الدول الفقيرة.. لماذا تظل هكذا؟ وماذا عليها أن تفعل؟!

باحثان أميركيان يدرسان حقيقة الاستغلال الاستعماري في كتابهما «من الحداثة الى العولمة»

TT

لماذا تبقى بعض البلاد فقيرة ومتخلفة رغم الانفتاح على الرأسمالية وعلى مظاهر الحياة الحديثة، أم أن وضعها هو، بالأساس، نتاج قرون من الاستغلال الاستعماري واستمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية للدول العظمى؟ ثم هل الأفراد الفقراء هم نتيجة عوامل تخصهم، أم نتيجة أسباب خارجة عن إراداتهم؟ هذه الأسئلة الأساسية ناقشها الكاتبان الأميركيان «ج. تيمونز روبيرتز» و«ايمي هايت» في كتابهما الصادر في جزئه الأول عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية بعنوان «من الحداثة الى العولمة.. رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغيير الاجتماعي».

تسعى مقدمة الكتاب، أولاً، الى تقديم إطار ما لمصادر قديمة ومن ثم تبدأ بمناقشة الانقسام العميق في مجتمعاتنا حول من الملوم عن وضع الفقر في البلاد الفقيرة.

ثم القسم الأول مقتطفات من كتب «الرجال البيض الأموات الثلاثة»، او المفكرين الكلاسيكيين: كارل ماركس وماكس ويبر وأميل دوركايم.

ويرى الباحثان ان شيئا واحدا كان واضحا لهؤلاء المفكرين المشار اليهم وهو ان المجتمع الغربي الحديث مجتمع مختلف جذريا عن كل ما جاء قبله. وبالنسبة الى كارل ماركس وفردريك انجلز، كان هذا الاختلاف نذيرا بقدوم فترة تاريخية ثورية، يقوم فيها نوع جديد من البنية الاجتماعية ينهي الصراع الطبقي ويقوض اركان الرأسمالية. اما بالنسبة الى ماكس فيبر واميل دوركايم فكان المجتمع الحديث شيئا فريدا لانه على رغم ولادته من التاريخ الأوربي، فقد تطلب طريقة مختلفة جذريا للتفكير والعمل والتنظيم للمجتمع.

ويبرز الباحثان بشكل عام رأي هؤلاء المنظرين في النقلة الى الحداثة منظور متزايد التعقيد. وبعبارة أخرى، منظور ما يقوم به الناس وكيف يقومون به، وكيف يرتبطون بعضهم بعضا، ينظرون الى عالمهم، ثم اتخاذهم القرارات. ويشير الباحثان إلى اعتقاد ماركس انه لا يمكن فهم الناس وتاريخهم إلا من خلال علاقاتهم مع ما ينتجونه، ويعتمد تحليله التاريخي على دراسة العلاقات بين العمال والأدوات التي يستخدمونها في الإنتاج، ومالكي هذه الأدوات (الرأسماليين)، إذ يرى مؤسس الماركسية أن علاقات الإنتاج هي التي تفسر كون المجتمع على ما هو عليه، وكيفية تغييره أيضاً.

كانت الرأسمالية بالنسبة الى ماركس وانجلز مجرد مرحلة تاريخية، ولو أنها مرحلة شديدة الأهمية حسب وصف الباحثين، إلا ان اعظم تركة لماركس في رأيهما هي توكيده ان التاريخ كله هو قصة الصراع بين أولئك الذين يملكون المصانع وأدوات الإنتاج ( البورجوازية)، وأولئك الذين يجب ان يبيعوا عملهم لكي يشتروا السلع التي يحتاجونها ليعيشوا (البروليتاريا)، وهو ما يعني ان في المجتمع الرأسمالي صراعا دائما على الفرق بين ما يدفع للعمال والسعر النهائي لما قاموا بتصنيعه.

وكان «ويبر»، بعد ماركس وإنجلز بنصف قرن، اقل اهتماما بتقديم برنامج سياسي، ولكنه كان اكثر اهتماما بطبيعة القوى الأساسية التي تسمح للمجتمع بالتطور، إذ يوضح ان المجتمع الأوروبي كان لعدة قرون محكوما بمصادر السلطة التقليدية: الكنيسة، والسلطة الملكية والإقطاع.

ويشير أيضا إلى اهتمام الناس الزائدين باستثمار فائض أموالهم في استثمارات منتجة بدلا من إنفاقها على سلع الترفيه كما كانوا يفعلون في الماضي ومن ثم فان هذا التناول الجديد للعمل والمال جلب معه تغييرات عميقة تتعلق بالمواقف والسلوك، وتوصف بأنها هي الروح الحقيقة للرأسمالية.

