسساته. ففي حين كانت القوى العظمى البريطانية، أو الفرنسية، أو الإيطالية، أو الإسبانية، أو البرتغالية هي التي تفرض سياساتها الاستعمارية من خلال الاستعمار المباشر لبلدان العالم الثالث في الاستعمار القديم، فإن مؤسسات حديثة مثل البنك الدولي، أو الأمم المتحدة، أو العولمة، أو الاقتصاد العالمي تفرض هيمنة من نوع جديد، تتيح فيها للدول الكبرى التدخل في شؤون الدول الصغرى، وهذا هو الاستعمار الحديث، لذا يبقى التحكم في الدول الصغري هو هدف الاستعمار القديم والحديث، على حد قول نغوغي. ولا شك أن العنف والثقافة مترابطان بشكل كبير، حيث تتبنى ثقافة المقاومة صوراً من العنف للتعبير عن رفضها للخضوع. وقد تحدث فانون عن ذلك مبيناً أن الاستعمار هو الذي يزرع العنف في نفوس الشعوب المستعمرة التي تصبح ترى العنف وسيلة تبادل ثقافي. ولا شك أن المقاومة هي إحدى أهم صور التفاعل الثقافي، إلا أنها قد تظهر في عدة أشكال خالية من العنف المادي. وقد ركز إدوارد سعيد على هذا الجانب اللاعنفي في ثقافة المقاومة في كتابه الشهير «الثقافة والإمبريالية». فإبراز الهوية، وصراع التحول، والمثاقفة، كلها أشكال للمقاومة الثقافية اللاعنفية، التي ينبغي التركيز عليها أثناء الحديث عن مواجهة السياسات الثقافية الاستعمارية.

* ما هي نظرتكم الاستشرافية حول الموضوعات التي يمكن أن تخلفها قضايا السياسة والتغير الذي يشهده العالم؟ وهل سنشهد «أدبا مصنفا»؟

- أشك أنني أهل لنظرة استشرافية بمثل هذا الحجم، ولكنني أزعم أن فكرة الهجين بنظرتها التوفيقية بين الأنا والآخر ستأخذ حقها في الدراسة والتحليل بالشكل الذي يتيح للأضداد الثنائية أن ترى بشكل لا تعارضي. فالكاتب الهندي هومي بابا كما ذكرت آنفاً ينفي أي معرفة مبنية على ثنائية ضدية، حيث تعرف الذات بنفي الآخر. فهذا التبسيط المخل للآخر يخفي استشراقية وتبسيطية في فهم الآخر والتعامل معه. فنظرية الهجين عند بابا تشكك في الحدود الثقافية التي تفصل الأمم، والتي يعتمد وجودها الفكري أساساً على نظرة أحادية غير مأشكلة للذات، وللآخر، ومتجاهلة المشتركات بين العالمين. فالهجين، إذاً، ينسف النزعة الجوهرانية التي تفصل بين الأنا والآخر فصلاً تاماً، محدداً ثقافياً، وموزعاً جغرافياً وسياسياً. فبما أن الأمم هجينة بطبعها، فإن رؤى بابا اللاجوهرانية تعتمد على قراءة للأمة، وللذات، حيث يوجد أثر للآخر. لا نستطيع إذاً الوصول لعالم ما قبل الاستعمار، من دون استخدام جسر من الاستعمار، كرابط هام بين اليوم، وتراث ما قبل الاستعمار. فكل إعادة بناء للتراث، تعزو وجودها لهذا الجسر الاستعماري.