محمود أمين العالم: تراوحت بين وجودية عبد الرحمن بدوي واشتراكية لويس عوض

TT

القاهرة: «الشرق الاوسط» يقول المفكر المصري محمود امين العالم عن رحلته مع الكتابة: ولدت في اليوم الثامن عشر من شهر فبراير (شباط) عام 1922 في حارة الكحكيين بحي الدرب الاحمر بالقاهرة ولا اذكر انني غادرت سكني في هذا الحي وحي الازهر عامة قبل ان ابلغ الثلاثين من عمري عندما تزوجت، وفيه كان تعليمي الاول في كتاب الشيخ السعدني في مدخل حارة السكرية عند بوابة المتولي بحفظ القرآن الكريم، وفي منطقة الباطنية عرفني صديقي على مكتبة من مكتبات شارع الازهر كانت تعيرنا ملازم مفرقه من بعض السير الشعبية لقاء ملاليم تقريبا، كنا نأخذ الملزمة نقرؤها ثم نعيدها ونأخذ الملزمة التي تتلوها، وهكذا، واذكر انني في هذه السن قرأت سيرة الاميرة ذات الهمة وعنترة وسيرة عمر العيار.

ولا تزال في نفسي من هذه السيرة اطياف بطولية لا تختفي، ثم تعلقت بعد ذلك في بداية مرحلة الدراسة الثانوية بقصص اللص المصري الشريف حافظ نجيب ثم بأرسين لوبين على ان اخطر ما اتاحه لي هذا الحي هو قربه الشديد من دار الكتب بباب الخلق، كنت اذهب اليه لاقرأ واستعير ما اشاء من الكتب وكنت اغامر كثيرا بالاطلاع على كتب لا احسن فهمها تماما، بل احيانا لا افهم منها شيئا، وكان يغريني بها عنوانها اساسا وكان اخي شوقي صديقا حميما لكامل كيلاني نقيب الادباء كما كان يلقب في ذلك العهد، وكان للكيلاني مكتب خاص في شارع حسن الاكبر غير بعيد عن بيتنا وكان اخي شوقي يصحبني معه في ذهابه الى مكتب كامل كيلاني، وما اسرع ما جعل مني كامل كيلاني معيارا للقدرة على قراءة كتبه وتفهمها وتذوقها وهكذا اصبحت أتواجد في مجالسه التي تضم ابرز الادباء من مصر ومن سائر البلاد العربية واقوم بقراءة بعض صفحات من كتبه، واعتقد انني قرأت كل ما كتبه ونشره كامل كيلاني في هذه المرحلة، ولم تتوقف قراءاتي من كتبه المتخصصة وانما امتدت لكتبه الاخرى التي كان يكتبها للشباب فضلا عن دراساته العلمية المتخصصة الاخرى عن ابي العلاء وابن الرومي، وعن طريقه عرفت لاول مرة شكسبير ويوكاتشو ومن طائفة الكتب الخاصة التي كانت موجودة في مكتبه كتاب تاريخ الفلسفة ترجمة احمد امين وزكي نجيب محمود وكانت قراءته تعميقا لتوجهي نحو دراسة الفلسفة.

واذكر في بداية حياتي السياسية انني ذهبت الى مقر الاخوان المسلمين في حي الحلمية والتقيت الشيخ حسن البنا واعجبت بهذا اللقاء الغريب في شخصيته وبين طربوشه المدني ودعوته الدينية، لكني لم اشترك في حركة الاخوان المسلمين لان فكري كان قد اخذ ينشغل بالفلسفة انشغالا جادا وبفلسفة نيتشه بشكل خاص، وكان ذلك بفضل بعض القراءات في مكتبة اخي شوقي، وبفضل مدرس اللغة الفرنسية مسيو دانييل والذي كان يحدثنا عنه رغم نذر الصراع بين هتلر وفرنسا في هذه السنوات قبل اندلاع الخرب العالمية الثانية 1939. وفي هذه المرحلة شكلت بالفعل مع عدد من الطلبة من مدرستي ومن مدارس اخرى مجموعة سرية اطلقنا عليها اسم «المجد الفرعوني» وكان للمجموعة برنامج اتذكر انه كان مزيجا من العداء للانجليز والدعوة للاصلاح والاهتمام بالرياضة وفقرة اخرى تنص على ضرورة اعداد لقاء كل عام وان نشرب في هذا اللقاء شايا ونأكل جاتوهاً. وفي كلية الاداب بقسم الفلسفة تعلقت بيوسف مراد ولويس عوض، وفي هذه الرحلة كنت اتراوح فكريا بين نتشوية ووجودية عبد الرحمن بدوي واشتراكية لويس عوض وان كنت ارى ان بدوي صب مفهومه للوجودية في قوالب ومقولات تجمد طبيعتها. وحتى الان مازلت في الطريق العاصف الذي بدأته منذ تلك السنوات البعيدة اتحرك في مساراته السياسية والفكرية والادبية قدر طاقتي ومازلت اتعلم واتجدد كل يوم وان اكون نافعا، واتمنى عندما تقترب ساعة الذهاب الاخير ان اكون قادرا على ما قاله كانط وهو على فراش الموت: هذا حسن ولكن هيهات لي ان ابلغ هذه المرتبة الرفيعة.