السلام المفقود (17) ـ فكرة وصاية منظمة المؤتمر الإسلامي على الحرم

روس: قلت لعريقات: ستكون تلك الفكرة أسوأ بالنسبة للإسرائيليين من تولّي الفلسطينيين للسيادة

TT

ركّزت في البداية مع الفلسطينيين، صائب عريقات ومحمد دحلان ومحمد رشيد ـ على حل قضيّة الحرم أكثر من التركيز على ما قد يكون في وسعهم القبول به عموماً. وبشأن الحرم، قلت لهم إنّه يتوجب على عرفات إما القبول بأحد الخيارات الأربعة التي قدمتها له أو التقدم بعرض جديد ومعقول.

عندما عرض صائب عريقات فكرة أن تقوم منظمة المؤتمر الإسلامي وليس الفلسطينيون بتولّي السيادة على الحرم، أبلغته بأن ذلك أسوأ بالنسبة إلى الإسرائيليين من تولّي الفلسطينيين لتلك السيادة. فبوجود بلدان مثل إيران والعراق وليبيا كأعضاء في منظّمة المؤتمر الإسلاميّ، لن يكون لدى إسرائيل أي تفسير أو ضمانة بشأن حماية المصالح الإسرائيلية. ولأنّني أعرف صائباً جيداً، ساورتني الشكوك في أن عرفات هو من طرح تلك الفكرة وأنه يأمل في جعلنا نتكيف معها.

قدم جورج تنيت لكي يتحدّث إلى عرفات ودحلان بشأن القضايا الأمنية. طلبت من جورج أن يُسقط فكرة منظمة المؤتمر الإسلامي عندما يلتقي بعرفات مساء اليوم الذي يسبق اجتماع الرئيس كلينتون بالرئيس الفلسطيني. لم يثر عرفات تلك الفكرة معه، وأبلغه جورج بصراحة أنّها لا تمثل نقطة بداية. وقال له أيضاً إذا لم تعمل على حل قضية الحرم مع الرئيس في اجتماعهما، فإنّه لا يرى أملاً كبيراً في عقد قمة أو اتفاق قبل نهاية فترة ولاية الرئيس.

كنت آمل بأن أقنع عرفات بأن عليه اتخاذ قرار بشأن هذه القضية الآن وأن يبلغه بشكل شخصيّ إلى الرئيس على الأقلّ إذا كان يريد منّا أن نتدخل. قام جورج بعمله، لكنّ الرئيس لم يفعل ما يجب في هذه الحالة. فعلى الرغم من أن الجهود التي بذلناها في إقناع عرفات بأنّه يجب أن يكون على استعداد لمحاولة حل قضيّة الحرم إذا كان يريد من الرئيس أن يتدخّل، لم ينقل الرئيس كلينتون تلك الرسالة أثناء لقائه مع عرفات. وعلى العكس من ذلك، عندما أثار عرفات كما كان متوقّعاً فكرة سيادة منظمة المؤتمر الإسلامي على الحرم، اقترح الرئيس أن ننظر في خيارات أخرى، مع إشارته إلى أنها لن تنجح على الأرجح. وبدلاً من أن يقول لعرفات إنّنا وضعنا خيارات قابلة للتنفيذ - وهي خيارات وجدها المصريون أيضاً قابلة للتنفيذ- وأن الكرة في ملعبه وأن عليه الرد عليها أو اقتراح شيء معقول حقّاً إذا كان للولايات المتحدة أن تستمر في بذل جهودها، أعرض الرئيس عن مواجهة عرفات.

لماذا؟ لم يكن السبب عدم إطلاعه على ما جرى. فقد قلت أنا وجورج للرئيس، قبل اجتماعه بعرفات، إنه على الرغم من الجهود التي بذلناها لإبطال فكرة منظمة المؤتمر الإسلامي التي اقترحها عرفات، فإنّنا نرجح أن يثيرها ـ وينبغي على الرئيس أن يقول لعرفات دعك منها. لم يتجاوب الرئيس كلينتون معنا ولم يرفض فكرة عرفات صراحة بهذا الشأن. واختار بدلاً من ذلك مبدأ اللين لأنه إذا كان عرفات يعرض بديلاً عن السيادة الفلسطينية ـ حتى وإن لم يكن عرضاً مقبولاً ـ فإن علينا اعتبار ذلك بمثابة انفتاح. ومع مرور الوقت يمكننا إيجاد حل دولي ما يمكن لعرفات وباراك القبول به، والرئيس يريد إبقاء الكرة في الملعب إلى أن تحين تلك اللحظة.

