«تهجئة التفكير» مشروع يبحث عن تكامل اللغة عبر تفكيك وحداتها

الألسني الشهير فردينان دي سوسير أول من لفت الأنظار إلى حتمية وجود الوحدات في اللغة

TT

هذا الكتاب يعرض اكتشافا لغويا فحواه أن اللغة تتركب من اجزاء أو وحدات محدودة العدد تُعرف لأول مرة. وهي ليست الكلمات المفردة ولا العبارات أو الجمل المألوفة لدينا، ولكنها أجزاء أو الأحرى وحدات تتكون كل منها من كلمتين في أكثر الاحيان. وهذه الوحدات هي ذات خصوصية مشتركة تميزها عن سائر أشكال البناء والتركيب المعروفة كما سنرى.

وكان الألسني الشهير فردينان دي سوسير (متوفى سنة 1913) أول من لفت الانظار الى حتمية وجود الوحدات، ولكن من دون ان يتمكن من التعرف عليها، الامر الذي جعله يظن في النهاية انها ليست بذات أهمية لكونها لا تلاحظ بسهولة، حيث يقول: «عندما يكون لدينا علم لا يظهر أي وحدات قابلة لأن تلاحظ على الفور فذلك يعني ان وحدات ذلك العلم ليست أساسية.. في الشطرنج القيمة تكمن في البيادق المختلطة، اللغة ايضا لديها نظام مرتكز على علاقات الوحدات المحسوسة، لا يمكننا ان ننكر هذه الوحدات أو نتخذ اية خطوة بدونها، تمييزها عمل صعب الى درجة تجعلنا نتساءل عما اذا كانت موجودة فعلا. ولا مجال الآن لمناقشة قول دي سوسير بخصوص الربط بين صعوبة اكتشاف الوحدات جدوى هذا الاكتشاف، بل اكتفى بالقول انه كان مخطئا في ذلك.

في الحقيقة ان هذا الاكتشاف لعناصر اللغة ومركباتها ازاح الستار ليس فقط عن الوحدات بل عن أربعة انظمة يتقيد بها الكلام ولا يمكن ان يخرج عن نطاقها، والانظمة هذه هي، فضلا عن الوحدات: الرموز، وأدوات الاقناع وأدوات الاتباع والتي سأتكلم عنها باختصار لاحقا. الا ان الوحدات هي الجزء الاساسي والاشمل والاهم بدون ريب.

فما هي هذه الوحدات؟ تعتبر وحدة كل كلمتين متجاورتين اذا كان التصور العقلي الذي يتولد عنهما يتمشى مع الحس السليم أو المنطق بمعناه اللغوي ولا يعاكسه. واطلقت على ذلك في الانجليزية تعبير MAKING SENSEوقد تكون الوحدة أكثر من كلمتين في بعض الاحيان كما اشرت وهو لا يغير شيئا في الموضوع.

مثل:

- After Dinner - To You - She Writes وعلى العكس لا تعتبر وحدة أي كلمتين متجاورتين اذا لم ينتج عنهما معنى يقبله المنطق أو الحس السليم. واطلقت على ذلك تعبير NONESENSE مثل:

- House because - Is but - Are my في مجموعة الامثلة الاولى اعتبر الكلمتين المتجاورتين متحدتين وتكونان وحدة لغوية، وفي المجموعة الثانية اعتبر الكلمتين متنافرتين ولا تكونان وحدة لغوية. لنأخذ مثالا يساعد على التعرف الى خطورة ما نقوله:

You are my Friend. فالكلمتان You are لا تعاكسان الحس السليم حسب ما مر وبالتالي تكونان وحدة لغوية. أما الكلمتان: are my فتعاكسان الحس السليم ولا تكونان وحدة لغوية لانعدام المنطق وتسببان انقطاعا في سياق العبارة، اما الكلمتان my friend فلا تعاكسان الحس السليم وبالتالي تكونان وحدة لغوية.

وتنتهي من خلال هذا التحليل الى ان العبارة:

you are my friend التي كنا نظن ان كلماتها اشبه بسلسلة محكمة الترابط هي في الحقيقة مكونة من وحدتين مستقلتين عن بعضهما تماما وهما: you are my friend كما اتضح لنا. اما المعنى فقد نتج عن تجاور الوحدتين من دون ارتباط الواحدة منها بالأخرى كما بينا وخلافا لما تعودنا عليه في النظر الى مثل هذا التركيب، وهذا يدل على ان الكلام الذي يبدو لنا ذو سياق واحد متواصل هو في الواقع منقطع تحدد تقطعه حدود هذه الوحدات. وهذا مثال آخر لمزيد من التوضيح:

At midnight the visitors left فالكلمتان At midnight لا تعاكسان الحس السليم وتكونان وحدة أما الكلمتان midnight the visitors فتعاكسان الحس السليم ولا تكونان وحدة وتسببان انقطاعا في السياق. بينما الكلمتان: the visitors left لا تعاكسان الحس السليم وتكونان وحدة. فهذه العبارة التي تبدو مترابطة الاجزاء كما يخيل الينا هي الأخرى في الحقيقة مكونة من وحدتين مستقلتين وهما: At midnight the visitors left.

