الكتابة عندي نوع من الحياة الذاتية اليومية

TT

ان الكتابة عند أي كاتب هي نوع من الادمان وربما أقول إن هذا الادمان لا ينسي الكأس الأولى، ذلك أن الكاتب لما يبلغ نشاطه الكتابي مستوى معينا لا بد له أن يذكر أول عمل قام به ولماذا أيضا كتب؟ هذا السؤال يطرحه المبدع على نفسه طرح استنكار عندما يرفض أن يبقى كاتبا وأن يتخلص من الادمان الكتابي.

وأذكر أنه في البداية بدأت أكتب لأكتب، وما زلت اذكر اني كنت اخلد الى نفسي ساعات الفراغ من الدروس لأكتب، وربما كنت أفضل الكتابة على مراجعة دروسي وعلى الاستعداد للدروس المقبلة، كم أذكر أيضا اني بدأت أكتب أوراقا وأحيانا دفاتير تجمع الكثير من الابداع وأتركها جانبا. بعدها بدأت أفكر في عملية الخروج بالكتابة الى الآخر. العقبة الأولى التي واجهتها وأنا أفكر في أن أشارك القارئ فيما أكتبه هو أن المغرب أنئذ لم تكن فيه صحف. ومع ذلك كنت أقرأ صحفا أحيانا تأتي من القاهرة ومن تونس أو الشام، من قبيل «الأهرام» وجريدة «الزهرة» التونسية التي فتحت لي فرصة التطلع الى الكتابة فيها أيضا، مثلما رحبت جريدة «النور» بكتاباتي وكذا «مجلة المغرب» الثقافية التي كان يصدرها جزائري موظف بالاقامة العامة (ادارة الحماية الاستعمارية)، وكانت ميزتها أنها موقعة بأسماء كبار كتاب المغرب والشعراء، وارتقيت بشكل أوسع من خلال المشاركة باسمي في مجلة «الرسالة» القاهرية التي كان يكتب فيها الاستاذ طه حسين وأحمد أمين وأحمد زكي وعلي الطنطاوي وأيضا كبار شعراء العراق.

ربما أصف هذه المرحلة بأنها المرحلة المحتشمة في حياة كاتب لم يمتلك بعد الجرأة الكافية على الافصاح أحيانا عن اسمه في بعض الكتابات، وتخليت بعدها عن خجل البداية، وصارت كتاباتي متوالية جدا حتى أصبحت لا أقوم بأي عمل الا الكتابة، وربما أكثر مما أقرأ خصوصا بعد عودتي من مصر وتولي مهمة رئيس تحرير مجلة «رسالة المغرب» التي تمرس فيها قلمي على الابداع القصصي. هذا الباب جرأني على كتابة القصة أولا، والبداية كانت بمجموعة «مات قرير العين» في الستينيات.

أحسست لحظة صدور أول عمل لي باحساس الطفل حال نجاحه لأني دخلت فعليا عالم الطبع والنشر وسوق الكتاب، والأجمل هو ان هذا العمل أشعرني بأني قادر على أن أكون كاتبا ومبدعا يداوم على التواجد في موقع الاسماء العربية التي تواظب على الاتصال بالقارئ كتابة.

في أواخر الخمسينيات كتبت رواية ذاتية عن تجربتي في السجن وهي «سبعة أبواب» التي كانت تقريبا حقيقية أو هي، ان شئنا، العمل الابداعي الذي كتبني بقوة، وكان جزئا مني تقريبا لأنه حمل تأثرا وانفعالا كبيرا عشته واقعيا خلال الستة أشهر التي قضيتها سجينا. فعل الكتابة بعد السبعة أبواب تحول الى ادمان حقيقي يتملكني في كل أوقاتي ويسكنني حد الهوس في يقظتي ونومي. وهي الحالة التي جعلتني لا أرتاح الا حين أنتهي من عمل بدأته كما جعلتني أكتب قبل أن أكتب لأني كنت أتحدث وأخط أشياء كثيرة داخليا قبل أن أكتبها ماديا، وربما لهذا السبب أصبحت الكتابة عندي نوعا من الحياة اليومية الذاتية المتوالية في كل وقت وحين باستثناء أوقات العمل.

كانت وما زالت عادتي في الكتابة هي أنني عندما أكتب أنسى نفسي، وأدفن الماضي وأنسى أيضا ما كتبته سابقا وأوجه في المقابل طاقاتي الابداعية للعمل الذي يكون قيد الولادة، وتأتيني حالة أنه عندما أقرأ ما كتبته أحس بأنه نشاز، هذا فقط لان لدي نوعا من الممارسة الفكرية التي تكون أكثر من الممارسة الابداعية. والاكيد أن هذه الخاصية تجعل عملي مزيجا من الابداع والفكر كما تجعل ابداعاتي وليدة قضية محددة تتطلب ان تواكب في فعل الكتابة الشيق والمسؤول الذي نال نصف التزاماتي وكل وقت من أوقات عطلي الصيفية التي عادة ما أخرج فيها بكتاب، أو كتاب يحتاج الى روتوشات ليصير كتابا نهائيا. والأهم في هذه الرحلة هو أن طاقة الابداع لدي لا يحكمها الا هذا البركان الجميل الذي يسكنني وهو الكتابة والابداع الذي لا يلتزم بحدود العمر والسن، بل الأجمل هو أن ادماني على الكتابة لم يفتر يوما ولم يمهلني لحظة لكي أحتجب عنه.

* كاتب وروائي، عضو اكاديمية المملكة المغربية