لم أكن وجورج تينيت سعيدين باتباع هذا النهج، فتجربتنا مع عرفات علّمتنا أنه سيعتقد أن في استطاعته الحصول على اتفاقية غير واقعية بشأن الحرم/جبل الهيكل. أضف إلى ذلك أن الرئيس وصل إلى حدّ القول لعرفات ألاّ يأبه للحديث الفظ الذي سمعه من جورج ومنّي كل على حدة; وأنّ تهديداتنا له بعدم التدخّل ثانية يمكن تجاهلها بأمان. ومع أن الرئيس كلينتون كان غاضباً من عرفات في كمب ديفيد، فقد ظل مقتنعاً بإمكانية تغيير موقف عرفات وأنّ من الخطأ حشره في الزاوية. قبل قمة كمب ديفيد، كنت أكثر انفتاحاً على مقاربة عرفات على طريقة الرئيس، وخصوصاً بعد رؤيتي لكيفية تعامل باراك معه. لكن بعد كمب ديفيد، عاد عرفات، الذي لا يتخذ القرارات إلا عندما يشعر بأنه لم يعد أمامه أي خيار، وعندما يرى أنّ القطار سيغادر بدونه، إلى التركيز بحدة عليّ. وبتّ مقتنعاً بأنّ الفرصة الوحيدة لزحزحة عرفات هي إقناعه بأنه على وشك خسارة فرصته التاريخية لإنهاء النزاع وإقامة دولة مستقلة قابلة للعيش. ولهذا السبب، ينبغي أن يعرف عرفات بأنّنا لن نبتعد بكل بساطة، وأن الإسرائيليين لن يلاحقوه به. وبالإضافة إلى ذلك، على مصر أن توضح له أنّه يوشك أن يخسر فرصته، وأن ما من أحد سيغفر له ما فعله.

* دخول مصر.. ومحاولة جديدة لنفخ الروح في ميراث القمة الفاشلة

* أخذت طائرة خاصة قاصداً الإسكندرية، ومن هناك، جرى اصطحابي في رحلة دامت ساعة إلى منتجع جميل مطلّ على البحر المتوسط، حيث كان لموسى منزل يقضي عطلاته فيه. كان يتحلّى بصفات أي منتجع ساحلي مزدهر: شقق سكنية، ملاعب تنس بعيدة عن الماء، ومنازل فخمة للغاية تطل على الشاطئ.

كان جمال هلال يصطحب أسرته إلى هذا المنتجع في أغسطس (آب) من كل عام، وقد رحّب بي خارج منزل موسى; كان يبدو أسمر البشرة ومسترخياً. قال لي إنّ «المصريين يدركون أنه توجد فرصة حقيقية وهم على استعداد للقيام بما يتوجب عليهم; وهم على اتصال بكل من الإسرائيليين والفلسطينيين، كما أن إسرائيل حسون زار المصريين في الأيام القليلة الماضية».

أوجزت لموسى ما في أيدينا من قضايا، وما اعتقدتُ أنه يمكن أن يفعله كل طرف، وأهميّة التوصّل إلى حلّ جوهر القضيّة: الحرم/جبل الهيكل. بسط موسى خريطة كبيرة للقدس وانكببنا عليها; وصفت المنطقة المحيطة بالحرم، وبوابة المغربي المؤدية إلى المنطقة من ناحية الكوتل (حائط المبكى والساحة العامة التي أمامه)، والمكان الذي يلي بوابة المغربي مباشرة، حيث يأمل الإسرائيليون أن يكون اليهود قادرين على تأدية الصلاة فيه أيام العطل الدينية القليلة، وهي مناطق يمكن أن يكون لعرفات مدخل منفصل إليها يؤدي إلى الحرم، إلخ.

