أطلق الضابط الشريف نيرانه على صورة «القائد».. ثم فتح الأميركيون الطريق أمام إخماد انتفاضة الجنوب

«الوجدان» سيرة ذاتية وسياسية من زمن صدام حسين

TT

يصدر قريباً عن دار المدى بدمشق كتاب «الوجدان»، وهو سيرة ذاتية، صحافية، سياسية للصحافي العراقي فائق بطي، أحد رواد الصحافة العراقية.

هنا فصل من الكتاب: الأول من آذار 1991 انتصب ضابط عراقي شريف امام جدارية كبيرة في ساحة من ساحات مدينة البصرة، انتصب بشموخ وتحد، يراقب الناس تارة، ويطيل النظر الى جدارية القائد العسكري الذي يقود جيش المليون، تارة اخرى. يلقي بنظره بعيدا عن صورة القائد، الى منظر الالاف من الجنود الذين يجرون اقدامهم بتثاقل وصعوبة، ويهاله منظر اولئك البشر وهم في ملابسهم الداخلية بعد تخلصهم من بدلاتهم العسكرية وزيهم القتالي في صحراء الكويت، لينتهوا من كارثة الهزيمة المفروضة عليهم.

وقف هذا الضابط الشريف امام الجدارية، وصوّب رشاشته الى رأس القائد المهزوم، لحظات، رشقها بصليات اصابت هدفها باتقان. عاد بخطوتين الى الوراء، ليفرغ باقي الرصاصات في صورة الصنم.

تكف الطلقات، تلتهب الأكف بالتصفيق، تشق هلاهل النسوة في الساحة عنان السماء، وتتحول صداها الى هتافات في المحلات المجاورة والازقة وصيحات الله واكبر تمتزج باصوات العيارات النارية المقبلة من كل صوب، من اسلحة شباب البصرة. يتراكض الناس وراء الهاربين من الحزبيين والمسؤولين البعثيين، بعد ان تحولوا الى جرذان مرعوبة. انتشر اللهيب المتصاعد من الساحة الى كل مدينة وقرية في محافظة البصرة: في العشار، الفاو، الزبير، ام قصر والشعيبة.

انها انتفاضة شعب يثأر لكرامته وكرامة الجيش العراقي.

كانت البصرة، المحطة الاولى للانتفاضة، التي يحررها ابناء الشعب، وينضم اليهم افراد الجيش المقبلين من صحراء الكويت. الجنود والضباط يسلمون اسلحتهم للمنتفضين. مراكز الشرطة تتحول الى مراكز ميدانية للتنسيق بين المقاتلين. دوائر الدولة يحتلها الثائرون.

نيران الغضب المتفجر تلتهم دوائر الأمن والمخابرات ومقرات حزب البعث. سيطر الغاضبون على المحافظة بكل توابعها.

من البصرة، تنتشر البطولة الى الناصرية، العمارة، الكوت، النجف الاشرف، كربلاء، الديوانية، ديالى والحلة. ومن الجنوب، امتدت انتفاضة الشعب الى السليمانية، اربيل، دهوك وكركوك. تلاحمت سواعد ابناء كردستان العراق بسواعد ابناء الجنوب الصامد. تحولت الايام الى اعراس للشباب الذين صمموا على تحويل الانتفاضة الى ثورة رفض للحروب العدوانية، ضد ايران والكويت، وضد الشعب الكردي. ثورة رفض للنظام برمته، من اجل اسقاطه وبناء العراق الحر الجديد.

مدن العراق تنتفض.

معارضو النظام ما يزالون يخطبون في دمشق، وفي عواصم اخرى. وكالات الانباء العالمية ما تزال تنتظر مقررات مؤتمر بيروت.

لم يصدر شيء عن المؤتمرين سوى مقترحات وأمان بالعودة.

خاب أمله بالمؤتمر، وبالعودة مع جيل الانتفاضة.

لم يعد الى بغداد.. بل عاد مع من عاد من المؤتمرين الى المنافي من جديد.

طار مع رفيق مشارك آخر من دمشق الى ديترويت.

في طريق العودة، بدأت الانتفاضة بالانتكاسة.

واشنطن تسمح لسمتيات صدام حسين بضرب المنتفضين.

قوات الحرس الجمهوري التي لم تدخل الكويت وبقيت سالمة، تزحف باتجاه مدن الجنوب.

الجنود الأميركيون ينزعون سلاح الشباب ويفتحون الطرق الى معسكري رفح والارطاوية.

السلطات الايرانية تستقبل مئات الألوف من اللاجئين.

الشعب الكردي بدأ مسيرة المليون الى حدود تركيا وايران.

الاماكن المقدسة في النجف وكربلاء تتعرض لقصف صواريخ صدام.

شعب الانتفاضة بدأ يغرق في بحر من الدم.

العرب ساكتون.

خيمة صفوان حققت لصدام البقاء في الحكم.

تحولت الهزيمة في الكويت الى انتصار لحاكم بغداد المهووس.

الخاسر الوحيد، كان الشعب العراقي.

من جديد ينجو صدام حسين من مصيره المحتوم.

نجا من محاولات اغتيال كان ابرزها حادثة الدجيل.

ونجا من الحرب مع ايران بعد ان قتل من الجانبين اكثر من مليون انسان.

