جان جاك روسو أول «نجم» ثقافي عرفته الحضارة الحديثة

كان مشاءً كبيراً وحينما يدلف إلى مقهى تنسد الطرقات بالناس الذين يأتون لمشاهدته

TT

يرى المؤلف ان جان جاك روسو كان قد شغل الجمهور المثقف في عصره منذ ان أصدر كتابه الأول تحت عنوان: خطاب عن العلوم والفنون عام 1751م، وبعد ان تلاحقت كتبه وراء بعضها البعض وتزايدت شهرته حتى وصلت إلى مستوى شهرة فولتير وأكثر بعد موته عام 1778. ومعلوم ان كتاب «الاعترافات» صدر عامي 1782 و 1789 في اجزائه المتلاحقة. وقد فضل روسو ان ينشر بعد الوفاة لكيلا يسبب له مشاكل مع أناس أقوياء وأغنياء ونافذين هو بغنى عنها. ومعلوم ايضاً انه كان ملاحقاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته وممنوعاً عن النشر بقرار من السلطات العليا في فرنسا وسويسرا، وكانت كتبه تحث على البحث في حين كان هو يختفي عن الانظار خوفاً من السجن أو الاغتيال.

ثم يردف البروفيسور ريمون تروسون قائلاً: ومنذ البداية ظهر روسو وكأنه شخص غريب الأطوار وخارج عن الأطر والتقاليد الاجتماعية، وقد اختلف تقريباً مع كل الجهات بما فيها الجهة التي كانت هي الأقرب اليه: أي جهة الفلاسفة. اما عن الأصوليين المسيحيين فحدّث ولا حرج! فقد شنوا عليه حملة شعواء وكفروه وأدانوا افكاره واعتبروها بمثابة الخطر على الشبيبة. وهذا ما حصل لسقراط في وقته كما نعلم. فقد اتهموه ايضاً بالخروج على العرف السائد ودين الجماعة وإفساد الشبيبة. وبالتالي فروسو الذي أحدث القطيعة مع الأفكار الشائعة في عصره دفع الثمن باهظاً. صحيح انهم لم يسمموه او يقتلوه عن طريق تجرع الكأس الزعاف، لكنهم من كثرة ما لاحقوه نغصوا عيشه وقتلوه بشكل بطيء بعد ان عزلوه وحاصروه.

بالطبع كل هذا لم يمنعه من ان يصبح ضمير عصره ومنارته الفكرية العالمية. ولهذا السبب فإن علية القوم في ذلك الزمان كانوا يبحثون عنه ويرجونه كي يقبل بأن يخصص لهم ولو عشر دقائق من وقته. والمحظوظ هو ذلك الشخص الذي كان يقبل بأن يستقبله في بيته مطولاً، أو ان يمشي معه في نزهات واسعة في الطبيعة، وكان مشاءً كبيراً. وهناك آخرون عديدون اكتفوا برؤيته من بعيد عندما كان يمر في الشارع أو يجلس في المقهى وسط باريس مع بعض اصدقائه، وعندئذ كان الشارع يحتشد بالفضوليين وينسد ويتحول إلى مظاهرة.. وكانت الناس تصعد على الكراسي والطاولات لكي تلمحه ولو من بعيد.. ولم يكن صاحب المقهى يعرف كيف يتصرف في مواجهة هذا الوضع غير المسبوق. فالواقع ان روسو كان يمثل ظاهرة جديدة انبثقت لأول مرة في عصر التنوير، اي في القرن الثامن عشر. والمقصود بها حلول المثقف العلماني في محل المثقف التقليدي، اي رجل الدين بصفته القائد الجديد لعقول الناس وضمائرهم. لا ريب في ان فولتير كان يتمتع بنفس الامتياز وينافس روسو على الزعامة الفكرية والنجومية الشعبية اذا جاز التعبير، من هنا سر كرهه روسو وملاحقته له. لكن روسو كان يتفوق عليه من حيث النزاهة الشخصية والاخلاقية العالية التي لا تشوبها شائبة. ولهذا السبب تحول الى نوع من القديس العلماني الذي حل محل القديس المسيحي القديم.

وقد اعتقد روسو بأنه مكلف حمْلَ رسالة الى البشرية، وان عليه ان يضحي بكل ما يملك من أجلها، بما فيها حياته الشخصية اذا لزم الأمر. لهذا السبب استقطب روسو حوله الإعجاب الشعبي الى حد ان تحول الى قديس علماني! فقد نظف الدين المسيحي من كل الخرافات والخزعبلات وصالحه مع العقل.