كان موسى يشعر بأن قضيّة الحرم هي النقطة الفعلية العالقة بالنسبة إلى عرفات. وفي كمب ديفيد لم نجرِ مباحثات جدّيّة قطّ بشأن الخيارات المختلفة المتعلقة بالحرم/جبل الهيكل. ومنذ تلك القمة فكّرت كثيراً في البدائل المختلفة وعرضتها الآن على موسى:

* إزالة موضوع السيادة كقضية. ففي هذا المكان الفريد، إما أن تكون السيادة لله أو لا تكون ذات صلة. يحصل الفلسطينيون على المسؤولية في المنطقة ويضمنون عدم ظهور أي تهديد من سطح الحرم إلى الساحة العامة في الأسفل، حيث يؤدي اليهود صلواتهم عند حائط المبكى. ويتولّى الإسرائيليون مسؤولية حائط المبكى والأنفاق الممتدة على طول الحائط الغربي.

* إعطاء الفلسطينيين السيادة على المساجد، قبة الصخرة والأقصى

* وإعطاء الإسرائيليين السيادة على الحائط الغربي، مع نظام دولي يحكم مسألة التنقيب، إما من السطح أو من وراء الحائط، على أن تقتصر سيادة كل من الفريقين على المواقع الدينية الفعلية، فلا تشمل المناطق الحدودية التي تشكل هذه المواقع جزءاً منها. وبهذه الطريقة تحصل المساواة بين المواقع الدينية وينال كل طرف السيادة على ما هو مقدّس بالنسبة إليه.

*إيجاد مصطلح غير كلمة «سيادة» لشرح علاقة كل طرف بالمواقع المقدّسة بالنسبة إليه. يمكن القول مثلاً إنه سيكون للفلسطينيين ولاية قانونية على الحرم في حين يكون للإسرائيليين ولاية قانونيّة على الحائط الغربي والمنطقة المقدسة المتصلة به.

شعر موسى بأنه يتعين أن يكون الفلسطينيون قادرين على استخدام كلمة «السيادة»، كما تنطبق على الحرم. واقترح بأن يحصل الفلسطينيون على «الولاية القانونية السيادية» على الحرم، ويحصل الإسرائيليون على «الولاية القانونية السيادية» على حائط المبكى. قلت له إن حائط المبكى ليس سوى قسم صغير من حائط دعم الهيكل وأن الحائط الغربي هو الذي ينبغي أن يحصل الإسرائيليون على السيادة عليه. كما أثرت احتمالاً آخر: ماذا لو لم نتطرق إلى الحائط وأعطينا الفلسطينيين السيادة أو الولاية القانونية السيادية على الحرم وأعطينا الإسرائيليين ما يكافئ ذلك على الحيّ اليهودي والأماكن المقدسة لدى اليهود، المتصلة بذلك الحيّ؟ ستسمح هذه الصيغة لكل طرف بالادعاء بأنه يملك السيادة أو الولاية القانونيّة التي يحتاج إليها.

مع استكمال نقاشنا حول الحرم، أعطاني موسى ورقة أعدها مع فريقه، وتتناول مشكلة الحدود واللاجئين والأمن. كانت تلك الورقة مثيرة للاهتمام من حيث أنها تمثل جهداً مصرياً لإيجاد معايير مقبولة لاتفاق يتناول هذه القضايا. كما أن المصريين يجرون محادثات مستمرة مع الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد بدا واضحاً في الأسابيع الثلاثة التي تلت القمة أن هناك سيلاً من الإسرائيليين يأتون إلى مصر لمقابلة مبارك وموسى وأسامة الباز وعمر سليمان، رئيس الاستخبارات المصرية.

قال لي موسى إن الورقة هي حصيلة المباحثات التي أجراها المصريون مع كلا الجانبين. وبما أن المصريين وضعوا معايير في الورقة، فلم أكن أتوقّع أن يبتعدوا كثيراً عن النقاط المجمع عليها في العالم العربي بشأن كيفيّة حل هذه المسائل. وبالتالي لم أتفاجأ برؤية الورقة المصرية تميل لصالح المواقف الفلسطينية. لكن ما اعترضت عليه أنّ الورقة حاولت الاستناد إلى أكثر المواقف تقدّماً التي سمعوها من شخصيات إسرائيلية ـ مواقف لم نسمع بها قطّ على لسان باراك أو أي من أعضاء فريق التفاوض الإسرائيلي. على سبيل المثال، أكّدت الورقة على أن أحد الإسرائيليّين قال إن إسرائيل يمكن أن تنسحب من 94 في المئة من الأراضي وتعرض مقايضة فوق كل ذلك. كنت أعرف ما الذي انتزعناه في كمب ديفيد (91 في المئة من الأراضي ومقايضة 1 في المئة) ولذلك لا يمكن اعتبار نسبة 94 في المئة، إضافة إلى المقايضة موقفاً إسرائيلياً أساسياً ـ لا سيما لأنّني أعلم أنّ ذلك سيعتبر نقطة انطلاق للمباحثات، لا خاتمة القصة.

