جندي أميـركي (5) ـ معنى التعامل مع 500 مليون نسمة .. ثلثاهم من الشباب العاطل والمتذمر .. والقابل لاستقطابات الإرهابيين

سلفي الجنرال زيني : المنطقة لن تصبح مستقرة ما لم تتحقق تسوية سلمية عادلة ودائمة بين إسرائيل والفلسطينيين * في أزقة مقديشو بالصومال تعرض الجيش الأميركي لواحدة من أسوأ هزائمه التي تركت انطباعا بأننا نمور من ورق

TT

نظرت الى اعلى خلال إطلاعي على الرسائل السرية التي كنت اضعها أمامي عندما انزلت سائقة شابة بسلاح الجو نافذتها وضغطت على ازرار رقم الدخول فانفتحت البوابة الحديدية السوداء ودخلنا الى المكان المخصص لوقوف السيارات داخل المقر الرئيس للقيادة الوسطى. كنت قد زرت مقر القيادة الوسطى في تامبا عدة مرات خلال فترة الثلاث سنوات التي قضيتها في مقر قيادة الجيش الاميركي، إلا ان صباح ذلك اليوم كان مختلفا، اذ طلب مني توني زيني الجلوس لمناقشة مستقبل القيادة. فخلال اقل من شهر من ذلك اليوم ستعقد جلسة مجلس النواب المخصصة لتأكيد تسلمي مسؤولية قيادة المنطقة الوسطى من زيني. يبدو المبنى من الخارج مثل أي بناية حديثة اخرى، إلا ان رجلي الشرطة العسكرية المسؤولين عن نقطة التفتيش، واللذين كانا يرتديان زيا مموها ويحمل كل منهما مسدسا عيار 9 مليمتر، لم يكونا بالطبع مدنيين. تبادلنا التحايا العسكرية وكانت لهجتهما ودية، لكنهما تفحصا بطاقتي العسكرية جيدا قبل ان يدون احدهما اسمي في سجل الزوار ، مع أنهما تعرفا علي تماما. هذا المبنى يضم بعضا من اكثر المعلومات الاستخبارية وتكنولوجيا الاتصالات حساسية في العالم. رافقني شاب من مساعدي توني زيني الى الطابق الثاني. أدركت مع مروري بأعضاء من مختلف اسلحة الجيش الاميركي وأنا في طريقي الى مكتب زيني بالفعل حجم المسؤولية التي انا مقبل عليها. فلأول مرة سأكون على رأس قيادة موحدة. وكما هو الحال مع القيادات العسكرية الاقليمية الاخرى، انشئت القيادة الوسطى بموجب قانون إعادة تنظيم وزارة الدفاع لعام 1986 . هذه القيادات ليست لديها قوات دائمة، لكنها تعتمد على الجيش وسلاح الجو والبحرية ومشاة البحرية وقيادة القوات الخاصة في تنفيذ مهماتها.

