الخروج من نفق الكراهية حتى الموت.. والحب حتى التفاني

«مناضل» في منظمة «مجاهدي الشعب» الإيرانية يروي في مذكراته حكايات التحكم بالأفراد عبر الأفكار والاستبداد

TT

يبلغ مسعود بني صدر حاليا سن الواحدة والخمسين وهو حامل شهادة جامعية في ميدان العلوم وكان قد انتمى إلى منظمة «مجاهدي الشعب» التي كانت تعد واحدة من حوالي عشر منظمات خاصة بحرب العصابات والتي كانت تحارب الشاه في فترة الستينات والسبعينات.

كان لـ«مجاهدي الشعب» جاذبية خاصة لأنهم يمزجون ثيمات إسلامية مع أفكار يسارية أخرى وقد أصبح تنظيمهم شعبيا خلال الستينات مع شعاراته اليسارية التي تمكنت من جذب بعض المثقفين الإيرانيين بين فترتي الأربعينات والستينات. كان الشاه يسميهم بـ «الماركسيين الإسلاميين» وهذه تسمية وإن كانت غير دقيقة لكنها ليست بعيدة عن حقيقة هذا التنظيم.

ومع انفجار الثورة الإسلامية عام 1979 كان مجاهدو الشعب ينظر لهم على أساس أنهم ناكرون لذواتهم ومقاتلون عتاة للقضية التي يؤمنون بها بغض النظر عما تكون. وقاموا بقتل العشرات من الناس وهذا يشمل مسؤولين في البنوك وشرطة عاديين ورجال دين إقليميين والأكثر إثارة كان قيامهم بقتل العديد من التقنيين العسكريين الأميركيين الذين تعاقد الشاه معهم للعمل في إيران.

خلال الثورة عمل المجاهدون كطليعة للحركة المعرضة لنظام الشاه. وقاموا بمهاجمة الدبابات والمطاعم والمكتبات والسينمات وإحراقها إضافة إلى أمكنة «خطيئة أخرى». كذلك قاموا بقتل الكثير من ضباط الجيش والشرطة والجندرمة.

وطيلة فترة الثورة التي استغرقت أقل من سنة واحدة حتى تحقق النصر ظل مجاهدو الشعب ينظرون الى الامام الخميني كمثل سياسي أعلى. بل هم ابتكروا الشعار«الله واحد والخميني قائد»، وكان كل قادة مجاهدي الشعب مؤمنين بأن الخميني كبير في السن وضعيف وإنه لن يسعى للعب دور سياسي بعد الشاه.

حينما انتصرت الثورة كان طبيعيا أن يتوقع «المجاهدون» مقعدا في سدة الحكم. لكن مع حلول ربيع عام 1979 أصبح واضحا أن النظام الثوري الجديد لن يرفض فقط منح المجاهدين موقعا في الحكم بل أنه حتى يرفض إعطائهم دورا ثانويا إضافة إلى نظرته لهم كعنصر مثير للانزعاج.

تحت وطأة الشعور بالكبرياء أقنع قادة مجاهدي الشعب أنفسهم بأن الخميني «سرق» ثورتهم. وهم لم يتمكنوا من التسليم بأن قيادة الخميني والكاريزما التي يتمتع بها لا فظائع «المجاهدين» وراء تجنيد الجماهير الواسعة وضمان تحقق النصر للثورة.

بتوفر دعم بعض الحلفاء لهم داخل المؤسسة الثورية الجديدة خصوصا من رجل دين مشهور مثل محمود طالقاني اندفع «المجاهدون» في اتباع سياسة استفزاز ضد النظام الثوري الجديد مما أقنع الخميني أن الطريقة الوحيدة التي يمكن التعامل بها معهم هي بتدمير منظمتهم.

كان مسعود الصيد المثالي لمنظمة «المجاهدين». فطفولته كانت مضطربة محفوفة بطلاق والديه وزواج كل منهما ثانية. وكان أبوه وزوج أمه ضابطين في الجيش وكلاهما لم يظهرا أي عداء للشاه. مع ذلك فإن مسعود تربى في مناخ شكله عقدان من الدعاية المكثفة والمضادة للشاه من قبل أعداء النظام الكثيرين ابتداء من شيوعيي حزب تودة مرورا بالملالي وانتهاء بمنظمات حرب العصابات اليسارية. وجميعهم انخرطوا في بث ثقافة مضادة للشاه تستند إلى عدد من الأكاذيب، وتحريف الحقائق وأنواع الهلوسة المختلفة. وكانوا جميعا يحلمون بالثورة لا كوسيلة للتخلص من الشاه بل كوسيلة لمعالجة تناقضاتهم الداخلية.