ومع أنني لم أجد في الورقة المصرية شيئاً يمكننا العمل به، فقد عبّرت بوضوح عن استعداد مصري جديد للعب دور فعال ـ وأنهيت أنا وموسى نقاشنا بالاتفاق على التحدّث معاً يومياً طالما بقيت في المنطقة.

* عرفات يقلل من حماسته

* عند عودتي إلى إسرائيل قبل قدوم أسرتي إليها، التقيت بباراك وأطلعته على ما دار من نقاش مع موسى. رفض بشكل مطلق احتمال الانسحاب من 94 في المئة من أراضي الضفة الغربية، باعتباره أمراً مستحيلاً. وبشأن الخيارات المتعلقة بالحرم/جبل الهيكل، استمع إليّ ثم شدد على أنه لا يمكن لإسرائيل التنازل عن السيادة على جبل الهيكل لصالح الفلسطينيين. كانت تلك صيغة مثيرة للاهتمام تفيد ضمناً أن إسرائيل قد لا تطالب بالسيادة الحصرية أو حتى بالسيادة كنتيجة نهائية.

انتظرت يومين لمقابلة عرفات بغية التأكد من أنّ موسى نقل تلك الخيارات إليه (تبين بعد ذلك أنّ مبارك طلب من عرفات المجيء لمقابلته في 21 أغسطس على أن ألتقي بعرفات لاحقاً مساء ذلك اليوم). طلبت من جمال الانضمام إليّ في اللقاء بدلاً من الاكتفاء بالترجمة. وبما أننا كنا سنناقش الخيارات المتعلقة بالحرم، فقد توقّعت قيام عرفات بالإعلان ثانية بأن الهيكل ـ المكان الأكثر قداسة لدى اليهود ـ ليس موجوداً في القدس، وإنما في نابلس. ولم أشأ أن تتحول هذه القضية إلى جدال بين عرفات المسلم وبيني أنا اليهوديّ. وأردت من جمال، وهو مسيحي قبطي من أصل مصريّ، أن يقول لعرفات بأن هذه محاولة فظيعة لنزع الشرعية عن الارتباط الإسرائيليّ بالقدس، وكان جمال سعيداً بتولّي هذا الدور.

مع أن عرفات كان ودياً ومتحمساً في لقائنا الأول، فقد شعرت منذ دخولي إلى الغرفة أن مزاجه مختلف هذه المرة. كنت أعرف أن عرفات تحدث إلى موسى اليوم باكراً، وخمّنت أنه يتوقع منّي أن أمارس عليه ضغوطاً بشأن الحرم، لذا يشير إلى أنه غير ميّال إلى إبداء المرونة.

عندما سألته إذا كان المصريون قد نقلوا إليه الخيارات الأربعة المتعلّقة بالحرم، أقرّ بأنهم قاموا بذلك مع الإشارة إلى أنها خياراتي. أجبتُه بأنها ليست خيارات أميركية ولا مصرية، وأنها بكل بساطة تعكس ما اعتقده موسى بمثابة الخيارات الحقيقية المتوفرة. ماذا كانت ردة فعله؟ هزّ كتفيه وقال بأن ليس لديه خيارات. هل كان يقصد من ذلك أنه يعتبرها جميعاً متساوية؟ لم يكن متجاوباً هنا أيضاً، وأثار أسطورته الجديدة قائلاً: «بالطبع، الهيكل لم يكن في القدس، وإنما في نابلس».

علم جمال أن هذه إشارة له. وما تلا ذلك كان مفاجأة حتى بالنسبة إليّ. بدأ جمال بالكلام بأسلوب مهذّب جداً مقترحاً على عرفات أنه بصرف النظر عن آرائه الخاصة، ينبغي أن تكون المقدمة المنطقيّة لأية عملية وجوب عدم تشكيك أي طرف في إيمان الطرف الآخر. لكن عرفات لم يتراجع، قائلاً لجمال إنه لا يعلم شيئاً عن الدين، في حين أنه (أي عرفات) خبير بكافة الديانات، واليهودية منها على وجه الخصوص، وأن الهيكل لم يُبنَ في القدس. دار بينهما نقاش فقال جمال «إذا كان اليهود يعتقدون أن الهيكل بُني في القدس، فإنّه لخدمة أغراضنا كان موجوداً في القدس».

