كيف يخرج العرب من حالة السلطة إلى إطار الدولة؟

يرى مؤلفا كتاب «تصدع المشرق العربي» ان أفول الايديولوجيات احدث اكبر التحولات في الثقافة السياسية لمنطقتنا خلال القرنين الماضيين

TT

من أي مفصل يبدأ التصدع العربي،أو كيف بدأ منذ خمسينات القرن الماضي في الأقل ؟ في محاولة للإجابة على هذا السؤال الإشكالي، إذ لاتوجد هناك إجابة قاطعة، أو إن هذه الإجابات تتعدد بتعدد المنطلقات الفكرية والسياسية، نشر حازم صاغية وصالح بشير إثني عشر فصلاً، وإشترك معهما في كتابة فصلين حسن منيمنة، ضمها كتاب بهذا العنوان صدر أخيراً عن «رياض الريس للكتب والنشر». وقسم كبير من فصول الكتاب قد تم نشره سابقاً، وآخر قد تجاوزته الأحداث شكلياً، لكن بقي الجوهر الذي يتجلى في أكثر من حدث عربي، وإن تبدل الديكور، وغيرت الأشياء أسماءها. فالبنى الإجتماعية والسياسية والثقافية، والمنظومات الفكرية التي أنتجت إنعكاساتها الكارثية على الواقع العربي ماتزال تفعل فعلها بالوتيرة نفسها، التي قد يعتليها الفتور هنا أو أو هناك، في هذه الفترة أو تلك، لكنها سرعان ما تواصل دورانها، وكأن شيئاً لم يكن. ولعل ما يصطرع الآن في الأرض الفلسطينية، أحدث مثال على إنتاج وإعادة إنتاج الذهنية التي لا تريد أن تتعلم شيئاً، أو إنها عصية على التعلم، كما إنه ينبئ بما قد يحدث في أكثر من مكان عربي، بأشكال أخرى، ما دامت الذهنية هي نفسها.

لا يتوقف كتاب «تصدع المشرق العربي»، من خلال تناول «السلام الدامي في فلسطين والعراق»، عند تحليل الأسباب التاريخية والفكرية التي أنتجت، وقادت إلى أن تسود هذه الذهنية، وتحافظ على تماسكها النسبي بالرغم من كل الزلازل الكبرى التي مرت بها المجتمعات العربية. فهي معنية «بتفحص العوامل التي درج الخطاب السياسي العربي، بسائر تلاوينه، على تبوئها الصدارة( المشروع الغربي، إسرائيل، التجزئة، العلاقات الإقتصادية غير المتكافئة، موضوعة الهوية). من هنا تحظى ما يسميه المؤلفان بـ«الحداثة السياسية»، ممثلة بالدولة ـ الأمة أساساً، بوقع مركزي، من دون التغافل عن العوامل الأخرى، أو إختزالها والحط من قدرها.

ولكن ما هي تجليات هذه «الحداثة السياسية» الممثلة بالدولة ـ الأمة؟ نلاحظ هنا بعض الإضطراب في معالجة هذا الإشكالية، بالإضافة إلى غموض هذا المصطلح المتأتي بالدرجة الاولى من ربطه بعجلة الدولة ـ الأمة. فمن ناحية، يرى مؤلفا الكتاب أن أفول الإيديولوجيات ربما أحدث واحداً من أكبر التحولات في الثقافة السياسية لمنطقتنا خلال القرنين الماضين، غير »أن الوشائج لم تنقطع فعلاً بين هذه الحصيلة الرديئة وبين إقبالنا، القسري إلى حد بعيد، على الحداثة وعلمها وزمانها، وهنا يكمن بيت قصيد التقدم العربي». فهذه الإيديولوجيات سعت، في عرفهما، إلى التأليف، حتى في بعض صيغها وتطبيقاتها الرثة، بين أمرين كانا يبدوان، بالقدر ذاته، حيويين ومرغوبين، أو غير مستبعدين أو متعذرين، وإن على الصعيد النظري، بين الإعتراض على الغرب أو مناصبته العداء، من ناحية، وبين الإقبال على الحداثة أو على التحديث.«لكن الجامع بين هذه الإيديولوجيات الآفلة، من وطنية وقومية وإشتراكية، بعضه كاريكاتيري على الطريقة القذافية، والآخر كابوسي على طريقة صدام حسين، هو إنها «تضع الدولة في لب العملية التحديثية والتاريخية، سواء تعلق الأمر بالحركات الوطنية في سعيها إلى إجتراح الدولة ـ الأمة، أو الحركات القومية التي تنشد إنشاء الدولة الجامعة، أو في الإشتراكية التي تنيط مهمة التنمية بإقتصاد تشرف عليه الدولة وتسيره».