وخلال الثورة طلب «المجاهدون» من مسعود أن يحب الخميني وأن يكره الشاه، وهو قام بذلك بإخلاص كبير. ويذكر في كتابه كيف أنه لم يكن قادرا على النوم بدون أن يلعن الشاه ويدعو للخميني.

لكن حينما اختلف «المجاهدون» مع الخميني أصبح آية الله نقطة الاستقطاب الأساسية التي يفرغون عليها كراهيتهم. وطلب من مسعود أن يكره الخميني وأن يبدأ بحب زعيم «المجاهدين» مسعود رجوي. وهو قام بذلك بدون أي تردد. وهكذا فجأة بدأ بلعن الخميني والدعاء لرجوي كل ليلة.

لم يعش مسعود بني صدر أحداث الثورة الإيرانية لذلك فهو يشعر كأنما هو قد تعرض للغش. لذلك كانت فكرة الثورة الثانية ضد الخميني، هذه الثورة التي ستعطيه الفرصة كيف يثبت مدى نكرانه للذات كمقاتل.

لاختصار ما كان مسعود بني صدر بحاجة إليه كي يمنح حياته معنى يمكننا وضعها في هذه النقاط:

مجموعة من الأكاذيب التي تجعله يؤمن بها وكأنها الحقيقة المطلقة. وهذه قد توفرت من خلال ما قدمه خصوم الشاه عبر سنوات كثيرة. وعبر نسخة جديدة منها يمكن لخصوم الخميني أن يسقطوها عليه. فالشاه قُدِّم وكأنه «عميل أميركي»، والآن حان دور الخميني لاتهامه بأنه على تعاون وثيق مع الأميركيين والبريطانيين.

شخص يُمنح كل التبجيل وآخر كل الكراهية. حتى عام 1979 كان الشاه قد أصبح الشخص الذي تصب الكراهية عليه بينما أصبح الخميني يمثل الرمز الذي يصب عليه كل الحب. لكن لاحقا أصبح الخميني رمزا للكراهية ورجوي رمزا للحب.

منذ عام 1977 وحتى انفصاله عن «المجاهدين» بعد ما يقرب من عشرين عاما ظل مسعود بني صدر سجينا لعالم متواز خلقته واحدة من أكثر الطوائف التي عرفها القرن الماضي من حيث القسوة. فبصفته عضوا في منظمة «مجاهدي خلق» أمِر بأن يحرق جميع كتبه وملاحظاته ووثائقه وهو من جانبه نفذ ذلك الأمر بحذافيره.

يؤمر «المجاهد» المثالي بعدم قراءة أي شيء غير مسموح له من قبل منظمة «المجاهدين» أو صادر عنهم. فهو لم يكن بإمكانه حتى قراءة القرآن بدون أن يطلب إذنا من المنظمة ويأخذ النسخة التي فيها شروح منظمة «المجاهدين» له. كذلك فإن «المجاهد» لا يذهب إلى السينما إلا إذا كان في مهمة تنظيمية; وليس بإمكانه أن يستمع إلى الراديو أو يشاهد التلفزيون إلا إذا كانت المحطات تحت سيطرة المنظمة، كذلك كان على العضو في المنظمة أن يتجنب تكوين أي علاقة بأي شخص من خارج «المجاهدين». وعلى أطفال «المجاهد» أن يتابعوا دروسهم في مدارس خاصة تسيطر عليها المنظمة نفسها.

الهدف من وراء كل تلك التقييدات هو عزل «المجاهد» تماما عن العالم الخارجي وقتل قدراته العقلية النقدية بشكل تدريجي. ويجب أن يصبح في نهاية المطاف ذا رؤية أحادية عن الوجود تمت صياغتها على يد «القائد الأعلى» مسعود رجوي ومساعدوه.

وفي مرحلة متأخرة أمِر «المجاهدون» الكف عن حب زوجاتهم أو أطفالهم لأن ذلك يقلص حبهم لرجوي. لكن ذلك لم يكن كافيا إذ أمر مسعود رجوي في نهاية المطاف أعضاء تنظيمه بتطليق شركاء حياتهم. وحالما خضع هؤلاء ونفذوا إرادته أصدر «القائد الأعلى» امرا لكل المجاهدين للتخلص من رغباتهم الجنسية الطبيعية. وكان هناك وكلاء خاصون يقومون بفحص عينات من بول «المجاهدين» للتأكد فيما إذا كان هناك أي إثارة جنسية متبقية. بغض النظر عما يعني ذلك. وفي مرحلة متأخرة أخرى من مسار «مجاهدي الشعب» أمِر الأعضاء الذكور بالتخلي عن المناصب العليا وتحويلها إلى زميلاتهم والقبول بتقدم النساء على الرجال.

