أزمة «الشرعية الصهيونية» كمفتاح لفهم الانتفاضة الفلسطينية

د . المسيري يدرس نموذجين متصارعين في فلسطين المحتلة انطلاقا من «الإدراك والمعرفة»

TT

في كتابه الجديد «الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، دراسة في الادراك والكرامة» الصادر عن هيئة الكتاب المصرية، يناقش الدكتور المسيري النماذج المعرفية والادراكية الكامنة وراء كل من الانتفاضة والمحاولات الإسرائيلية لقمعها، انطلاقاً من «أهمية النماذج المعرفية في تحديد ادراك الانسان وخطورة التبعية الادراكية التي تجعلنا نستورد نماذجنا المعرفية من الخارج مثلما نستورد السلع والبضائع، وهو ما يجعلنا بالتالي ننظر الى انفسنا من خلال عقول وعيون غربية تسرب لنا ما تود أن نرى، وما ترغب في أن ندركه أو نعيه». والخطورة هنا تكمن، حسب وجهة نظر المسيري، في تحولنا عبر هذه النظرة الى مادة استعمالية.

بعد ذلك حاول المؤلف أن يشير الى نموذجين متصارعين في فلسطين المحتلة هما الانسان المادة «الصهيوني»، والانسان السر «الفلسطيني»، والأخير صنع الانتفاضة من خلال وعيه بذاته وجذوره في أرضه وايمانه العميق بانسانيته. وفي ضوء ذلك تحدث المؤلف عن أزمة الشرعية الصهيونية باعتبارها مفتاحا لفهم الانتفاضة، مشيرا الى أن لتلك الشرعية وجهين مرتبطين ببنية القول والفعل الصهيونيين، فالصهيونية ترمي الى نقل اليهود من «المنفى» الى فلسطين، ونقل العرب منها الى المنفى، وكل عملية نقل تحتاج الى ديباجات مختلفة عن الأخرى، وشرعية مختلفة عن شرعية سواها، وقد نتج عن ذلك وجود شرعيتين هما «الشرعية الصهيونية التي يسبغها الصهاينة على نفسهم امام العالم الغربي واليهود ككل، وشرعية الوجود التي يريدون تأكيدها في مجابهة العرب، وذلك بتزايد قمعهم وترحيلهم وباستخدام همجي للآلة العسكرية التي يملكونها. وقد نظر المؤلف الى ذلك باعتباره مؤشرا على «تخثر المادة القتالية الصهيونية وتراخي قبضتها في مواجهة المقاومة الفلسطينية وشرعية وجود الانسان «السر» والذي يقوض باستمرار انتفاضته دعائم الشرعية الصهيونية ووجودها ذاته».

وفي الفصول الثاني والثالث والرابع تناول د. المسيري جوانب مختلفة من أزمة الصهيونية وكيفية استجابة الفلسطينيين الذين أدركوا عدم التجانس الحاصل بين اليهود حيث انهم يتشكلون من عشرات الهويات والانتماءات الدينية والاثنية والطبقية، فمنهم اليهود «اليديشية» وهم المتدينون الذين يعرفون يهوديتهم على أساس ديني، ومنهم من تمت علمنته ويعرف يهوديته على أساس إثني، وهم بقسميهم موجودون في انجلترا واميركا والأرجنتين وجنوب افريقيا، ويتحدثون اللغة اليديشية.

أما القسم الثاني من اليهود فهم الذين يندمجون في العالم الغربي ويتحدثون لغة بلادهم وفيهم الارثوذكس والاصلاحيون والمحافظون واللادينيون، وتوجد أكبر تجمعاتهم في اميركا. أما القسم الثالث فيتشكل من يهود العالم الاسلامي والشرق ومنهم اليهود العرب المتحدثون باللغة العربية واليهود السفارديون ويهود ايران وأفغانستان، هذا بالاضافة الى جماعات صغيرة من اليهود الذين يسكنون جورجيا وكردستان، واليهود الموجودين في شبه جزيرة القرم وليتوانيا وغيرهما من البلدان مثل مصر، واليهود المتخفين الذين يطلق عليهم اسم الدونمة ويتركزون في تركيا، وبقايا المارانو في إسبانيا، ويهود بني اسرائيل في الهند، والفلاشا في الحبشة.