تفحصت لوحة تذكارية خشبية منصوبة في الممر منذ زيارتي السابقة، و تظهر عليها المنطقة الجغرافية التي تقع ضمن مسؤوليات هذه القيادة الوسطى، وهي منطقة ذات اهمية استراتيجية حيوية وغير مستقرة ايضا. فالقيادة الوسطى مسؤولة عن المحافظة على استقرار هذه المنطقة التي تشمل 25 دولة وتمتد من كينيا والقرن الافريقي الى الشمال عبر صحاري السودان ومصر والاردن عبر البحر الاحمر والخليج العربي لتضم العراق وايران وافغانستان وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق حتى الحدود الصينية، وتحتل باكستان اقصى الطرف الأيمن لهذه المنطقة. يقدر تعداد سكان هذه المنطقة بـ 500 مليون نسمة وتسكنها 18 مجموعة عرقية وعدد لا يحصى من القبائل. ويتبع السكان فيها كل الديانات العظيمة في العالم ، ويتحدثون سبع لغات اساسية ومئات اللهجات. ثلثا سكان هذه المنطقة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما ويعانون من البطالة والتذمر. وينظر خبراء الديموغرافيا الى هذا الوضع من زاوية النمو السكاني، إلا ان خبراء التخطيط العسكري والدبلوماسيين يعتبرون هذا الوضع مشكلة باعتبار ان هذا الشباب المتذمر ازاء الاوضاع ، يشمل في واقع الامر ملايين من الذين يحتمل ان يجري تجنيدهم كإرهابيين. اقتصاد دول هذه المنطقة يتسم بالتنوع والتباين والتغير. فقبائل الرحل الاريترية في القرن الافريقي ليست بعيدة عن امارات الخليج الغنية بالنفط. وفي منطقة آسيا الوسطى اصطدمت بقايا بريسترويكا الجمهوريات السوفياتية السابقة مع رأسمالية القرن الواحد والعشرين. تشتمل المنطقة التي تقع ضمن مسؤوليات القيادة الوسطى على اراض ومناطق تاريخية ومفترقات طرق تربط اوروبا وآسيا وافريقيا، فضلا عن 65 بالمائة من احتياطي النفط العالمي. عندما وصلت كان توني يتحدث في الهاتف مع الوزير كوهين. انتظرت خارج المكتب الذي يطلق عليه الطاقم اسم «غرفة غنائم الحرب». هذه الغرفة مؤثثة بسجاد آسيوي وبها طاولة عربية من العاج والنحاس وصناديق ذات واجهة زجاجية لمختلف انواع الاسلحة. غالبية المسدسات والبنادق الهجومية والاسلحة الرشاشة عبارة ان غنائم من ساحة المعركة، الكثير منها من «عملية عاصفة الصحراء»، إلا ان جزءا منها جاء الى توني كهدايا ، اما من قادة اجانب ، او ممن سبقوه في العمل في هذه القيادة. بعد ان انتهى من مكالمته الهاتفية حياني توني بحرارة وعلى وجهه ابتسامة عريضة. أشار في مكتبه الواسع الى خارطة للمنطقة التي تمتد عبرها مسؤولية القيادة الوسطى وقال لي معلقا: «هذه منطقتك الجديدة يا تومي ، انها منطقة خطرة».

القيت نظرة شاملة على الخارطة وتأملت خلال حديث توني في التاريخ الذي تضمه حدود هذه المنطقة. حرب ظلت تهدد استقرار السودان ومنطقة القرن الافريقي على مدى عقود. وفي ازقة مقديشو تعرض الجيش الاميركي عام 1993 لواحدة من أسوأ هزائمه، اذ ان ما حدث كان كارثة دموية جعلت ادارة كلينتون خائفة من الالتزام بتقديم أي قوات برية اميركية للمساعدة في دول المنطقة، كما تركت انطباعا بأننا نمور من ورق. وبالرغم من ان ليبيا واسرائيل جزء من منطقة «اهتمامنا» وليس منطقة «مسؤوليتنا»، فإنه لا يمكن بالطبع تجاهلهما. ليبيا دولة غنية بالنفط منبوذة يسيطر عليها معمر القذافي المتقلب. قال لي توني : «تومي، ستواجه الكثير من المصاعب في هذه المهمة ويتعين عليك القيام بالكثير من اللقاءات مع المسؤولين. غير ان الأمر يستحق مواجهة المصاعب عندما يكون بوسعك أن تلتقط سماعة الهاتف في تامبا وتتحدث مباشرة مع رئيس وزراء أو ولي عهد بالاسم الأول».