في الوقت نفسه طلق مسعود رجوي زوجته الثانية التي هي ابنة أبو الحسن بني صدر الذي احتل منصب رئاسة الجمهورية لفترة قصيرة تحت سلطة الخميني. لكن القواعد التي يضعها رجوي للآخرين لا يخضع هو لها إذ أنه أمر مساعده الأول مهدي أبريشماتشي بتطليق زوجته مريم أزودانلو قاجار; فأطاع الآخر الأمر بدقة. وبعد أيام قليلة أعلن رجوي أنه تزوج مريم زوجة أبريمشاتشي المطلقة. وأمر «المجاهدين» بالاحتفال بهذه المناسبة باعتبارها حدثا ثوريا عظيما وحدثا تاريخيا. وهم بدورهم نفذوا ذلك بدون حماسة.

كانت الفكرة وراء ذلك هي إظهار رجوي بأنه الشخص الوحيد الخارج عن القوانين التي يسنها بنفسه، إنه رجل مختار من قبل الرب. لم يقبل «المجاهدون» فقط بما يريده رجوي بل كانوا يبذلون الجهود لتقييم ما قام به كتضحية من جانبه. فهو قد هرب من طهران إلى باريس متخفيا بملابس نسائية على ظهر طائرة مختطفة ثم قدم طريقة هروبه بأنه «أكثر الأفعال بطولة» وقد صدقه أعضاء تنظيمه. وحينما وقّع رجوي اتفاقا مع طارق عزيز الذي كان واحدا من مساعدي صدام الكبار لمساعدة العراق في حربها ضد إيران اعتبر «المجاهدون» ذلك «أعظم مبادرة وطنية».

ليس هناك حاجة للقول إنه لم يكن هناك أي إشكال بالنسبة لـ«المجاهدين» كي يحملوا السلاح ويدخلوا إلى إيران تحت جناح الجيش العراقي الغازي لقتل الإيرانيين وحرق قراهم باسم ثورتهم. وكان رجوي قد أخبرهم بأن يكرهوا أميركا لسنوات. لكن بعد عام 1983 راح يحث «المجاهدين» على القيام بكل ما يستطيعونه كي يكسبوا دعم واشنطن وهذا يشمل جمع المعلومات الاستخباراتية لصالح «سي آي أيه». وحسب القاموس الذي كونه رجوي أصبحت الخيانة تعني الوطنية، والحرية ليست سوى الطاعة العمياء للقائد. في نهاية المطاف حقق رجوي ما يعرفه أكثر من أي شيء آخر: بناء عبادة الفرد حول نفسه عبر طائفته. حينما وصل رجوي إلى قيادة «المجاهدين» سنة 1979 كان عمره 30 عاما وكان طالبا سابقا قضى ستة أعوام في السجن. وهو لم يمتلك تحصيلا علميا عاليا وتجربته السياسية محدودة على قيامه بعدة هجمات مسلحة على مواقع معزولة للجندرمة ومحاولة فاشلة لاختطاف السفير الأميركي في طهران. مع ذلك فإن عشرات الآلاف من الشباب الإيرانيين إن لم يكن مئات الآلاف منهم عبّروا عن ترحيبهم الكبير له وأكثر هؤلاء هم من خريجي الجامعات وهذا الترحيب ليس بصفته قائدا سياسيا بل كمنقذ.

بصيغة أخرى إنهم أولئك الشبان المتحمسون الذين كانوا سبب المشكلة لا رجوي. وكل ما قام به رجوي هو التوافق مع مثل شعبي إيراني قديم: إذا تصرف الناس كحمير فعليك فقط أن تركبهم! يبلغ مسعود بني صدر كاتب هذه المذكرات نفس عمر مسعود رجوي تقريبا. وهو أكثر تعلما من رجوي لأنه أكمل دراسته الجامعية وحصل على شهادة الدكتوراه وتعلم الإنجليزية. كذلك هو لديه خبرة سياسية عملية لأنه قام بتنظيم اتحاد طلابي وأدار نشاطات جمع تبرعات كثيرة وقام بحملات كسب تأييد برلمانيين بريطانيين وصحافيين وقادة اتحادات مهنية. مع ذلك فمسعود بني صدر ينظر إلى مسعود رجوي وكأنه إله. وهو مستعد للكذب والغش والخيانة بل وحتى القتل من أجل رجوي. لم يكن بني صدر لوحده في ذلك. فما يثير الانتباه أن أكثر كوادر «مجاهدي الشعب» يمتلكون تعليما وخبرة أكثر من رجوي. لكن رجوي قادر على أن يتلاعب بهم كالدمى. فهو يأمرهم يوما بتطليق زوجاتهم وهم ينفذون ذلك بدون أي احتجاج. وهو يطلب منهم أن يكرهوا أحدهم الآخر واستخدام لغة مسيئة ضد أقرب رفاقهم فينفذوا ذلك بهمة عالية. ثم يطلب منهم أن يبكوا أو يضحكوا بل وحتى أن يرقصوا من أجله فيقومون بكل تلك الفعاليات وكأنهم دببة في سيرك.

