ساحر اللغة العربية ومغويها

محمود المسعدي كما كان وكما عرفته

TT

بعد قضاء أكثر من أسبوع في المستشفى بسبب توعك، عاد الكاتب محمود المسعدي إلى بيت ابنته في ضاحية قرطاج، ليلازمه بضعة أيام ثم لفظ أنفاسه الأخيرة في صباح الخميس الماضي عن سن تناهز 94 سنة.

وفي الحقيقة مهما حاولنا وضع الحدث في إطار سنة الحياة وقانون الموت المفروض على كل قلب ينبض، فإن المسألة مع محمود المسعدي أكثر من ذلك الإطار العادي المتواتر. فالرجل صاحب كاريزما أدبية لا مثيل لها في تونس. ومعه تدرك إمكانية أن يتحول السارد إلى صاحب سلطنة، ونفوذ مثله مثل السائس في تجربة الحكم الفردي! وللمسعدي قدرة خارقة للعادة في ممارسة لعبة الحضور والابتعاد، ذلك أنه رغم أن كل الأجيال التي تدرجت في تعليمها نحو الباكلوريا في تونس، قد درست أعمال المسعدي وتفرست في شخصياته الروائية أمثال أبي هريرة وريحانة في روايته «حدث أبو هريرة قال» أو غيلان في رواية «السد» وهما أشهر أعمال المسعدي ومن خلالهما نحت وهجه الأدبي. ولكنه رغم تغلغله في برامج التعليم، بل وفي سنة دراسية مصيرية تعتبر جواز سفر إلى الجامعة، فقد ظل ذلك الكاتب متمنعا وصاحب مزاج خاص جدا، ورفض أن يكون في المتناول أو أن يسمح بما قد يؤدي إلى استهلاكه ثقافيا أو إعلاميا، إلى درجة أن إجراء حوار مع المسعدي يعتبر سبقا صحافيا، يلفت الانتباه ويكرس القائم به صحافيا استثنائيا.

وللحقيقة من خلال علاقة أدبيّة وإنسانية خاصّة جمعتني بالروائي محمود المسعدي منذ أكثر من عشر سنوات، رأيت إلى أي مدى يمتلك ذلك الرجل ملامح الكبار، وعلامات الشخصيات التاريخية العظيمة. فهو من حيث الرمز من طينة الرموز الأدبية التي أحبها وتأثر بها. إنّه مزيج متألق من ألبير كامو وأندريه جيد وجون بول سارتر وبول فاليري وأيضا أبي حيان التوحيدي والغزالي والمعري وأبي العتاهية.

ولعل أهم ما يمتاز به المسعدي إلى حد الميزة الخاصة جدا، هو تعامله الذي لا يشبه أحدا آخر مع اللغة. فهو ساحر اللغة العربية ومغويها. وتلحظ بين كلماته آثار تكوين شاسع وعميق، ومدى تمكنه من الاستفادة فنيا من النص القرآني والمزاوجة فكريا وفلسفيا مع أفكار الفرد والإرادة والعزيمة.

ولأني حظيت بشرف تقديمه لمجموعتي الشعرية الأولى «أنثى الماء» بمقدّمة خاصّة، فلقد عاينت من خلال هذه التجربة صرامة المسعدي مع اللغة وعلاقته الخاصة مع بنية الكلمة والجملة والنص ككل. فلا معنى لكتابة واحدة لديه. النص يكتب على مراحل ولمرات كثيرة. لعبة فريدة من الهدم والبناء ومن المحو والكتابة والكتابة ثم المحو. وكل هذه الإجراءات النصيّة اللغوية ذات العلاقة بالخطاب كحقيقة نسبية، لا يمكن اختزالها سوى في إطار مفهوم متعدد الدلالات هو مفهوم: الخلق.

وإذا ما أردنا تحديد زاويتين اثنتين للنظر إلى فعل المسعدي فإننا سنولي الأهميّة الأكبر لمجالي الأدب والتعليم. ففي مجال الأدب وتحديدا السرد أرسى محمود المسعدي مدرسة في الرواية التونسية ذات منحى وجودي فلسفي تركز على الأفكار الكبرى وتقتات من النموذج المثالي الغربي للتقدم وللتطور. فأفكار المسعدي الروائية والتي تتلخص في منح الفرد موقع البطولة وإظهار إيجابيات الفردانية والحوار مع الذات، كل هذه الرسائل التي تضمنتها نصوصه الروائية السردية والتي ظهرت منشورة ما بين 1944 و 1956، مثلت بعض أسس القيم البديلة التي تبنتها الدولة التونسية إبان استقلالها وهي قيم تتجاوز أطر الجماعة لتنفخ في الفرد من الداخل.

