أخلاق في عصر العولمة؟!

كتاب لأستاذ فلسفة مغربي يتناول إشكالية العلاقة بين الفلسفة والعلم والأخلاق

TT

قد يبدو السؤال وكأنه غير وارد لدى الكثير من الأذهان، أو هو لا يستحق نقاشا ولا يحتمل طرحا; بيد أن الامر خلاف ذلك لدى البعض الاخر، وهو أكثر جدية وعمقا لدى الفلاسفة وعلماء الأخلاق; وهذا على الاقل ما تلح بأسئلته قراءة عبد الرزاق الدواي، في مؤلفه الصادر أخيرا ضمن سلسلة المكتبة الفلسفية (1)، بعنوان: «حوار الفلسفة والعلم والاخلاق في مطالع الالفية الثالثة .

يغمرنا الشعور ونحن نتصفح الكتاب، ونتابع ما يطرحه من أسئلة ومعضلات أن الفكر الفلسفي يعود مرة أخرى الى عمقه ومنطلقه، وهو الانسان وقضاياه المصيرية في محيطه وسيرورته الواقعية، وكأننا نبعث من جديد دعوة سقراط في كامل تواضعها وعمقها لمعرفة الانسان; والمعرفة المطلوبة هنا، ليست بالضرورة في التركيز على التفكيك أو تحليل البنيات الفكرية والأنساق اللغوية، مما قد لا يغير واقعا عمليا رغم أهميته المعرفية ودلالته الانسانية، فذلك أيضا قد لا يمثل أكثر من مظهر لما يبدو، من ابتعاد الفلسفة عن الواقع اليومي للانسان، فيما يحيط به ويهدد مصيره المادي والمعنوي.

واذا كان الجانب الاخلاقي يبدو مرتبطا بالمعنويات قبل كل شيء، فإن تحليل الواقع المادي يفرض نفسه، كما تفرض نفسها أيضا مختلف الأطروحات النظرية الممهدة أو المصاحبة، في محاولتها لصياغة شمولية جديدة لسيرورة الكون والانسان، كما لعل مطالع الالفية الثالثة وظاهرة العولمة الراهنة تمثلها خير تمثيل; حيث لا يتردد الاخلاقي في عصر العولمة، كما يفعل الدواي في مؤلفه، في أن يسمها بالطوباوية، لعلها في ذلك تقارن بالكثير من مثيلات لها ونظريات على هذا المستوى المبشر بنموذج ما، عدالة ما أو رفاهية ما، وعلى نحو ما، للجميع ! بيد أن العولمة قد تبدو مخالفة لغيرها من تلك النظريات، فيما يرافقها من واقع علمي وتقني جد متطور، وغير مسبوق في تاريخ الفكر البشري; وإذا كان هذا المظهر المادي يقدم الدعم لأطروحة العولمة، فهو يفرض حوارا جديا على هذا الاساس العولمي العلمي بالذات، أي حوار الفلسفة والعلم والاخلاق ; ولا شك أن جوانب عولمية أخرى قد تتطلب نقاشا، قد يكون الجانب الاقتصادي في أولياتها وأهم مظاهرها وركائزها. لكن مناقشة هذا الجانب، وهي إن كانت لا تلتقي بقوة مع موضوع الكتاب من الناحية المنهجية، فإنها واردة ضمنا في التوجه العام، للعودة بالنظر الفلسفي الى ما يسمى الانسان في مظاهر حياته ونشاطه اليومي والاخلاقي بالذات، كما هي واردة في تناول العلاقة بين الفلسفة والسياسة.

لا شك أن المدخل الاخلاقي لمناقشة العلاقة بين الفلسفة والسياسة، يجعل المناقضة والتناقض بينهما أول ما يتبادر الى الذهن، والامر هنا قد يعود الى موروث ثقافي، كما قد يعود الى واقع وممارسة مؤداها أن السياسة لا تعرف الاخلاق، ولا تقوم على غير المصالح، مع أخطر ما في مفهوم المصالح هذا من غموض والتباس، وما يتحمله من مرونة فضفاضة زائدة عن كل معقول، بما يجعله لا يعني أكثر من مصالح شخصية أو فئوية، أو في أحسن الظروف، وهو أسوأها أخلاقيا في كل الاحوال، قد لا يعني ذلك أكثر من مصالح جماعية أو جمعية، على حساب نظيرتها من مجتمع انساني آخر، لذلك فان النظر الفلسفي الاخلاقي، يمثل معارضا للسياسة، من حيث المبدأ والتوجه.

بيد أن تطورا هاما حصل ويحصل في مجال العلاقات الانسانية، المحلية منها والدولية، وهو المتمثل في مفهوم الحقوق والحريات العامة والعدالة الاجتماعية. فهنا قد لا يصبح التعارض والتناقض بين الفلسفة والسياسة، إن كان واردا وضروريا بحكم حيوية الفكر الناقد المنتقد، أكثر من اختلاف ضمن المشروعية الديمقراطية، وبالتالي فان الحوار يجد مكانه ومكانته، ويستعيد دوره.

إن هذا الالتقاء بين الفلسفة والسياسة، وهو ليس لقاء صدفة، ولا وليد قيصرية منهجية، بل هو ثمرة تطور ايجابي، ونتيجة خبرة طويلة من تاريخ الانسانية، رسخت قيما في العلاقات والتعايش، كانت في القديم وبموازاة مع مراحل في التطور البشري على جميع المستويات، تعتبر من قبيل المثاليات الفلسفية; بينما أصبحت اليوم من أبجديات العلاقات الدولية ونظم الحكم في العالم، وهو ما يجعل الفكر الفلسفي الاخلاقي، كفيلا بأن ينير السبيل لما فيه خير الانسان والكون جميعا، في عصر عولمة ومطلع ألفية جديدة يتسم بالثورات والتطورات العلمية التقنية المتلاحقة في كافة الميادين، وبخاصة منها ما يتعلق بواقع الانسان، ويمسه على نحو مباشر في وجوده ومستقبله على السواء، مما يجعل الحدود تتقارب، أو تكاد تنتفي ما بين حوار يمس العلم والسياسة من جهة، والفلسفة أو الفكر الأخلاقي من جهة ثانية.

وغير خاف أن كافة ما يطرح من أسئلة بهذا الخصوص، لا يمكن أن يمثل هدفا في حد ذاته، وإلا لما استطعنا أن نكون مخلصين ـ كما أراد المؤلف ذلك ـ لاعتبارنا أن الفلسفة يمكن أن تستعيد مكانها ومكانتها، وأنها تؤدي مرة أخرى مثيل دورها في عصر الانوار، عصر تجديد العقل الحديث، وصنع النهضة والتقدم لخير الانسانية جمعاء، وربما تكون ظروف نجاحها اليوم أقوى وأكثر ; لذلك فان ارتباط الفلسفة في مطلع هذه الالفية، بقضايا الانسان الملحة والراهنة في مجالات العلم والتقنية والسياسة، منظور أخلاقي، إنما يسعى فعلا الى اعطاء أجوبة، إن لم تكن حاسمة ونهائية، فهي بكل تأكيد، محاولات عملية تشتغل بأدوات عصرها، بعيدة كل البعد عن معجم االغيبيات والمثاليات، محاولات تنفتح على مفاهيم العصر في الدمقرطة والمجتمع المدني وفي الرؤية المستقبلية للفكر الفلسفي المعاصر، لاتجاهات وشخصيات فلسفية، تبدو جديدة بالوقوف عندها، وحرية بالتأمل والتحليل.

* كاتب من المغرب