وتلك طريقة زيني في توصيل آرائه ، وهو الذي وصفته الصحفية دانا بريست ذات مرة واعتبرته «قائدا رومانيا عصريا، سليل رجل الدولة المحارب الذي حكم المناطق البعيدة التابعة للامبراطورية العثمانية». وبالفعل كان ذلك هو الرجل الذي شاهدته في ذلك اليوم في مكتبه. رجل دولة كان يعرف ويفهم زعماء هذه المنطقة وكان متلهفا لمشاركة الآخرين آراءه بشأنهم. من جانبي كنت قد التقيت ببعضهم ، ومنهم الرئيس المصري حسني مبارك وملك الأردن عبد الله. ولكن لم تكن لدي معرفة مباشرة بالزعامات في آسيا الوسطى. ولهذا كنت أصغي بانتباه لما يقرب من ساعة، بينما كان توني يصف النخبة السياسية والعسكرية بجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق اليتيمة. وبطريقته المباشرة والصريحة طرح رأيه بالتهديدات والتحديات التي سنواجهها في السنوات المقبلة. وواصل ليقول لي : ان المنطقة لن تصبح مستقرة ما لم تتحقق تسوية سلمية عادلة ودائمة بين اسرائيل والفلسطينيين.

وفكرت ان تبعات ذلك الحدث ليست جيدة ما لم تتخذ الولايات المتحدة موقفا جديا في إطار الوساطة لتحقيق الاتفاقية.

ووجه توني انتباهه الى العراق. وناقشنا مذبحة صدام بحق ما يقرب من 300 ألف من الشيعة وحالة منطقة حظر الطيران وكذلك نجاح النظام في تهريب النفط. وكان رأي توني ان سياسة الاحتواء التي نتبعها تفعل فعلها. واتفقت على اننا «نحتوي» ما يحدث داخل العراق في إطار حدوده. والمشكلة كانت بالنسبة لي هي اننا لم نكن نعرف بما فيه الكفاية الأوضاع هناك.

فبعد أن أرغم مفتشو الأمم المتحدة على مغادرة البلد عام 1998 أعلنوا ان صدام ربما كان قد انتج وأخفى آلاف الليترات من الأنثراكس والبوتيولينوم بكميات أكثر مما يكفي لقتل كل البشر على الأرض.

* الأمير عبد الله قال لي: يمكن أن يكون لأميركا العديد من الأصدقاء ولكن إسرائيل تقسمنا وإذا لم يتحقق السلام فالإرهاب سينتشر

* قلت: يشرفني لقاؤك يا صاحب السمو.

كانت مصافحة ولي العهد الامير عبد الله لي قوية، وعيناه مشرقتان. قال: كيف حالك، جنرال؟ وكيف حال الرئيس؟

الامير عبد الله سياسي متمرس، يوازن بحذر بين موقعه القيادي في أكبر المواقع الاسلامية قداسة، وفي بلد يملك اضخم احتياطات النفط في العالم، فالعالم الصناعي يحتاج للنفط السعودي.

وعلى العكس من دول الخليج، التي تعتمد صداقتها مع الولايات المتحدة على احترام متبادل، فإن علاقة السعودية مع الولايات المتحدة معقدة ولا تخلو من توتر.

وبعد تبادل التحيات الرسمية، كشف ولي العهد عن وجهة نظره بخصوص إحكام اسرائيل لسيطرتها على القدس، وهو الامر الذي يعتبره تهديدا للمسجد الاقصى، وهو ثالث الاماكن المقدسة.

واضاف الأمير قائلا: ان الانباء التي تشير الى ان اميركا ربما تفتح، اخيرا، سفارتها في القدس، مزعجة. وهو يعني الاعتراف الرسمي بالاحتلال الاسرائيلي الكامل للمدينة المقدسة.

من جانبي سبق أن تم اطلاعي على هذا الموضوع، ولكني كنت جديدا على المجال الدبلوماسي، ولم اكن معتادا على الحديث بطريقة منمقة.

قلت: سيدي ان موقف الولايات المتحدة هو دعم السلام بين اسرائيل والفلسطينيين والرئيس يعمل بلا كلل على استئناف المفاوضات.

قال الأمير عبد الله: يمكن ان يكون لاميركا العديد من الاصدقاء في العالم الاسلامي، ولكن اسرائيل تقسمنا. واذا لم يتحقق السلام فإن الارهاب سينتشر حول العالم.