ولقد أثرت طريقة المسعدي في كتابة الرواية على أجيال سرديّة. وحتى ذلك الجدل بين من ينفي صفة الرواية عن أعمال المسعدي وبين من يؤكدها ويدافع عنها، قد ظل خافت الصوت ومحتشما. ولا يمس الجدل المقصود في جوهره عبقرية المسعدي بقدر ما هو جدل حول أساليب الكتابة، خصوصا وأن طريقة المسعدي من العمق الفلسفي الوجودي ومن التمنع الدلالي ما يفسح المجال لظهوره.

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن مقدمة توفيق بكار في رواية «حدث أبو هريرة قال...«كانت أكثر من ضرورية. وأهميتها لا تكمن في عبقرية بكار النقدية وروعة تعاطيه مع النص الإبداعي، بل لكونها مقدمة تسلمك مفاتيح فهم الرواية، وبدونها يبقى القارئ أمام إيحاءات وتلميحات وجمل مغلقة المعنى رغم اشتعال الضوء فيها. لذلك فإن كثرة من النقاد والمثقفين والقراء التونسيين عندما فكروا في نصيبهم من جائزة نوبل للآداب، لم يظهر في أفق الجميع سوى محمود المسعدي، حيث طالبوا بترشيحه لجائزة نوبل. كما أن خصوصيّة كتابة المسعدي وصعوبتها لما تتطلبه من إمكانات صعبة الاجتماع في موهبة واحدة، قد أنتجت مريدين لها يحاولون نهج خطها العام بطرق مختلفة. فظهرت أسماء روائية أكاديمية مثل محمود طرشونة الذي قدم له محمود المسعدي أول رواياته وظهر أيضا صاحب رواية «النخاس» صلاح الدين بوجاه. وتمتاز هذه الأسماء بالتوفق في الجمع بين التراث الكوني الإنساني وخوض مغامرة التجريب الفنية. أما من جهة فعل الرجل في التعليم التونسي فهو لا يقل أهمية ومساهمة المسعدي في ضبط تصور وأهداف وخطة للتعليم التونسي تحتاج بمفردها إلى بحوث جامعية ذات فضول حقيقي، لأن إسهامه يتميز بالإشكالية ولا يزال محل جدل واختلاف كشأن التجربة البورقيبية ككل. فهو كما تكشف عن ذلك سيرته الذاتية قد شارك في توحيد التعليم في تونس الحديثة الاستقلال آنذاك وتونسته وربطه بقيم التنمية والتقدم والعقلانية. فتحمل مسؤولية إصلاح التعليم أثناء عشرية كاملة امتدت من 1958 إلى 1968 وهو أول إصلاح تربوي. وهناك أفراد من النخبة المعاصرة له مثل محمد المزالي (رئيس الوزراء الاسبق) يعتبره من الكتل الثقافية «المتفرنسة» التي ساهمت بشكل غير مباشر في الإطاحة بالزيتونيين لإرضاء بورقيبة.

ومن غير الممكن اليوم حتى بعد انتقاله إلى وزارة الثقافة عام 1973 أن يفتح ملف التعليم في تونس ومناقشة خياراته الأولى من دون ذكر اسم محمود المسعدي بالسلب أو بالإيجاب. علما بأن المسعدي أنشأ أيضا نواة الجامعة التونسية منذ عام 1960 وأصدر قانونها الأساسي وكلياتها ومعاهدها العليا.

وهكذا يتراءى لنا مدى انتشار الفعل الأدبي والتعليمي لمحمود المسعدي في تونس. هذا طبعا من دون حساب نشاط الرجل في النضال ضد المستعمر الفرنسي وتعدد المهام الإدارية والحكومية التي تقلدها والأنشطة العديدة التي ما زالت تذكر فتشكر في منظمتي اليونسكو والآلسكو.

إن محمود المسعدي وإن هيمن على ذاتيته البعد الأدبي الروائي فهو رجل إضافة إلى عبقريته الأدبية ونصه المختلف والمتمنع، فإنه اسم متعدد الزوايا وذلك لمسيرة قاربت القرن وعاشت أكثر مراحل تاريخ تونس المعاصر خطورة وأهمية. عاش الاستعمار وكان من النخبة المثقفة والسياسية الأولى التي رسمت للبلاد مستقبلها المستقل، ووضعت الخطة اللازمة لتحقيق طموحات تحقق بعضها وتلاشى بعضها الآخر. إنه حلقة هامة من حلقات فترة الحكم البورقيبي من دون أن ننسى أنه خالق «أبي هريرة» وغيلان وريحانة : شخصيات روائية قدمت رؤى خاصة حول الإنسان والجسد والفعل.

لذلك فإن أبطال المسعدي مثله تماما يغادرون حياة ليطرقوا أخرى!