وأخيراً، بعد ما يربو على عشر دقائق من القدح المتزايد، تدخّلت وقلت «سيدي الرئيس، بصرف النظر عما تعتقده، فإن رئيس الولايات المتحدة يعلم أن الهيكل كان موجوداً في القدس. وإذا سمعك تنكر أنه كان موجوداً فيها، فإنّه لن يأخذك ثانية على محمل الجد. نصيحتي إليك ألاّ تثير هذا الرأي ثانيةً في حضوره».

ربما لم يكن عرفات مستعداً لمناقشة أي من الخيارات الأربعة المتعلقة بالحرم، لكنه أوقف الجدال مع جمال ولم يعد إلى الحديث عن أسطورته بشأن الهيكل سواء في حضور الرئيس أم في حضوري، (بالطبع، ذلك لم يمنعه من الحديث عنها أمام عدد لا يحصى من الأشخاص).

مع وضع هذه القضية جانباً، قلت لعرفات إنّه سيلتقي بالرئيس ثانية في نيويورك في 6 أو 7 سبتمبر (أيلول) أثناء انعقاد قمة الألفية، وأنها قد تكون فرصته الأخيرة لإقناع الرئيس بأنه على استعداد للتوصل إلى اتفاق. كان بحاجة إلى المجيء إلى نيويورك حاملاً ردّاً بشأن الحرم يجد الرئيس أنّه يحظى بالمصداقيّة. وحذّرته قائلاً «لا تفوّت هذه الفرصة». استمع إليّ لكنّه لم يقل شيئاً.

* قدر أم ماذا..؟ اقتربنا من الاتفاق بعد كامب ديفيد.. فانفتحت أبواب الجحيم بزيارة شارون للحرم

* في الأسبوع الثالث من شهر أيلول/سبتمبر، اتصل جلعاد بي هاتفيّاً وأخبرني بأنه وصائب عريقات سيجريان مكالمة مشتركة لاحقاً في ذلك اليوم ويطلبان ذهاب كلا الطرفين إلى واشنطن لإجراء جولة مفاوضات أخرى معنا. وقال جلعاد إنّ هذا في الحقيقة كان طلب صائب لكنه قبِل مناشدته لجعل ذلك مطلباً مشتركاً. وعندما سألته عن مطالبهما بالتحديد، أجاب جلعاد بأنه لم يكن طلباً من أجل عقد مناقشات ثلاثية الأطراف وإنما طلباً لكي أعمل ثانية مع كل جانب على حدة لمراجعة ما يمكنه القبول به في النهاية. وأوضح جلعاد بأن صائب ورفاقه هم الذين أرادوا عقد جولة واحدة أخيرة قبل تقديم اقتراحاتنا. وعندما أجريا مكالمتهما المشتركة، وافقت على عقد تلك الجولة.

قبل وصول المفاوضين إلى واشنطن، قام عرفات بزيارة باراك في منزله. صحيح أن المفاوضين كانوا يلتقون باستمرار، لكن القائدين لم يجتمعا معاً منذ كامب ديفيد. كان جلعاد وصائب يرغبان (من بين آخرين) في إعادة الحرارة إلى العلاقات الباردة بين الزعيمين. وأفاد الطرفان بأن اللقاء كان حميماً جداً، وأن باراك اختلى بعرفات قرابة خمس وأربعين دقيقة، ثم أجريا اتصالاً بالرئيس كلينتون قبل أن يختما أمسيتهما. في تلك المكالمة، قال باراك للرئيس «سأكون شريكاً أفضل لعرفات مما كان عليه رابين».