قلت: يا صاحب السمو، الارهاب ينتشر مثل السرطان. يمكن ان نعمل جميعا من أجل وقفه، اميركا والسعودية. ومد يده للأمام بما يعني القبول، ثم ابتسم قائلا: نطلب من الله الحكمة والسداد. وانا متأكد اننا سنعمل معا لوقف انتشار الارهاب.

قلت: اعلن التزامي بأن اصبح صديقك وشريكك. وانتهكت قواعد البروتوكول ومددت يدي للمصافحة.

* .. ومعنى العمل في منطقة .. اليقين الوحيد فيها هو اللا يقين

* حدقت في الخارطة، موجها سؤالي لزيني : ماذا بشأن أفغانستان ؟

قال لي زيني : «دولة تعاني من الإخفاق، فقد أعادت طالبان عقارب الساعة الى العصور المظلمة. أفغانستان هي ملاذ القاعدة. وقد دمرنا بعض معسكرات التدريب عام 1998، ولكن المجندين الارهابيين من جميع انحاء العالم الاسلامي يواصلون التوجه الى هناك».

قلت : «ما هو الشيء الآخر الذي يمكن أن أشعر بالقلق بشأنه ؟» قال : «أتمنى لو انني استطيع ان اخبرك» أجاب توني باسطا يديه ومضيفا: «ستجد ان صورتنا الاستخباراتية عن المنطقة محزنة الى حد ما. وهذا هو سبب آخر لأهمية المشاركة. فنحن بحاجة الى أصدقاء هناك يمكنهم أن يعطونا الصورة الحقيقية. فأنا أود أن اعرف الكثير حول ما يجري في العراق وحول أسامة بن لادن والقاعدة. ولكن الحقيقة هي انني لا أعرف». وهز رأسه قائلا : «تومي لا تندهش اذا ما لم تكن القيادة الوسطى التي تقودها هي القيادة نفسها التي توليت انا قيادتها. فاليقين الوحيد في هذه المنطقة هو اللايقين».

لذلك ، وبينما كنت متجها الى مهبط الطائرات للحاق بطائرتي متجها الى أتلانتا كانت كلمات توني ترن في أذني: اليقين الوحيد في هذه المنطقة هو اللايقين.

وفي احدى الأمسيات وبينما كنت جالسا وراء منضدتي أفكر وأنظم الملفات وأتفحص أوراقا قديمة، وجدت بالصدفة قصيدة كتبتها عندما كنت ضابطا شابا طموحا عام 1971:

* امنحوني فرصة واحدة للتأثير في مجرى التاريخ..

والبصيرة لتوقع تلك الفرصة..

والقناعة في التخطيط لها..

والثبات لتنفيذها..

والمرونة لتغييرها عندما لا تنفذ..

والولاء للنفس من أجل الاعتراف بالهزيمة..

والتواضع الذي يدين للنصر..

والتماسك من أجل المواصلة ..

وابتسمت وأنا أقرأ الكلمات التي كتبتها قبل ما يزيد على ثلاثين عاما، وتذكرت القول المأثور «كن محترسا في ما تتمنى». فالزمن سيكشف عن ذلك.

ومباشرة بعد تغيير القيادة في يوليو التقيت بقادة القيادة الوسطى: الجنرال بي تي ميكولاشيك، الذي جاء بعدي في القيادة الوسطى للجيش الاميركي، ونائب الأدميرال ويلي مور قائد البحرية، وقائد القوة الجوية الجنرال تشوك والد، والجنرال فرانك ليبوتي من فيلق البحرية الاميركي، وقائد البحرية في القيادة الوسطى، وقائد العمليات الخاصة العميد في البحرية بيرت كالاند. وكانوا قادة مقتدرين ممن خدمت معهم لسنوات. وبينما كنا نظراء فقد اصبحت الآن رئيسهم «الشيخ». ولكنهم ظلوا اصدقاء. وقد عملنا في ذلك اليوم في اجندة طويلة تضمنت الارهاب، ونشر اسلحة الدمار الشامل، ومناطق حظر الطيران في العراق، والحظر الملاحي، والتفاصيل الشائكة لترتيبات الاتفاق مع معظم الدول في المنطقة المعينة.