وهكذا نرى، كما يذكر المؤلف، ان الصورة اليهودية مركبة وغير متجانسة على كل المستويات الانسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وقد أدت هذه التعددية اليهودية الى خلق أزمة هوية داخل المجتمع الاسرائيلي حيث لم تعترف دار الحاخامية بيهودية بني اسرائيل الموجودين في الهند، كما أن مشكلة الهوية وعدم تحديد من هو اليهودي أدت الى تفاقم الصراع بين الارثوذكس والفرق اليهودية الأخرى.

وقد وصل الصراع بينهما الى أن المؤتمر الصهيوني الحادي والثلاثين انتخب اغلبية من العمال في اسرائيل واليهود الاصلاحيين والمحافظين والعلمانيين الذين قرروا ان يكبحوا جماح الارثوذكس ويغيروا وجه اسرائيل، وهو ما سوف يخلخل ـ لو حدث ـ الوجود الاسرائيلي نفسه الذي يروج لشرعية دينية في العالم وبين اليهود. وسوف يكشف اداعاءاتها بأنها دولة كل اليهود، وهو ادعاء كاذب بالنظر الى تعريف اليهودي عند المؤسسة الارثوذكسية والذي يشير الى أن التهود يجب ان يتم على يد حاخام أرثوذكسي، وهو ما يعني استبعاد 80% من يهود العالم الذين يعرفون اليهودي على أسس لا دينية أو لا يقبلون باليهودية الارثوذكسية.

في مقابل هذا التخبط والتآكل الصهيوني ـ على حد قول المؤلف ـ بدأت الانتفاضة الفلسطينية وأخذت في التنامي والتطور، وانضم عرب 48 الى عرب المناطق التي تم احتلالها عام 1967، وهم الذين حاولت اسرائيل دمجهم في مجتمع اليهود ومنعتهم من تكوين أي تكتل سياسي متماسك ذي قيادة عربية خالصة.

وذكر د.المسيري في الفصل الرابع أن أهم اسباب ومظاهر تآكل الشرعية الصهيونية هو الأزمة السكانية العميقة التي تجعل من المشروع الصهيوني اكذوبة دخلت في طريق مسدود، حيث يعاني منذ ظهور الحركة من أزمة سكانية تهدده في الصميم فهو غير قادر على تزويد الدولة بالمستوطنين الذين يمكن من خلالهم ملء المستوطنات وقد راح الفلسطينيون في داخل اسرائيل يحتلون كل مسكن يغادره اليهود هربا من ضعف امكانياته أو بحث عن رفاهية أكثر، ومن هنا زاد عدد اليهود النازحين من اسرائيل أو هاجروا منها حتى وصل في عام 1987الى 17882يهوديا. كما غادر اسرائيل 180 عالما الى الولايات المتحدة خلال الاعوام العشرة السابقة، وقد تزايد معدل هجرة العلماء منها ليصل إلى اكثر من ذلك.

وفي مقابل هذا الانكماش اليهودي يتزايد عدد الفلسطينيين بعد أن أدركوا الطبيعة الاحتلالية للغزو الصهيوني، حيث تشهد الأرض المحتلة تزايدا في معدلات الانجاب لدى الانسان الفلسطيني مقابل تناقض واضح في معدلات الانجاب اليهودية، وهو ما يشكل صعوبة كبيرة لدى اسرائيل في انجاح عمليات التوطين في الأرض العربية ويؤدي الى عمليات انكماش صهيوني في مناطق كانت تعتبر تجمعات اقليمية يهودية.