آيديولوجية العنف حينما تصبح استراتيجية سياسية وعسكرية

منير العكش يكشف في كتابه «تلمود العم سام» الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا من حملات الإبادة للهنود الحمر إلى الفلبين إلى السياسات المعاصرة

TT

انشغل مفكرون سياسيون واستراتيجيون كثر منذ وصول مجموعة المحافظين الجدد الى قمة الادارة الاميركية بمعية الرئيس جورج بوش، في البحث عما يمكن تسميته «الانجيل» الموجّه لسياسات واشنطن في العالم. ومع ان كثيرين من المحللين يعتبرون ان الاستراتيجيات الاميركية الدولية تقوم على ثوابت تحكم عمل ورؤية الادارة ايا يكن انتماؤها ـ جمهوريا او ديمقراطيا ـ الا ان آخرين يتلمسون في كل النهج الذي اعتمدته ادارة بوش الابن اتكاءه على خلفية ايديولوجية، لا تختلف في صرامتها او ضوابطها عن صرامة وضوابط الايديولوجية السوفياتية. لكن في المثال الاميركي الراهن يبدو جليا ذلك الاندغام بين المصالح السياسية والمادية والبعد الايديولوجي (الارثوذوكسي) المعبر عن نفسه بسلوك طغياني تململت من تبعاته دول وشعوب في القارات الخمس.

بحثا عن هذه الايديولوجية صدر قبل ايام كتاب عن دار الريس في بيروت للباحث منير العكش بعنوان «تلمود العم سام ـ الاساطير العبرية التي تأسست عليها اميركا». وفي هذا الكتاب الذي ينقسم الى قسمين ويتضمن عدة فصول يبذل الباحث جهدا توثيقا مميزا للكشف عن الجذور العقائدية التي تقف وراء ما يسميه «فكرة اميركا»، وهي في رأيه جذور عبرية مستعارة من «فكرة اسرائيل» التاريخية. وتقوم تلك الفكرة على اهداف ثلاثة تحكمت في مسار اميركا على مدى اربعة قرون، وهي:

1 ـ اجتياح ارض الغير.

2 ـ استبدال سكانها بسكان غرباء او استبعاد من يعصا منهم على الموت.

3 ـ واستبدال ثقافتها وتاريخها بثقافة المحتلين الغرباء وتاريخهم.

وفي تطبيق هذه الاهداف استمدت بلاغة العنف الاميركية استعاراتها من ادبيات «فكرة اسرائيل» التاريخية واساطيرها المقدسة وانماط سلوك ابطالها، بدءا من «العهد المقدس» الذي ابرمه الحجاج في سفينة ماي فلور مع يهوه في عرض المحيط الاطلسي وانتهاء بما يمكن تسميته باحاديث الرئيس جورج بوش ذات المعنى الديني قبل الحرب على العراق.

وليس جديدا القول ان ثقافة العنف الاميركي، سواء على المستوى الرسمي من خلال ما تسميه الصياغات الديبلوماسية الاوروبية «الاستخدام المفرط للعنف» تجاه «الاعداء»، او على صعيد السلوك الفردي من خلال ما يشهده المجتمع الاميركي نفسه من ظواهر قسوة، تجد اصلها في قيام الدولة / الامبراطورية قبل اكثر من قرنين من الزمان حينما تأسست على تجربة الابادة الجماعية لشعب البلاد الاصلي وهم الهنود الحمر. وفي هذا الاطار يكشف المؤلف عن واقعة ذات دلالة اكثر من رمزية حينما يتحدث عن مدينة هندية قامت فوق انقاضها مدينة واشنطن ونهضت فوق قبورها اركان البيت الابيض نفسه. فيقول: «تحت مدينة واشنطن مقبرة جماعية كانت في يوم من الايام مدينة «هندية حمراء» مسالمة تدعى «نكن شتنكه». كانت مينة نكن شتنكه مركزا تجاريا زاهرا لشعب كونوي هنا على ضفاف نهر بوتومك قبل ان يبنيجورج واشنطن عاصمته على انقاضها. اما كونوي فكان اسما لهذا الشعب المدفون تحت مدينة واشنطن». ويتابع انه «في حفريات 1975 عندما كانت تقنية الحداثة تحفر مسبحا داخل حديقة البيت الابيض للترفيه عن سيد القصر وجد علماء الاثار ما وصفوه يومها بانه «آثار ورمم بشرية تعود الى مدينة نكن شتنكه وشعب كونوي» وسرعان ما انعقدت الالسنة الطويلة وصودرت الاشباح واهيل التراب على جثة الفضيحة وامتد بساط الاعشاب من جديد فوق مفبرة «المجاهل» المعروفة باسم «حديقة الورد».

