هل نترك التاريخ لعلماء الآثار؟ وهل تنفع الكتب كمراجع تاريخية؟

كتاب بريطاني ـ عربي يثير أسئلة جديدة عن تاريخ فلسطين القديم

TT

يضم كتاب «الجديد في تاريخ فلسطين القديمة» مساهمات شارك فيها، كيث ويتلام رئيس قسم اللاهوت في جامعة شيفلد بالمملكة المتحدة، والبحاثة توماس طمسن ونيلز لمكة وإنغريد هيلم وزياد منى. وهذه الدراسات مجتمعة، حسب الباحث والناشر منى، تنحو إلى أن تثبت مرة أخرى عقم منهجية اعتماد «الكتاب» مرجعاً تاريخياً، مما يوضح الحاجة الماسة لإعادة النظر في الفكرة السائدة عن فلسطين القديمة، والتأسيس لتاريخ علم تأريخ عربي جديد خاص ببلادنا يبتعد عن الأساطير والخرافات، أياً كان مصدرها، وإعتماد المنهجية العلمية للبحث والاستنتاج. في «إعادة اكتشاف فلسطين القديمة»، يتعرض كيث ويتلام إلى حرمان فلسطين من امتلاك تاريخ متصل يربط بين ماضيها القديم وتاريخها الحديث، إذ ما هو متاح في مكتبات الجامعات البريطانية الكبرى عن تاريخ فلسطين اقل كثيراً من تاريخ إسرائيل، والملاحظ أنه لا يحتوي على قطيعة بين الماضي والحاضر، بل يبدوان مندمجين في رواية واحدة. فإسرائيل تتمتع بماض يغوص عميقاً في الزمن القديم، في حين لا تمتلك فلسطين على ما يبدو إلا ماضياً مباشراً مؤلفاً من بضعة قرون في أحسن الأحوال. البحوث الجديدة الجارية توفر آفاقاً مناسبة لتأليف تاريخ بديل لفلسطين القديمة، والمهم تجنب النظرة الاقصائية إلى الماضي، فلا يجوز لأية رواية أن تكون ملكوتاً لجماعة «إثنية» معينة، تقوم على استبعاد سائر الجماعات الأخرى. فقد تعرضت ثقافات سكان المشرق الأصليين من يهود وعرب إلى الطمس بعد الهجرة الصهيونية، وبات من الضروري تسليط الضوء على هذه الثقافة الغنية الموجودة قبل الفترة الحديثة، والتي باتت منذ الهجرة تُقدم كما لو كانت ملكاً لجماعة وحيدة. إن الرواية البديلة لقصة الفترات المبكرة من تاريخ فلسطين يجب أن تحتفي بإنجازات ونضالات الشعوب والثقافات العديدة المؤلفة لهذا النسيج المطرز بالألوان والرسوم. وهي رواية يتعين عليها تأكيد جملة إنجازات سكان المنطقة، وتنعكس في مرايا الفن والأدب والنحت وهندسة العمارة، مغطية المدى الزمني الواسع الممتد من العصر النحاسي إلى يومنا هذا. فلم يعد جائزاً تقطيع تاريخها، وكأنه جزء من ماض حصري لجماعة واحدة، وإنما هو تاريخ واحد، العصرُ الحديدي فيه حلقة من سلسلة تخترق سائر الفترات الرومانية والبيزنطية والإسلامية وصولاً إلى الوقت الحاضر.

ويثير توماس طُمسن في بحثه الأول سؤالاً مهماً: هل ينبغي علينا أن نترك التاريخ لعلماء الآثار؟! أي هل يتعامل علماء الآثار والمؤرخون مع النوع نفسه من «الماضي» الذي يتعامل به الباحثون الكتابيون؟! يرى الباحث أنه كلما كان لدينا أساس أثري واضح لكتابة التاريخ، فإن الحكاية الكتابية لا تضيف شيئاً جوهرياً إلى فهمنا للماضي. يستخدم «الكتاب» المعلومات التاريخية بالطريقة التي يستعمل بها الأدب، والسجال الواقعي يجب أن يتمحور حول إذا ما كان «الكتاب» يشير إلى أحداث حقيقية، وعن كفاية استخدامه بديلاً عن التاريخ، عند الافتقار إلى المعرفة التاريخية. في بحثه الثاني، يثير طُمسن مسالة أصل إسرائيل على أنها متصلة على نحو أكبر بالتاريخ الفكري أكثر منه بالتاريخ الواقعي. لذا يتحدد السؤال التاريخي بالأصول والتغيرات التاريخية للقوم الذين تطوروا إثنياً في المرحلة الفارسية والإغريقية المبكرة. إن طرح السؤال بهذه الصيغة حيوي، ويعد في تاريخ فلسطين وارداً بذلك السياق التاريخي والأرضية التأويلية للأدب الكتابي.

بينما تؤكد «إنغريد هيلم» في بحثها «توراة من، بأي حال؟» على التأمل في المقاصد الممكنة لإبداع قصة مقنعة، مقاصد تقع خارج القصة التوراتية، على أن يكون وجودها الواقعي يؤهلها لتحليل نقاش المادة خارج الكتابية القديمة، باستعمال أساليب وبصائر مكتسبة من النقد الأدبي، تجعلنا قادرين على أن ننتقل مرة أخرى إلى النقد التاريخي بأسئلة أكثر أهلية لوضعها ضمن إطار تاريخي: «من كتب النص؟ لمن كُتب؟ ماذا كان الغرض من النص؟ ما الرسالة المضادة للنص؟» أسئلة ليست عن تاريخية «التاريخ الكتابي» بل عن محدّد هوية قصة مقترحة من قبل أولئك الذين كان ينتمي إليهم، إذ أن تحديد ملكية الكتاب قد ادخل الفقه التاريخي النقدي في حالة دفاع عن القصة كما لو كانت تاريخاً، كما أن علم التأويل ركز أساساً على تقصي أصل النص ومعناه بوصفه متصلاً بتسلسله الزمني الحكائي الصريح، في حين يتجاهل البحث عن هويات أولئك الذين كتبوا واستعملوا ونقلوا القصة. وفي «تاريخ فلسطين القديمة: التلفيق والحقيقة» يؤكد زياد منى على أن عالمي الدراسات الكتابية وتاريخ فلسطين القديم، مليئان بالقصص المرعبة التي تثبت أنه لم يعثر في فلسطين أو غيرها من أقاليم المشرق العربي على أي أثر يدعم الرواية التوراتية. وينهي منى إسهامه بما توصل إليه من نتائج بالقول; إن المعارف المكتسبة، سواء الناتجة من الأبحاث في العلوم الإنسانية، ومنها اللغوية، أم من المكتشفات الأثرية، تثبت خطأ منهجية اعتماد التوراة مرجعاً تاريخياً، والسبب ليس فقط الاكتشافات العلمية المعروفة، بل أيضاً حقيقة أن مثل ذلك التوصيف، مهما ادعى من براءة، يتعامل مع نصوص خارج السياق التي كتبت فيه. إن الآثار التي عثر عليها في فلسطين تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن مؤلفي التوراة لم يريدوا كتابة تاريخ، ولم يكونوا من علماء التاريخ، لقد كانوا من أتباع مفاهيم دينية محددة، أملت عليهم كتاباتهم ورؤاهم الفكرية.

كتاب «الجديد في تاريخ فلسطين القديمة» إضافة جديدة وجدية في مضمار علم يكافح من دون هوادة لإعادة البحث إلى سياقه بعيداً عن الخرافات السياسية واللاهوتية.