إذن: من هو سبب مشكلة الآخر؟ رجوي أم أولئك الذين ساعدوه على بناء ثقافة عبادته؟ فبفقدانه للتعليم تصرف رجوي وفق غريزته الحيوانية. فهو أدرك أن الثورة التي حلم بها الكثير من الناس، لكن قليلين كانوا فعلا يريدونها، قد أنتجت عددا كبيرا من الناس عديمي الجذور يبحثون عن يقين ما يمنحهم الاستقرار الداخلي.

كان رجوي ذكيا بما فيه الكفاية ليدرك أن الأفراد أصحاب التعليم الجيد هم الذين يمكن خداعهم في الأمور الكبرى. أما الفلاحون الأميون أو العمال شبه المتعلمين فيمكن خداعهم في الأمور الصغرى لكن لن يخدعوا أبدا في القضايا الكبيرة، وهذا قد يكون بسبب فقدانهم للمخيلة المطلوبة بتصديق أكاذيب كبيرة. على سبيل المثال، لم يكن هناك أي فلاح قد ذرف الدموع على ستالين حينما توفي عام 1953 بينما كتب الكثير من الشعراء الإيرانيين قصائد الرثاء للديكتاتور السوفياتي. ولم يشارك أي فلاح أو عامل حركة الخميني حتى أظهر الشاه أنه ما عاد قادرا على لعب دور الأب.

وخلال عام 1988 تباهى رجوي من أن «المجاهدين» هم المنظمة الوحيدة التي يشكل خريجو الجامعات الأغلبية فيها. وهو محق أكثر مما كان يتصور. فطائفته تحتوي على شعراء وكتّاب وفنانين ولاعبي كرة قدم وعلماء. ومن بين المبتهلين له حفيد الراحل محمد مصدق الرمز البورجوازي المعادي للشاه إضافة إلى وجود عدد من مستشاري الخميني السابقين وعدد كبير من المنشقين عن تنظيمات شيوعية إيرانية.

والآن ضع نفسك في موقع رجوي. أنت تواجه أناسا متفوقين عليك من حيث التعليم والتجربة ويأتون كل يوم ليصلوا لك باعتبارك معبودهم. إنهم يقولون إنك الأعظم والأذكى والأشجع والأجمل والأكثر مباركةً بين الجنس البشري. ماذا سيكون رد فعلك؟ إذا كنت متمتعا بروح دعابة فإنك قد تفكر بأنهم يضحكون عليك. لكنك إذا كنت تعاني من تضخم الأنا مثلما هي الحال مع رجوي فستشعر بأنك تقدم جميلا لهم حينما تسمح لهم بعبادتك.

خلال العشرين عاما من نشاطهم سبّب «المجاهدون» مقتل ما لا يقل عن ربع مليون إيراني. إذ قتلت فرق القتل والمهاجمين الانتحاريين مئات المسؤولين والزعماء الدينيين وشخصيات بارزة من نظام الخميني. وفي هجماتهم عبر الحدود على إيران من قواعد تقع في العراق، قتل «المجاهدون» عددا كبيرا من الإيرانيين الأبرياء. بالمقابل أعدم النظام الإيراني آلاف الأعضاء من منظمة «مجاهدي الشعب» ومؤيديها. تمكن مسعود بني صدر من الخروج من هذه المنظمة بعد ما يقرب من 20 عاما على انتمائه إليها. لكنه لم يتمكن من إخراج المجاهدين عن روحه. فهو ما زال يدافع عن المشروع الإجرامي الذي تتبناه منظمتهم ويعاني من صعوبة في إخفاء إعجابه المقيت بهذه الطائفة.

سيندهش القارئ من أن بني صدر يعتبر نفسه «عاشقا» لمريم رجوي زوجة الزعيم الثالثة لا على المستوى الجسدي طبعا، فهي قد تم تعيينها من قبل مسعود رجوي كرئيسة لإيران. هل ذلك لأن مريم تمثل رمز الأم التي ظل مسعود بني صدر يحلم بها؟ الشيء الأكثر أهمية هو أن بني صدر لم يتمكن من معالجة نفسه من مرض الحاجة لشخص ما يجب أن يكرهه بشكل غير عقلاني وهذا الشخص بالنسبة له الآن هو مسعود رجوي. أما الشخص الذي يحبه بدرجة مطلقة اليوم، حسب فهمي لمذكراته، فهو الدكتور مصدق. لحسن الحظ بالنسبة لبني صدر أن مصدق متوفى وبالتالي فهو لن يستغله مثلما حدث مع مسعود رجوي.

* مذكرات متمرد إيراني

* المؤلف: مسعود بني صدر

* الناشر: دار الساقي، لندن، 2004