ومن هنا، يستنتج صاغية وبشير أن الدولة، وعندنا تحديداً، تكاد تكون صلتنا الوحيدة بحداثة وبعالم خارجي يستدعي الإنخراط فيه والإنضواء في عداده أخذ العلم بما يتيحه وبما يمنعه، وبالتالي إستدخال مبدأ الواقع في سلوك الدول المعنية. وترتب على ذلك،أن أصبحت الدولة في الغالب هي« الحامية الوحيدة لذلك التوجه وإن في حدوده الدنيا».

مثل هذا الطرح يثير إشكالات كبيرة متعلقة بمفاهيم الإيديولوجيا، والحداثة، والدولة التي لا يمكن الحديث عنها في الحالات العربية موضوع الحديث إلا تجاوزاً. فمن الصعب الحديث عن إيديولوجيا، كمنظومة فكرية متماسكة، وخاصة فيما يتعلق بتلك الحركات التي إنتزعت السلطة بإنقلابات عسكرية وألحقت الدولة ـ الأمة بالسلطة لصالح الأخيرة، وفككت أوصال المجتمع المدني، عماد أية دولة حديثة، حالما قفزت إلى السلطة، وإختزلته في الأجهزة التابعة لها.

صحيح إن هذه السلطات أدخلت عملية التحديث، لكن هذه العملية لم تتجاوز الخطوط الأفقية التي حددتها السلطة. وكان تجاوزها يعني نشوء حركة حداثة بمعناها الحقيقي، أي إزاحة إجتماعية وإقتصادية وثقافية كبرى، وهو ما يشكل الخطر الأكبر على تلك السلطات التي إحتفظت، وما تزال، على ديمومتها نتيجة لغلقها كل مسارب الحداثة الحقيقية. وتجربة حزب البعث، الحزب الحزب المؤدلج الوحيد الذي قفز إلى السلطة أكثر من مرة، وأكثر من بلد عربي، تقدم لنا درساً نموذجاً هذا المجال. فبقدر ما حقق هذا الحزب من عمليات بدت تحديثية بعد مجيئه الثاني في العراق ( إلى الدرجة التي قارنها البعض مع ما حققه الشاه في إيران ما قبل الخمينية)، بقدر ما أحيا المؤسسة العشائرية لتحل محل المؤسسة الحزبية نفسها، ناهيك عن مؤسسات المجتمع المدني التي لم تكد تولد حتى وئدت، مما أوقعه في إزدواج قاتل أودى به في نهاية المطاف. ونقول بدت تحديثية لأنها كانت أقرب إلى التزويق، كانت مصصمة لإبهار العين، وخاصة الخارجية، وليس لغرض إجتماعي عميق. وتجسد ذلك، خير ما تجسد في المدن العراقية، كبيرها وصغيرها، التي كسوا ضفافها حللاً في غاية الجمال، بقدر ما أنزلوا من قبح في دواخلها.

ويبدو أن المؤلفين، كما نلاحظ هنا، يخلطان بين مفهومي الحديث والحداثة. فالأول تحتاجه السلطة لمسايرة الزمن، وت أو كاتب هذا الفصل حريك عجلت الإنتاج المادي، وتغذية شرايينها، إجتماعياً وثقافياً، والثانية تتحاشاها وتحاربها بكل ما تملك من ترسانة ثقافية وإعلامية متخلفة وأجهزة أمنية عملاقة، مستفيدة من كل الإنجازات «الحديثة» في هذا المجال،لانها حفارة قبرها.

وفي المكان نفسه (ص 113) يلاحظ الكاتبان، أو كاتب هذا الفصل، أن التحديث، بما هو عقلنة لوجودنا في العالم، وهو تشخيص سليم، قد أنيطت مهمة النهوض به( من أناط هذه المهمة؟)، ولو على مجتزأ وبالغ الإنتقائية، أما بالأقليات الدينية والعرقية، أو بموجات الإستيطان، أو بالغزوات الإستعمارية نفسها مضمون.

نجد أنفسنا هنا أمام تعميمات سريعة، وبالغة الخطورة أيضاً. فما هي الأقليات الدينية والعرقية التي أنيطت بها عملية التحديث، وفي أي بلد عربي، ومتى؟ من المعروف إن هناك شخصيات من الأقلية الدينية والعرقية نذكر منهم شبلي شميل وفرح انطون وسلامة موسى لعبت دوراً كبيراً في حركة التنوير العربية، وهي مجرد مشروع، لا يمكن ربطه بعملية التحديث التي يقول المؤلفان في مكان آخر( 112) أن الدولة هي حاميتها! ولا يمكن نسبة أقلية دينية أو عرقية إلى هذه الشخصيات، بالقدر نفسه الذي لا يمكن أن ننسب فيه الأكثرية المسلمة إلى محمد عبده وطه حسين وحسين عبد الرازق. ثم كيف قامت «موجات الإستيطان» بعملية التحديث، وأين؟ أما بالنسبة للغزوات الإستعمارية، فالأمر صحيح إلى حد بعيد فيما يتعلق بحملة نابليون، ومن الصعوبة بمكان الحديث عن عملية تحديث حقيقية قام بها الإستعمار في أمكنة عربية أخرى. لكن المؤلفان يتوصلان إلى إستنتاج ما يزال نافذ الصلاحية، وهو إن «الصلب المجتمعي، وتياره العريض والأكثري، يبقى من حيث المراحل الأساسية في تطوره محكوماً بهاجس القوة لا بهاجس التحديث، وبالسعي الذي لا يكل إلى إنجاز نصر عسكري». ويمكن أن نضيف إلى هذا التيار العريض شرائح كبيرة مما إعتدنا أن نسميها »الطليعة»، التي رفعت طويلاً شعارات التحديث والحداثة والمجتمع المدني، ثم جاءت حرب الخليج الأولى وغزو الكويت حربا الخليج لتكشف كم نحن مهووسون حتى بوهم القوة حتى لو جسده واحد من أبشع الجلادين.