ولم تكن حكومات ما بعد الاستقلال الاميركي اكثر رحمة مع من تبقى شعب البلاد الاصلي، و«صحيح ان الحكومة الاميركية وقعت 371 معاهدة مع الشعوب الهندية خرقتها كلها ولم تحترم واحدة منها، لكن البقية الباقية من هذه الشعوب ما تزال تمتلك قانونيا ثلاثة بالمائة من مساحة ما يسمى اليوم بالولايات المتحدة لم تتنازل عنها قط، هي بلادها المغتصبة التي دفنت بشعوبها في «مقبرة الهند» ولم يعد هناك من يصدق انها بلادها. انها شظايا من المساحات مخردقة معزولة مطوقة ملغومة متباعدة لكنها بمجموعها (285886 كلم2) اكبر من مساحة كل الجزيرة البريطانية واكبر بعشرات المرات من الزرائب التي حشر فيها هؤلاء الاشقياء بالقوة والارهاب والمجازر وقوافل الدموع، وحرموا فيها عمدا من ابسط شروط الحياة. انهم ينامون جياعا عراة محاصرين فوق اغنى كنوز بلادهم، فلديهم ثلثا احتياطي اليورانيوم، وربع الفحم الكبريتي، وخمس الغاز والنفط، ومخزون هائل (لم يعلن عن مقداره) من الذهب والنحاس وبوكسيت الالمنيوم وغير ذلك من الكنوز التي اعطت «ثروة الامم» مبررا اضافيا قويا لتحديث تقنية المحو والاستمرار في حرب الابادة على هامش دراما نهاية التاريخ».

ثم يأتي بعد ذلك البعد الثقافي في سلوك القهر والالغاء وعن هذا تقول الباحثة الهندية بام كولوراد: «ان هذا التزوير يهدف الى اختراق وجدان الهنود وخلقه من جديد لكي يروا انفسهم بعيون جلاديهم. اننا نتحدث هنا عن استعباد روحي مطلق يستكمل اهداف الاستعباد الجسدي. اما اذا نجحوا بهذا فان ارواحنا التي لم يبق لنا غيرها ستتبخر كما تتبخر حبات المطر في فوهة البركان. وفعلا فان كثيرا من اطفالنا فقدوا انفسهم ومعنى حياتهم بعد ان تحولت ثقافتهم الى عجينة من الشمع المحترق. فاللعبة المفضلة لدى اطفال الهنود اليوم كما يقول الممثل الهندي شارلي هيل هي لعبة «الكاو بوي» حيث يرتدي الطفل الهندي ملابس الكاو بوي ويتسلى بتصويب مسدسه على الهنود كما في السينما. ولكي نتصور فظاعة هذه الهيمنة الثقافية (والكلام لهيل) دعنا نتخيل اطفال اليهود يلعبون لعبة اسمها «النازي» حيث يتزين الطفل اليهودي فخورا باللباس والشعار النازي ويتسلى بحرق اليهود. ان الحديث عن المذبحة الروحية التي نتعرض لها ليست استعارة بلاغية، فارواحنا الآن هي التي تباد».

يلاحظ المؤلف في الفصول التالية ان هذه النزعة التي يطلق عليها تسمية «القيامية» تواصلت كمكون للسلوك السياسي للولايات المتحدة في مختلف العقود والظروف اللاحقة، الى ان تجلت في الحرب العالمية الثانية بتدمير هيروشيما وناغازاكي. وفيما كان بعض الانسانيين يحذرون من مخاطر تقنية الموت والسلاح النووي على مستقبل الانسانية وجد القياميون في الولايات المتحدة انفسهم يمتلكون الوسيلة التي تؤهلهم للتحكم بناصية المصير البشري وصناعة القيامة ـ بالمفهوم الامبراطوري الاميركي ـ وتحقيق اهدافها من دونما الحاجة الى عون الهي.