وفي وقت مبكر من يوم العاشر من يوليو اجتمعت مع مدير العمليات المشتركة جنرال سلاح الجو ساندي ساندستروم ومدير الاستخبارات المشتركة الجنرال كيث الكساندر لمناقشة خيارات الرد على الاستفزازات العراقية. فلو ان العراقيين، في ذلك الوقت، أطلقوا النار على طائرة تابعة لقوات التحالف ، فالرد سيكون مهاجمة أنظمة الدفاع المشاركة في إطلاق النيران، أي المدافع أو قواعد إطلاق الصواريخ أو أجهزة الإرسال او الرادارات.

وأبلغت ساندي وكيث قائلا انه «يبدو لي اننا سنحقق مزيدا من القوة والنفوذ اذا ما كان رد فعلنا على نحو غير مماثل». وبكلمات أخرى بدلا من مهاجمة مدفع او قاعدة لإطلاق الصواريخ قد يكون من مصلحتنا أن ندمر بنية القيادة والسيطرة في ذلك القطاع.

قلت : «ذلك قد يجعل العراقيين يفكرون مرتين قبل إطلاق النيران على طيارينا الشباب».

ومنذئذ كانت القيادة الوسطى تضغط على بيروقراطية واشنطن من أجل رد فعل أكثر حركة (وهو تعبيرنا العسكري عن استخدام النيران المهلكة)، وأكثر مفاجأة وأكثر بعدا عن التماثل على الانتهاكات العراقية في مناطق حظر الطيران.

ودعم بيل كوهين وهيو شيلتون هذه الطريقة الجديدة ، فبدأ طيارونا تقليص قدرات العراق الدفاعية. ولكننا كنا نعرف أننا لن نزيل التهديد لطيارينا الى أن ندمر مواقع القيادة والسيطرة ومواقع الرادار التي تنتشر في بغداد ومحيطها. وقد فعل توني زيني ذلك في عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998، ولكن تلك الدفاعات أعيد بناؤها مباشرة تقريبا. وكلما فكرت بالموضوع كثيرا اقتنعت بأننا بحاجة الى سياسة جديدة بشأن العراق.

كنت أعرف انه أيا كان الفائز في انتخابات نوفمبر المقبل فانه ستكون هناك زعامة جديدة في البيت الأبيض في يناير المقبل. ولهذا طلبت ابتداء من السابع عشر من يوليو من العاملين معي اعداد خيارات سياسية بشأن العراق، يمكن ان نقدمها الى الادارة الجديدة بعد الانتخابات مباشرة.

وأشرت الى انه «يبدو لي ان لدينا ثلاثة اتجاهات عمل محتملة». الأول يتمثل في الحفاظ على الوضع الراهن عبر الاستمرار في مراقبتنا مناطق حظر الطيران، ومنعنا عمليات تهريب النفط عبر البحر مما يشكل انتهاكا لقرارات الأمم المتحدة. وقلت «ذلك هو احتواؤكم الأساسي».

أما الخيار الآخر فيمكن أن يكون التصعيد الدولي باستخدام ردود قوية ومفاجئة على الاستفزازات العراقية في مناطق حظر الطيران أو في البحر. وبالطبع يوجد بديل ثالث: وهو ببساطة التراجع، وترك الموقف في العراق يتطور.

وقلت لفريقي: «لا نعرف أي اتجاه يمكن لإدارة جديدة ان تقودنا إليه. ولكن الآن هو الوقت المناسب لإعداد البدائل».