نجا من غزوه الكويت.

واليوم، ينجو من الانتفاضة، ويقتل خلال ايام ما يزيد عن مائة الف مواطن. المعارضة العراقية تفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع بعضها، وفي فعالياتها ونشاطاتها من دمشق حتى الولايات المتحدة.

ففي الوقت الذي تجتمع فيه قوى المعارضة في دمشق خلال الفترة 3 ـ 10 يناير (كانون الثاني) 1992، استعدادا لعقد المؤتمر الثاني لها بعد مؤتمر بيروت، يبدأ البعض من تلك القوى بعقد لقاءات واجراء حوارات ثنائية ورباعية في لندن وفيينا وواشنطن، وتطلق الاتهامات من وراء الكواليس ضد قوى رئيسية في المعارضة، وتدعي فشل المعارضين لنظام صدام في توحيد صفوفهم او الاتفاق على برنامج وطني موحد.

تلك الزعامات التي تخفي رأسها وراء الكواليس، موزعة في عواصم عربية وشرق اوسطية.

كان بعيدا، وآثر ان يبقى بعيدا عن تلك الاجواء لفترة من الزمن، وابعد نفسه عن السفر الى لندن او الشام، وظل يراقب الاحداث من ديترويت وفي «مطبعة الشعب» التي تحولت الى منتدى يلتقي فيه المثقفون والمعارضونٍ لمتابعة ما يستجد من اخبار المعارضة فيما وراء البحار.

قرأ في الصحف اخبارا عن مؤتمر جديد.

ظهرت مدينة اوروبية جديدة على خريطة المعارضة.

فيينا تستعد لمنح تأشيرة الدخول لرجال المعارضة.

يقول الخبر المنشور يوم 22 حزيران:

«اختتم المؤتمر الوطني العراقي ـ مؤتمر فصائل المعارضة العراقية ـ اعماله خلال الفترة 16 ـ 19 بانتخاب هيئة تنفيذية للمؤتمر تضم 17 عضوا للاشراف على تنفيذ خطة العمل المشتركة التي تم اقرارها في مختلف مجالات العمل السياسي والميداني والعسكري للاطاحة بنظام صدام حسين وانقاذ العراق.

كما وافق المؤتمر في جلسته الختامية على رفع عدد اعضاء الهيئة العامة للمؤتمر الوطني العراقي وهو بمثابة (برلمان في المنفى) من 68 الى 87 عضوا لتحقيق اوسع قاعدة من التمثيل الشعبي والفئوي والسياسي في هذا البرلمان.

واكد البيان السياسي الختامي للمؤتمر ضرورة اعتماد كل الوسائل المشروعة للاطاحة بنظام صدام باعتباره المقدمة الضرورية لتحقيق لقية الاهداف بل المناخ الاساسي لعملية التغيير الشامل في العراق. ودعا الى اجراء انتخابات حرة نزيهة لانتخاب برلمان وطني عراقي بعد التغيير، كما دعا الى احترام التعددية الثقافية للمجتمع العراقي».

انتهى الخبر.ز برز لأول مرة أسم احمد الجلبي كرئيس للمؤتمر الوطني العراقي.

في وسط الخبر المنشور في الصحف، يقرأ اسماء الاحزاب والفصائل التي لم تحضر مؤتمر فيينا، وهي:

ـ المجلس الاسلامي الاعلى في العراق ( الحكيم).

ـ مجلس العراق الحر (سعد صالح جبر).

ـ حزب الدعوة الاسلامية (الآصفي).

ـ حزب العمل الاسلامي (محمد تقي المدرسي).

ـ الوفاق الوطني الديمقراطي (صلاح عمر العلي).

ـ الحزب الشيوعي العراقي (عزيز محمد).

ـ الحزب الاشتراكي الكردستاني (د. محمود عثمان).

ـ حزب الشعب الكردستاني (سامي عبد الرحمن).

ـ جمعية العشائر الكردية.

ـ التجمع الديمقراطي العراقي (صالح دكلة).

ـ الهيئة العراقية المستقلة (حسن النقيب).

ـ الهيئة العراقية الاستشارية (د. مهدي الحافظ).

ـ الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة وكندا (د. فائق بطي).

ـ حركة الضباط العراقيين.

ـ مجلس العشائر العراقية (سامي عزار المعجون).

ـ تنظيم الناصريين المستقلين (مصر).

ـ حركة الوحدة الشعبية (القوميين العرب ـ جاسم المعروف).

ـ الحزب الاشتراكي في العراق (د. مبدر الويس).

ـ شخصيات مستقلة وسفراء سابقون.

اعاد قراءة الخبر ثانية.. خبر المؤتمر والقوى التي لم تحضره.

ان الكثير من فصائل المعارضة التي لم تحضر مؤتمر فيينا هي من الفصائل التي تتشكل منها الهيئة التحضيرية للاعداد للمؤتمر الثاني للمعارضة العراقية، والتي هي بالأساس ضمن لجنة العمل الوطني المشترك.

اذن.. اي مؤتمر هذا الذي انعقد في فيينا؟

ما هو مصير مؤتمر بيروت والمؤتمر الجديد الذي ينتظره المعارضون؟

لماذا حضر الى فيينا ممثلون عن الادارة الأميركية ووزارة الخارجية البريطانية؟