وهكذا، حسب ويبر، انتقل المجتمع من السلطة القيمية للتقاليد الى مجتمع محكوم بممارسات وقيم جديدة اكثر موضوعية مثل العقود المكتوبة، والكفاءة، والخبرة، والمعايير الكلية والطرق والإجراءات المقررة لإنجاز الأعمال. ويوضح المؤلفان في هذا الصدد اختلاف ماركس كثيرا عن ويبر في هذا المنحى، فبينما يعتقد ماركس ان الترتيبات الاقتصادية تحدد الأيديولوجية (الأفكار) وكذلك الأشياء الأخرى تقريبا، آمن ويبر بإمكان ان تقود أفكار الرجال عملية تنمية اقتصادية، ويستشهد بالأفكار البروتستانيتة التي ساعدت على تشكيل نهوض الرأسمالية في صورتها الحديثة.

وبعد هذه الآراء التي ناقشها الكتاب في أقسامه الأولى، يعود فيناقش كيفية التحول الى الحداثة وماذا يمكن فعله لجعل الرأسمالية «تنمو الى مدى ابعد في البلدان الفقيرة التي تدعى بالعالم الثالث. لقد وجدت الولايات المتحدة نفسها بعد الحرب العالمية الثانية وحيدة على قمة القوة العالمية، إذ كانت الامة الوحيدة التي لم تصب بنيتها التحتية من طرقات وجسور وابنية وبنوك بضرر، وكانت شبه محتكرة للتقنية الحديثة وصناعتها. وبذلك، أصبحت في وضع يؤهلها لانتاج السلع التي كانت تباع بسعر عال في إرجاء العالم. ولكن نمو اقتصادها كان سيظل محصوراً في حدودها من دون تفعيل اقتصادات البلدان الأخرى لشراء هذه المنتجات. وكانت مساعدة أوروبا واسيا على استعادة عافيتها هي الشيء الصحيح، لأن الفشل في القيام بذلك كان يعني السماح للشيوعية بالانتشار، لذلك وضعت خطة مارشال للمساعدة في إعادة البناء.

ويبرز الكتاب تفسيرا لفهم الفجوة بين الدول الأكثر غنى والدول الأشد فقرا، حيث قدم منظرو التحديث لوحة مركبة لما يعني أن تكون حديثا. ففي الرسم البياني الثنائي لنظرية التحديث تتحول المجتمعات من نموذج لمجتمع ( تقليدي ـ أو متخلف) إلى نموذج آخر (حديث او متقدم)، كما أن العولمة تقدم من قبل الكاتبين بشكل مختلف، فأولا، لم يعد مسلّما أن بناء المصانع والبنية التحتية يعني بالضرورة رفعا لقدرته على السيطرة على المعلومات والتقنية والمؤسسات المصرفية العالمية. وثانيا، إن أدب العولمة تجاوز فكرة الدول الفقيرة ضد الدول الغنية، وكأن هناك عالمين او ثلاثة عوالم. بدلا من ذلك، إن هذا الأدب، أدب التغيير والتنمية الاجتماعية بتسمية أخرى، يطرح الآن مسألة كيف اصبح هذا العالم موحداً، قائما على الاعتماد المتبادل وان القوانين نفسها، كما يبدو، تطبق في كل مكان.

إن مفهوم العولمة يعني مجموعة من الإجراءات تجعل العالم اكثر اندماجا، وهذا لا ينفي سيطرة نخبة سياسية واقتصادية جديدة، غير خاضعة للمحاسبة على حد بعيد، على صنع القرار، وهي بشكل اكثر تحديدا «وول ستريت ـ الخزانة الأميركية ـ مجموعة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي».

وفي الوقت الذي تشكلت فيه سيطرة مركزية متجانسة نتيجة للعولمة، غصت مدن دول العالم الفقيرة بملايين المهاجرين الريفيين الذين لا يملكون أرضا، مجبرين على التماس التوظيف بغض النظر عن مستوى التعويض المادي، وتحت اكثر الظروف لا إنسانية، فقط من اجل ان يضمنوا مجرد بقائهم الجسدي.

وبعد ان ناقش الكتاب نتائج الإمبريالية والاقتصادات التابعة بعد دمج الأخيرة في السوق العالمي وتأثيرات تراكم رأس المال وإبراز أشكال جديدة للتبعية الاقتصادية يورد الكتاب بعض الظواهر الاجتماعية الأكثر عمومية التي أفرزتها الأشكال الجديدة من التبعية. ويؤكد المؤلفان ان التحليل الذي يرتكز على الافتراض الساذج بان الاميربالية توحد مصالح وردود أفعال الدول المحكومة (المهيمن عليها) هو إفراط واضح في تبسيط ما يحدث حقيقة، وانه لا يأخذ بعين الاعتبار التفتت والتشظي الداخلي لتلك البلدان والجذب الذي تمارسه التنمية في أطوار اجتماعية مختلفة وليس على الطبقات العليا فقط.