وينقل المؤلف عن المؤرخ مارتن مارتي تفسيره لتلك النزعة بقوله ان «هذا النهم الاميركي لسفك دم الشياطين يجعلهم يعيشون بذهنية المأزق. فتلك القراءة الدرامية للنصوص وتلك الثنوية التفسيرية الحادة والجوع الى ما بعد التاريخ لا بد ان يفرخ عدوا كونيا يتقمص ويتناسخ في كل عدو، ويفرز ذهنية المأزق التي تبرر التطرف الاصولي الاقصى. انهم هنا مثل اليهود مسكونون دائما بهاجس الخطر الذي يهدد وجودهم: خطر الهنود، وخطر الكاثوليك، وخطر الاسلام وخطر الايديولوجيات الخارجية، وخطر المهاجرين الغرباء والاخطار التي تتلاحق زرافات ووحدنا، وهم دائما يبدأون باطلاق النار على الشياطين في حال دفاع عن النفس».

وفي النتيجة فان التحسس الدائم من خطر ماثل او موهوم هو القاسم المشترك بين النفسية الاميركية والنفسية اليهودية كما يرى روبرت فولر في كتابه «تسمية الدجال»، أي «انه الحاجة الدائمة الى الشيطان والحديث عن خطره المصيري الذي يتطلب فلسفة أمنية متشددة تقتل بالحدس، ويتخذ احتياطات وقائية شديدة التطرف والعنف.. وعلى كل حال فان هؤلاء الانغلوسكسون البيض البروتستانت متجذرون ثقافيا في تراث توراتي يمدهم باستعارات اسطورية لكل عماء يهددهم، فما ان يتمكنوا من لصق هذه الاستعارات بحادثة او شخص حتى يصبح سفك الدم عملا مقدسا«. وفي حقيقة الامر فان اسباغ هالة القداسة ليس افتاءاتا على سلوك واشنطن او سياساتها، ولعل ابرز دليل عليها انه على ايام الرئيس الاميركي الخامس والعشرين وليم مكنلي، وبعد قيام الولايات المتحدة بـ «تحرير» الفلبين وضمها، كان البيت الابيض يشهد حربا كلامية طاحنة حول تعريف «الامبراطورية الاميركية«. في ذروة تلك الحملة التي احتفلت اميركا بعيدها المئوي قبيل «تحرير» العراق القى السناتور البرت بيفردج كلمة امام الكونغرس اوضح فيها المعاني القدرية للتوسع الاميركي في «اعالي البحار» والامان التي اودعها الله في اعناق شعبه الانكلوسكسوني لاعادة صياغة العالم. وفي خطابه «مسيرة العلم» الذي يعتبر من آيات البلاغة الاميركية ومحفوظات تلاميذ المدارس واحد اكثر النصوص «الوطنية» تأثيرا في الرئيس الحالي جورج بوش يقول السناتور بيفردج:

«ما جعلنا الله شعبه المختار الا لكي نعيد صياغة العالم.. (ولا شك في ان ضمنا للفلبين) سيوفر للجمهورية الاميركية هيمنة مطلقة وابدية في المحيط الهادي وفي الشرق.. ان آباء هذه الامة لم يكونوا اقليميين، بل كانت اعينهم على كل جغرافيا العالم. كانوا جنودا كما كانوا عمارين. وكانو يعلمون ان رايتنا يجب ان ترفرف حيثما ترسو سفننا. ولأنهم كانوا ينعمون بروح التقدم فقد عرفوا ان الجمهورية التي احسنوا غرسها، وفقا لقوانين عرقنا التوسعي، ستصبح هذه الجمهورية العظيمة التي يراها العالم اليوم، ثم ستصبح اقوى جمهورية يعترف العالم بحقها في ان تكون وصيا على مصائر الجنس البشري. لهذا كتب اباؤنا في الدستور كلمات مثل «النماء» و«التوسع» و«الامبراطورية» من دون ان يحدوا ذلك بجغرافيا او بمناخ، بل تركوا (رسم الحدود) لحيوية الشعب الاميركي وامكاناته».