في هذا الجو المفعم بالتفاؤل وصل المفاوضون من أجل عقد جولة من المفاوضات تمتد ثلاثة أيام تبدأ في 26 أيلول/سبتمبر. وللمحافظة على سرية المفاوضات وإبقاء المفاوضين بعيداً عن أعين الصحافة، أنزلناهم في ريتز ـ كارلتون في مدينة بنتاغون. كان شلومو يعتقد بأنّني لن أضغط بشأن أعداد اللاجئين لو لم يكن هناك مطالب فلسطينية جديدة، بدأ يتحدث بعنف، وقال إنّ أسلوب الفلسطينيين في التفاوض مبني على نيل أقصى ما يمكنهم الحصول عليه في كل مسألة، وما إن يحصلوا على ما يريدون حتى ينتقلوا إلى المسألة التي تليها. لقد بذلت إسرائيل قصارى ما في وسعها في ما يتعلّق بالحدود والقدس، ولم يكن ردّ الفلسطينيين محاولة تلبية المطالب الإسرائيلية أو تقديم حزمة من المبادلات، وإنّما ما الذي يمكنهم الحصول عليه بشأن اللاجئين بدلاً من ذلك. لقد صبرنا بما فيه الكفاية.

قلت لشلومو إن الطلب في هذه الحالة بالذات جاء منّي وليس من الفلسطينيين. «إنّني أثير هذه المسألة لأنك تريد اقتراحاً أميركياً وأنا أدرس حدود هذا الاقتراح. وإذا كنت تبحث عن شخص تغضب منه، فعليك أن تغضب مني». أومأ برأسه لكني عرفت أنّني لم أقنعه.

لأول مرة لم تطلق الألعاب النارية خلال المباحثات مع الوفد الفلسطيني، فالجميع كانوا مشغولين. كان صائب عريقات ومحمد دحلان وحتى أكرم هنية (الذي عرفت أنه كان ذا تأثير سلبي في كامب ديفيد) منكبين على دراسة كل قضية محاولين شرح ما كانوا يعتقدون أنهم بحاجة إليه وما يمكن للإسرائيليين القبول به. كما أن دحلان عرض اقتراحاً أمنياً جديداً ـ يعالج العديد من دواعي القلق لدى الإسرائيليين لكنه يرسم حداً لحقّ إسرائيل في إعادة نشر قواتها في الحالات الطارئة. وكان صائب مصمماً على لعب دور السياسي المحنك بتحليه بالعقلانية والمرونة بقدر الإمكان.

لم أكن أعرف أن هذه الأيام الثلاثة ستمثل أعظم الآمال بالتوصل إلى السلام طوال مدة شغلي لمنصبي ـ وأن الانحدار إلى الفوضى واندلاع العنف سرعان ما سيلي هذه الأيام (المؤلف يشير هنا الى مفاوضات سرية استضافتها واشنطن على هامش قمة الألفية التي تلت انفضاض قمة كامب ديفيد بين كلينتون وعرفات وباراك وقد مثل الجانب الفلسطيني في هذه المفاوضات دحلان وعريقات فيما مثل الجانب الإسرائيلي جلعاد وشلومو.. الإيضاح من «الشرق الأوسط»). في تلك المرحلة، حدث تطور قال الفلسطينيون بأنه غيّر كل شيء: زيارة أرييل شارون إلى الحرم/جبل الهيكل. فقد قام شارون، زعيم حزب الليكود المعارض بزيارة جبل الهيكل في 28 أيلول/سبتمبر وبرفقته قوة عسكرية كبيرة من رجال الشرطة الإسرائيليين كحماية شخصية له، وسبب هذه الزيارة هو رغبة قادة حزب الليكود ورغبته في إظهار أن حكومة باراك لا يمكنها تسليم هذه الأرض المقدّسة. وفي السابع والعشرين، وكان اليوم الثاني في لقاءاتنا، طلب صائب الاجتماع به على انفراد في فترة ما بعد الظهر. قال لي إنّه يود أن ينقل إليّ طلباً شخصياً من عرفات: هل في وسعي ممارسة نفوذي لمنع شارون من الذهاب إلى الحرم الشريف في اليوم التالي؟ قلت لصائب إنه إذا كنا سنطلب من شارون عدم الذهاب، فسوف يستغل طلب الولايات المتحدة ويجعل منه ذريعة سياسيّة مع قاعدته اليمينية، وسوف يعنّفنا ويقول إنه لن يذعن للضغوط أياً كان مصدرها ـ بما في ذلك الولايات المتحدة ـ بشأن حق إسرائيل في جبل الهيكل. قلت له «لن نثنيه، بل إننا قد نحرضه».