وبعد 4 ايام التقيت مع الكولونيل غاري هاريل بالجيش، الذي كلفته العمل مديرا للشؤون الأمنية المشتركة في القيادة الوسطى بعد التوصية عليه من قبل صديقي ، منذ فترة طويلة ، الجنرال بيت شوماخر، الذي كان قائدا انذاك لقيادة العمليات الخاصة. وكان غاري على قائمة الترقية لرتبة بريجادير جنرال ، ولديه سنوات من الخبرة في وحدات المهام الخاصة التابعة لقيادة العمليات الخاصة. ومنذ منتصف التسعينات، عندما بدأت التهديدات الارهابية ضد الولايات المتحدة في المنطقة تتزايد، تولى المنصب ضابط شرطة عسكرية. ولكني كنت اريد ضابط عمليات خاصة في هذا المنصب، شخصا يفكر كجندي يطلق النار ويمكنه أن يفحص نقاط الضعف في تسهيلاتنا من وجهة نظر الرجل الذي ينظر من الخارج الى الداخل.

وقد اثبت ذلك انه قرار صائب. وفهم غاري الارهاب خلال عمله في كقائد للوحدات الأمنية المتحركة في مقديشيو بالصومال، في عام 1993 خلال المعارك الوحشية التي اشتهرت وظهرت في كتاب وفيلم باسم «سقوط البلاك هون». وقد طور إجراءات حماية لقيادات وقوات القيادة الوسطى، وهو الامر الذي سيؤدي في السنوات الثلاث القادمة، الى انقاذ حياة مئات الاميركيين.

وفي كل يوم تقريبا كنت اتحدث مع قيادات مدنية وعسكرية اجنبية في المنطقة، وكنت استوعب قلقهم وأتعلم الطريقة التي يفكرون بها.

وبحلول يوليو 2000 كانت حدود الافق قد اختفت. ففي قمرة الاستخبارات في هذه الطائرة المخصصة لي يمكنني دراسة صور الاقمار الصناعية لأي مكان تقريبا في البر والبحر في العالم. والتحدث الى من شئت في كل العالم، وهو ما لا يمكن للقائد الروماني سكورس الذي عبر الشرق الاوسط في القرن الاول قبل ميلاد المسيح تخيله. ومثل سكوروس، كان علي ممارسة العديد من الشؤون الدبلوماسية المتعلقة بأمور الدولة. فلجأت للقراءة خلال الليل وخلال جولات تدريبية في ألمانيا، وفي خيام في الصحراء السعودية، وفي سلسلة من غرف الفنادق، فقرأت الكثير حول الحرب والسلام، والحكم المتراكمة على ألسنة تزو وكلاوسفيتس وبرتراند راسل وغاندي.

والأمر الذي بدأ يتضح تدريجيا في ذهني هو ان الحرب تشمل سلسلة من التفاعلات بين الامم والأحزاب والقبائل. وعبر هذه السلسلة، ادركت وجود خمس حالات من التفاعل.

ففي أحد طرفي هذا المنظور يوجد (النزاع ) كحالة أولى حيث تتقاتل القوات المسلحة لدولتين او اكثر كناتج لأزمة، وهي حالة من التوتر الغاضب بين خصمين ، يعقبها (التعايش) كحالة ثانية، في مقابل (تغلب دول معادية او قبائل على عداواتهم لكي يعيشوا جنبا الى جنب) كحالة ثالثة. و(العمل المشترك) كحالة رابعة ، وهو محاولة تعمل من خلالها الاطراف نحو مصلحة مشتركة. واخيرا، (التعاون) وهو اكثر العلاقات ايجابية ، فالحدود المفتوحة مشاريع حكومية وتجارية مشتركة تحفل بتناسق وتقدم.

أعرف أني ولدت في عام 1945، بالقرب من نهاية اعظم النزاعات في التاريخ. وخلال حياتي، فإن معظم المشاركين في الحرب العالمية الثانية، انتقلوا من طرف الى آخر من النزاع الى التعاون. وفي كل نقطة من المنطقة التي كنا نشاهدها من الطائرة فوق البحر المتوسط كانت الدول تواجه نزاعات او ازمات ، او في افضل الأحوال التعايش. وكانت مسؤولياتي هي مساعدة تلك الدول على الانتقال من طرفي المنظور: من الأزمة الى التعايش. ولم اكن اعرف احتمالات نجاحي. ولكني كنت مصمما على المحاولة.