وفي الجانب المجتمي، كما يذهب الكتاب، تبدو المراتب الوسيطة بين الفرد والسياسة، والتي من دونها لا توجد مجتمعات مدنية، إما غائبة تماماً أو غير ديمقراطية أصلاً. وهكذا «فالإتحادات المهنية والصحافية والنقابية تتراوح بين كونها صنيعة أنظمة إستبدادية وحكام إسبداديين، وكونها أكثر دولية وقومية من الدول، وأشد توكيداً على الجوامع السياسية والنضالية التي تجمعها ببعضها، مما على الفوارق السلكية والنضالية التي تجمعها ببعضها» ( ص16). وتترتب على هذا الوضع، إضافة إلى الجوالات الثقافية، نتائج بالغة الخطورة، وهي »إن مجتمعاتنا المدنية دائمة البحث عن عدو ودائمة التطلب له، وهي ترهص بأنظمة إستبدادية قد تعجز السلطات القائمة عن توفيرها أو تلبيتها!» وإذا كان الشق الأول من هذه المعادلة الصعبة مفهوماً، فإن الشق الثاني منه صعب على الفهم، أو فهمي أنا في الأقل.وهي تذكرنا بمقولة الفنان زياد الرحباني في مسرحيته الشهيرة «فيلم أميركي طويل« بأن المشكلة ليست في الزعماء« المساكين» ولكن في الشعب...».

وهذا يقود، حين يطبق المؤلفان هذا الإستنتاج على الصراع العربي الإسرائيلي، إلى إستنتاج أخطر، وهي إن الديمقراطية والسلام لا يسيران يداً بيد. «فالديمقراطية، في الحالة العربية الراهنة، مرشحة للعمل ضد السلام أكثر من أي شىء آخر، وتظهر التجارب الممتدة من مقتل الرئيس المصري إلى الإضعاف الشعبي الذي أنزلته العملية السلمية بالملك الأردني حسين، أن الأكثرية العربية الساحقة ذات ميل كاسح إلى التشدد ذي المصادر المتعددة التي لا يتسع المجال لها هنا..» إنه إستنتاج صحيح بالطبع، لكن بدون إلقاء الذنب على الديمقراطية المسكينة، التي لا يمكن إعتبارها بأية حال من الأحوال مصدراً من مصادر التشدد العربي، وإنما العكس هو الصحيح. فالتشدد، سياسياً وقومياً ودينياً وثقافياً، لا ينمو إلا في أجواء الخنق والقمع، ولا يلين إلا في أجواء ديمقراطية سليمة. وفيما يخص القضية الفلسطينية، فالشعور العربي الواسع بالغبن والظلم، هو هو سواء في ظل أنظمة ديمقراطية أو قمعية لا فرق. ومع ذلك، كما يقرر المؤلفان بحق، فإن هذه المشاعر، تجاه هذه القضية أو غيرها، إذا تركت على رسلها قد تلد ما ولده الغبن الذي نزل بالألمان في معاهدة فرساي، أو كاريكاتوراً له.

ما العمل، إذاً، لردأ التصدع العربي؟ يقدم صالح بشير في الصفحات الأخيرة من الكتاب تصوراً سليماً مختصراً لأسباب الصدع، والنتائج التي ترتبت عليه، وبالتالي إشارات تدل على طريق الخروج، مصححاً بعض المفاهيم الخاطئة التي تغلغلت في متنه: نحن لم نملك الدولة الحديثة بعد بمعناها الحديث، بوصفها «ذلك الخادم الإجتماعي»، لأن الدولة عندنا، ما عدا بعض الإستثناءات النادرة، غير محض سلطة. وإذا كنا قد فشلنا في تحقيق التقدم، وفي التنمية، وفي التعليم والصحة، وفي كل مناحي الحياة، فذلك عائد إلى إننا لم نعرف الدولة بعناها الحديث. وبكلمة أخرى، إن العصر العربي الموعود لن يبدأ قبل أن تحل الدولة محل السلطة..

* تصدع المشرق العربي

* المؤلف: حازم صاغية وصالح بشير

* الناشر: دار الريس ـ بيروت