لكني وعدته بأن أحاول إقناع شلومو بالحدّ من برنامج الزيارة أو منعها. كان شلومو بن عامي يلبس قبعتين، فقد كان وزيراً للخارجية بالوكالة كما كان وزيراً للأمن الداخلي. كان وزراء الداخلية في السابق، بمن فيهم وزراء الليكود، يذكرون الدواعي الأمنية لتبرير منع التصرّفات الاستفزازية الإسرائيلية في الأحياء العربية من القدس الشرقية. وبناء على ذلك، سألت شلومو إذا كان بوسعه التعلّل بالمخاطر الأمنية لمنع شارون من الذهاب إلى جبل الهيكل. رد عليّ بأنه لا يستطيع ذلك لأن المخابرات الإسرائيلية قدّرت أنه لا يوجد خطر اندلاع أحداث عنف كبيرة. لكن عند دخولي الغرفة، كان يتحدث عبر الهاتف مع جبريل الرجوب ـ رئيس جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني في الضفة الغربية. كان يقوم بالتنسيق مع الرجوب، وكان كل ما يطلبه الرجوب عدم السماح لشارون بدخول المسجدين ـ أي أنّ في وسعه التنقّل في أرجاء الحرم في اليوم التالي لكن لا شيء أكثر من ذلك. بالرغم من استياء شارون، لجأ شلومو إلى الأحكام الأمنية لمنع شارون من دخول المسجدين لكن ليس أرض الحرم («1» لم أطرح السؤال التالي إلاّ لاحقاً، إذا لم يكن هناك قلق كبير من أن تؤدي الزيارة إلى اندلاع أحداث عنف، فلماذا يحاط شارون بهذا الحضور الضخم لرجال الشرطة؟). من المفارقات أنّه وقعت حادثة في يوم السابع والعشرين، أي قبل يوم من زيارة شارون. لكنها انطوت على مقتل جندي إسرائيلي في كمين نُصب في غزة، وهي الحادثة التي يدعي الإسرائيليون بأنها تحدّد البداية الحقيقية للانتفاضة. وفي الثامن والعشرين، عندما ذهب شارون إلى الحرم، كان كل شيء هادئاً. لكن في التاسع والعشرين، فتحت أبواب الجحيم.

وفي الثامن والعشرين، وهو اليوم الأخير لمناقشاتنا، لم يتصرف أحد من أي من الوفدين على أنّه يمكن أن يكون كارثيّاً. بل لم يتطرّق إليه أحد، مع أن شارون ـ بحكم الفارق الزمني البالغ سبع ساعات ـ كان قد أنهى زيارته للحرم قبل أن نبدأ اليوم الأخير لمناقشاتنا. وقد تبيّن أن مباحثاتنا في اليوم الأخير مثيرة للاهتمام حقاً ـ فقد لخصت انطباعاتي حول ما توصلنا إليه في كل مسألة وما توقّعت أن يقوم به الرئيس. قلت للجانبين بأنّني لست متأكداً من أن الرئيس سيعرض اقتراحاً، لكن توصيتي، خصوصاً بعد هذه الأيام الثلاثة من المناقشات المنفصلة، هي أن يقوم بذلك.

لم يطرح عليّ أحد أي سؤال بشأن الحرم، كما لم أعرض أي جديد بشأنه. وفي ختام مناقشتنا، قلت إنّه يتبقى أن يتخذ الرئيس قراراه النهائيّ بشأن ما إذا كان سيقدم اقتراحاً وما الذي سيتضمنه ذلك الاقتراح.

كان كلا الجانبين متفائلاً عقب لقاءاتنا الأخيرة. وعلى الرغم من زيارة شارون للحرم، كان مزاج عريقات ودحلان وحتى أكرم هنيّة جيداً. لم يكن هذا انطباعي وحسب، فقد اتصل محمد دحلان قبل مغادرته ذلك المساء بجورج تنيت وقال له بجرأة: «سيكون هناك اتفاق». (وبدوره اتصل بي جورج وسألني «ماذا فعلت مع محمد؟ إنه يغادرنا مسروراً»). لم يدم هذا المزاج الطيّب طويلاً. فقد كنّا على وشك مواجهة حقيقة جديدة ومرعبة تحول دون طرح العرض الأميركي ـ لعدة أشهر على الأقل.