والوحدة هي كناية عن قالب تركيبي وتجريدي لا يتوقف على المعنى بشكله الخصوصي المحدد. فمثلا التراكيب: تغريد الطيور، عمال المناجم، غروب الشمس، كلها تعود الى وحدة واحدة لأنها جميعها مكونة من اسم نكرة مضاف الى اسم معرفة وليس لأجل المعنى المشتملة عليه. وهذا يعني ان الوحدة هي بصياغتها اللغوية وليس بالمعنى الخصوصي الذي لها. ولمزيد من الوضوح نقول: إن اي كلمتين مهما كان معناهما اذا وضعتا في هذا القالب قالب المضاف والمضاف اليه فتصيران مقبولتين من الناحية اللغوية المنطقية اي بمنطق اللغة لمجرد انهما دخلتا في ذلك القالب ليس الا، وهذا ينطبق على اية وحدة، وهو يؤكد ان الوحدة هي حقيقة ذاتية لغوية تستمد قوتها من نفسها كبنية لغوية خلافا لما ظنه الالسنيون عموما من ان الوحدات خاضعة لعلاقات معقدة متحركة وانها تستمد قيمتها من تلك العلاقات وقد اختصر ذلك الموقف المعجم الفرنسيLarousse بمساهمة ستة من الالسنيين، حيث قال: «بالنسبة لـ دي سوسير مدرسة براغ والبنيويين الاميركيين: اللغة معتبرة على انها نظام علاقات، بدقة أكثر مجموعات من الانظمة مرتبطة بعضها بالبعض الآخر، حيث الاجزاء (الأصوات والاسماء) لا تشكل اية قيمة خارج نطاق علاقات التوازن والتعاكس التي تربط بينها«.

ولكن لو اتيح للالسنيين التعرف على هذه الوحدات وخصائص كل منها وأدوارها التعبيرية بالنسبة لاحتياجات الفكر لأدركوا خلافا لما يظنون تشكيلات عقلية ثابتة يقصدها الفكر بثقة لينسكب فيها ويخرج بواسطتها من شكله الهيولاني الى شكله الفعلي. وسيكون من أمتع مواضيع فلسفة اللغة دراسة اختصاصات تلك الوحدات وأدوارها في تسهيل مهمات التفكير.

فالتعابير:

- Am electrical tree - Adry television - A patriotie - Am exquisite eoreasse (قالها شاعر فرنسي ربما أندريه بروتون) هي تعابير مقبولة من الناحية التركيبية لكونها انتظمت في تلك الوحدات رغم غرابة أو لا معقولية المعاني التي تشتمل عليها بوسعك ان تقول عنها انها سخيفة مجنونة ولكنك تقبلها كصيغ لغوية بسبب القالب الذي يضمها والقالب هنا في هذه الأمثلة هو: adjective preceeding a noun يقابله في العربية الصفة والموصوف، ولا بد لي من ان اذكر ان عدد الوحدات في اللغة الانجليزية ثمانون وحدة ويقارب هذا العدد في اللغة العربية ايضا. اما الانظمة الثلاثة المتبقية فهي باختصار:

الرموز: وهي عدد محدد من الكلمات المستقلة التي لا تندمج في وحدات وهي تقع دائما في بداية الكلام عند الحاجة اليها. ومنها احرف النداء والندب والنفي وسواها، وهي ما دعوته باللغة الذاتية واعتبرها الاقدم في كل لغة. وقد تم تحديدها واحصاؤها.

أدوات الاقناع: وهي مجموعة من الاحرف والتعابير لا تدخل في وحدات وعملها اظهار العلاقات بين السبب والنتيجة اللذين تفصل بينهما مهلة زمنية وقد احصيتها هي الأخرى.

أدوات الاتباع: وهي على الغالب حروف العطف الا ان دائرة عملها تتجاوز العطف بمعناه الضيق في اللغة، وهذه الأحرف تكون دائما مفردة غير مندمجة في وحدات. والكتاب احصاها وحددها.

انه من السابق لأوانه تصور كل التطبيقات التي يمكن التوصل اليها من خلال هذا العمل. الا ان تعليم الكتابة يصبح في القسم التأسيسي منه تحت سيطرة المدرس وذلك باعتماد الوحدات بشكل منهجي لأجل تلك الغاية، كذلك فإن معرفة العناصر الحقيقية التي تتكون منها اللغة تسمح لنا بدراسة تلك اللغة دراسة فيزيولوجية بناءة كما تسمح بمقارنة اللغات على ضوء نقاط الالتقاء أو التباين بينها من خلال القاسم المشترك الذي هو تلك الوحدات، كما ان ما سمي بالذكاء الاصطناعي الذي يطمح لاستخدام اللغات للتعامل مع الكومبيوتر سيجد في هذا التحليل للغة وسيلة ناجحة لتحقيق اهدافه، لقد كانت لي تجربة مع تقسيم اللغة هذا في مجال الترجمة الآلية بواسطة الكومبيوتر، حيث طورت بالتعاون مع أحد ابنائي برنامجا للترجمة الآلية بين العربية والانجليزية وهي تدخل في مجال الذكاء الاصطناعي وتوصلنا الى نتائج حسنة. وقد ضمنت الكتاب بعض النماذج من تلك الترجمة. هذا الى آخر ما هنالك منافع تظهرها الايام الى حيز الواقع.