وأصبح المثقف، او بالأحرى الفيلسوف لأن كلمة مثقف لم تكن قد ظهرت بعد، مشرعاً يقول للناس ما هو خير وما هو شر، ما هو حق وما هو باطل.

على هذا النحو حلّ المثقف العلماني في محل رجل الدين الأصولي في المجتمعات الأوروبية.

وحل بذلك محل الخوري او رجل الدين، على الأقل في الأوساط المتعلمة أو المستنيرة. اما في الأوساط الشعبية والأمية فقد ظلت الكلمة الأولى والأخيرة لرجل الدين. ولم تتغير الأمور نوعياً إلا في القرن التاسع عشر وبالأخص العشرين بعد ان كان التعليم الجديد، اي التنويري، قد انتشر ووصل الى معظم شرائح الشعب سواء في أعماق الأرياف النائية أو في الجبال العالية أو في أحياء المدن الفقيرة التي كانت حكراً على الأصوليين طيلة قرون وقرون.

في مثل هذا الجو ظهرت الكتب الاساسية لفلسفة التنوير ككتاب «رسالة في التسامح» أو «القاموس الفلسفي» لفولتير، أو كتاب «الموسوعة الضخمة» لديدرو وجماعته أو كتاب «اميل» و«العقد الاجتماعي» لروسو، وعموما جميع الكتب التي تقدم تفسيراً عقلانياً للدين المسيحي وتحاول التفريق بين جوهر الدين وقشوره او مظاهره السطحية. هي كتب خاضت معركة شرسة ضد التعصب الديني والرواسب الطائفية والكتب الصفراء التي كانت منتشرة جداً في ذلك العصر، تماماً كما هو عليه الوضع في العالم الاسلامي حالياً.

لكن السؤال الذي يطرحه المؤلف في المقدمة الضخمة للكتاب والتي حاذت الخمسين صفحة هو التالي: لماذا توصل روسو وحده إلى مرتبة القديس العلماني في ذلك العصر والعصور التي تلته ؟ لماذا لم يحظَ بهذه المرتبة شخص كفولتير على الرغم من ان شهرته كانت تعادل شهرة روسو وتنتشر في كل انحاء أوروبا ؟ ثم لماذا لم يصبح قبر فولتير محجَّة للزائرين الكبار والصغار كما حصل بالنسبة لضريح روسو والأماكن التي عاش فيها؟ على هذه الأسئلة لا يوجد إلا جواب واحد: هو ان روسو جسد الفضيلة والحقيقة في شخصه الى درجة ان الكثيرين من معاصريه راحوا يشبهونه بسقراط، فمثلا قال لأحد اصدقائه الخلّص ممن يريدون ان يقدموا له شاباً متحمساً لافكاره ويريد التعرف عليه: «أرجوك لا تأت به معك. فقد كتب لي رسالة يصفني فيها بأني فوق يسوع المسيح! انه يخيفني ولا أستطيع ان أراه».

وحتى مالزيري (وزير الثقافة في عهد لويس الخامس عشر) كتب عنه بعد موته بسنتين قائلاً: «لا يوجد شخص في التاريخ يمكن ان يقارن به إلا سقراط».

وهناك شهادات عديدة تدل على انه كان قد تحول الى اسطورة في حياته فما بالك بعد مماته ؟! فقد كتب اليه احدهم يقول: «يا أيها الكائن الفريد في نوعه على وجه الأرض، هذه الأرض التي لا تليق بإقامتك. يا سيدي ومعلمي اسمح لي ايها العزيز روسو ان أذهب لكي أقبل آثار خطاك قبل أن اتبعها وأسير على هداها..».

وأما أحد الارستقراطيين السويسريين فيقول: عندما رأيته شخصياً لأول مرة ارتعبت، خفت، وأصابتني قشعريرة من أعلى رأسي إلى أخمص قدمي ونزلت من عيني الدموع..

كيف كان روسو يستقبل كل هؤلاء المعجبين؟ هذا ما يرويه لنا الكتاب بالتفاصيل وبشكل ممتع جداً. وبالطبع فلا نستطيع ان نتوقف عند شهادات كل اولئك الذين رأوه وعرفوه عن كثب. لكن هناك شيئاً واحداً تركز عليه جميع الشهادات تقريباً هو: عيناه. يقول بهذا الصدد أحد الأمراء الأوروبيين بعد ان زاره في بيته الفقير والمتواضع في باريس: كانت عيناه ككوكبين يلمعان! كل عبقريته كانت تشع في نظراته فتكهربني!. وعندما تركته شعرت بنفس الفراغ والأسى الذي يشعر به المرء عندما يستيقظ فجأة بعد أن رأى حلماً جميلاً كان يتمنى ان يطول..».