وكشهادات تطبيقية على هذا النص الايديولوجي ينقل المؤلف من كتاب «السود الاميركيون وعبء الانسان الابيض» الذي نشره ويلارد غايتوود بعض الرسائل التي كتبها الجنود الاميركيون السود الى ذويهم من الفلبين شهدوا فيها على جرائم القتل والتعذيب التي ارتكبها جيش التحرير، وفضحوا الشتائم العنصرية التي شملت كل من ليس بابيض سواء كان فليبينيا او جنديا اميركيا. واشارت هذه الرسائل الى نماذج من اوامر القتل والتعذيب التي تلقوها. من ذلك ان ضابطا اسود كتب الى زوجته انه اخضع الفلبينيين الى حفلات تعذيب، بينما اعترف ضابط آخر بان التعليمات كانت تقول ان كل اعداء اميركا (هنودا او فلبينيين) متشابهون، واننا لهذا مضينا في القتل.. حتى اننا لم نعد نستطبع التمييز بين الامبريالية والعنصرية. اما رسائل البيض الى ذويهم فرسمت بعض الصور الحية للمعنى الرسالي لفتح الفلبين. ففي 20 مارس (آذار) كتب الضابط بارنز رسالة الى اخيه يخبره فيها كيف احرقوا بلدة تيتاتيا وقتلوا فيها حوالي الف رجل وامرأة وطفل. ثم باح الضابط لأخيه: «ان قلبي يزداد قسوة.. وانني لاحس بالفخار وانا اصوب بندقيتي على ذوي البشرة الداكنة واسحب الزناد..»، بينما فضل ضابط آخر في حديثه مع المراسل هنري نلسون ان يكون اكثر واقعية واعتزازا فقال متسائلا: «ما الفائدة من غمغمة الكلام والحديث الموارب؟ اذا قررنا ان نبفى هنا فلننس عذاب الضمير، ولنترفع عن مثل هذه المشاعر، ولنكف عن التردد في استخدام القسوة، ولننس رأي هؤلاء الذين نريد ان نحكمهم.. ولنبق. لقد ابدنا الهنود الاميركيين. ةاعتقد اننا جميعا فخورون بذلك، او اننا على الاقل نؤمن بان الغاية تبرر الوسيلة. وعلينا اذا لزم الامر ان لا نتردد ابدا في مسألة ابادة أي عرق آخر يقف في وجه التقدم والتنوير». من ذلك يخلص المؤلف الى نتيجة معاصرة من وقائع التصرف الاميركي الحلي اذ يقول: لم يكن بول وولفويتز، الاب الايديولوجي لـ «مشروع من اجل قرن اميركي جديد» بحاجة الى تهييج الآمال او حتى الاستعانة بلغة ستيوارت ميل الاستعمارية لتسويق «فكرة اسرائيل» وحاجتها الى طقس العنف المميت، ففي تراث اميركا وفي البنية الثقافية للمؤسسة الاميركية الحاكمة ما يجعل من الولايات المتحدة مثال «الدولة الام» القادرة على توفير كل العنف الذي لا تتحقق «فكرة اسرائيل» و«فكرة اميركا» بدونه.

وعلى الرغم من الجهد التوثيقي المميز الذي يتمتع به كتاب منير العكش، الا انه تبقى عليه ملاحظتان في الشكل وفي الموضمون. الملاحظة الشكلية هي ان المؤلف اعتمد في اسلوبه لغة خطابية، تعبر عن مواقف وطنية ـ اذا صح التعبير ـ اكثر من تعبيرها عن رصانة اكاديمية يحتاجها مثل هذا البحث. اما الملاحظة المضمونية، فهي غيبة منهج بحثي حاكم بحيث بدت فصول الكتاب وكأنها مقالات نشرت مستقلة ثم جمعت في كتاب. لكن ذلك لا يقلل من اهمية الكتاب كبحث توثيقي لموضوع تتساقط تاريخيته على الواقع الراهن.