بالطبع فهؤلاء، أو معظمهم، كانوا يزورون فولتير ايضاً ويتمنون رؤيته بصفته نجماً ثقافياً كبيراً. لكنهم على الرغم من إعجابهم به ما كانوا يخشعون أمامه أو يشعرون بنفس القشعريرة التي يحسون بها أمام روسو. والسبب هو ان روسو كان فقيراً ومخلصاً لحقيقته حتى درجة الاستشهاد ولم يستخدم شهرته لنيل الفلوس ولم يقبل عطاءات الملوك كما فعل فولتير وديدرو وآخرون عديدون. كلهم كانوا يتقاضون رواتب سرية أو علنية من هذا الملك أو ذاك، ما عدا روسو.

يضاف إلى ذلك انه دفع ثمن افكاره من خلال الملاحقات والتهديدات التي ما انفك يتعرض لها حتى مات.

تضاف الى ذلك ايضاً نزعته الانسانية العميقة التي قلّ نظيرها في التاريخ.

لقد تنبأ روسو بالثورة الفرنسية قبل ان تندفع بثلاثين سنة وذلك بعبارات دقيقة، مدهشة، لا تكاد تصدق. ومعلوم انها اندلعت بعد موته بعشر سنوات أو اكثر قليلاً. وعندئذ زاد احترام الناس له وأصبح كتابه «العقد الاجتماعي» انجيل الثورة الفرنسية كما هو معروف. وبالتالي فهو الأب الروحي والفكري للعصور الحديثة.

ولهذا السبب حقد عليه عصره، أو بالأحرى الطبقات المتنفذة فيه، وأراد قتله. والواقع ان افكاره زرعت بذور الانقلاب الذي حصل لاحقاً. ولهذا السبب تحول قبره بعد موته إلى محجة للزائرين كباراً وصغاراً. نذكر من بينهم ملك السويد الذي جاء متخفياً، ومتنكراً في زي رجل عادي، وروبسبير الزعيم المقبل للثورة الفرنسية، وماري انطوانيت، وحتى نابليون بونابرت، ويقال بأن هذا الأخير بعد ان طاف بقبره عدة مرات وقف أمامه وقال: كان من الأفضل ألا يوجد شخصان على وجه الأرض: جان جاك روسو وأنا! فاندهش مرافقوه جداً وسأله أحدهم: ولماذا يا جلالة الامبراطور؟ فأجاب: لانه هو الذي مهد للثورة الفرنسية وانا الذي نشرها في شتى أنحاء العالم على أسنة الحراب.. فرد عليه مرافقه مستوضحاً: ولكن كنا نعتقد يا جلالة الامبراطور ان آخر من يحق له ان يشتكي من الثورة الفرنسية هو انت! ألست قائدها؟

في الواقع ان نابليون كان يريد ان يقول ما معناه: لولا أفكار روسو لما اندلعت الثورة الكبرى ولظلَّت فرنسا مرتاحة البال ولما تعرضت لكل هذه الخضات والهزات التي قلبتها رأسا على عقب، لكن كان يقول ذلك على سبيل التواضع الكاذب. فنابليون آخر من يحن إلى العهد القديم السابق على الثورة كان يريد ان يُفهم الآخرين حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه وعاتق روسو وكل رجال التغيير في التاريخ.

وفي القرن التاسع عشر تكاثرت الزيارات الى قبر روسو والأماكن التي عاش فيها. ومن بين الزائرين الكبار نذكر فيكتور هوغو، وبلزاك، وستندال، وميشليه، ولامارتيني، وجورج صاند، وآلاف البشر العاديين. وهكذا استطاع رجل الطبيعة والحقيقة، رجل النزاهة والصدق، ان يجمع حوله خيرة العقول التي انتجتها فرنسا على مدار العصور. والواقع ان اول شخص أعلن النظام الجمهوري، أي الديمقراطي الحديث، في فرنسا هو جان جاك روسو. ولهذا السبب لم يغفر له اليمين المتطرف فعلته تلك. وظل يلعنه على مدار الأجيال: أي حتى الآن تقريبا. فشارل موراس زعيم اليمين الفرنسي في القرن العشرين كان يعتبره السبب في كل مآسي فرنسا ويحذر الناس من قراءة كتبه.