وقائع تهجير أهالي حلفا من شمال السودان إلى شرقه

بعد 40 سنة تحول الكتاب إلى وثيقة تاريخية

TT

كتاب قصة «هجرة أهالي حلفا» يمثل أهمية بالغة لوقائع تهجير سكان مدينة ذات تاريخ بعيد امتد لأكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، واضطروا للخروج منها نتيجة قرار حكومي باخلائها لتسهيل قيام السد العالي في مصر، حيث أغرقتها مياه السد العالي بالكامل عام 1964 .

المؤلف حسن دفع الله، المسؤول الاداري الأول في مدينة حلفا، وضع الكتاب نقلا عن يومياته، حينما وقع عليه عبء تنفيذ عملية تهجير أهالي حلفا بالقطارات الى خشم القربة بشرق السودان، وكتبه بالانجليزية وترجمه للعربية عبد الله حميدة.

والكتاب يتكون من 25 فصلا، وحمل بعضها العناوين التالية: وصول المؤلف لأول مرة لمدينة حلفا، وصف لمدينة حلفا وتاريخها، ارض النوبة وسكانها، السمات الشخصية للنوبيين المعاصرين، اقتصاديات الأرض في بلاد النوبة، السد العالي وردود الفعل الأولى، الاحصاء ومشكلة التعويضات، اختيار موقع إعادة التوطين، بدايات بناء الوطن الجديد، اعداد برنامج تهجير السكان، المرحلة التاريخية للباخرة (الثريا) عبر الشلالات، التهجير، الموقف في حلفا وخشم القربة بعد عملية التهجير، تكاليف التهجير واعادة التوطين وإلى جانب هذه الفصول هنالك ملحق للمسح السكاني لوادي حلفا. أكثر الفصول اثارة الفصل التاسع عشر (اللمسات الأخيرة لما قبل الرحيل) والفصل العشرون (التهجير)، فقد نقل المؤلف الأجواء الحزينة التي سادت وادي حلفا والمخاوف التي ساورت اهلها، حيث يتحتم عليهم مغادرة وطن ولدوا وعاشوا فيه أباً عن جد وألفوه واحبوه الى درجة عدم استجابتهم لأي دعوة من ابنائهم في الخارج مهما بلغ الالحاح عليهم.

ونقلا عن يومياته، قال المؤلف: عندما اقترب الموعد النهائي للرحيل للموطن الجديد خشم القربة بشرق السودان كنت أقوم بزيارات منتظمة الى القرى الشمالية، وامضي معظم الوقت في القرى أشرح للمهجرين ما هو مطلوب منهم قبل أن يغادروا الى الوطن الجديد، وعن الترتيبات التي أعدت من أجل سلامة الرحلة بقطار «السكة الحديد». ويتناول مشهد الرحيل الحزين.

في فجر السادس من يناير 1964 تم تجهيز قطار الركاب واعداده بالمحطة، كما وجدنا الممرضين وهم ينظفون عربة المستشفى ويضعون المساند على الأسرة، لاستقبال أي مريض أثناء الرحلة الطويلة، وادخل أولا المرضى والمسنون وذوات الحمل المتقدم تحت اشراف الطبيب للأماكن المخصصة لهم، ثم حلت ساعة الفراق، حيث دخل معظم ارباب الأسر الى منازلهم لألقاء النظرة الأخيرة عليها ثم خرجوا وهم ينزعون المفاتيح الخشبية من الأبواب الخارجية تذكارا وجدانيا عزيزاً، واتجهوا بعد ذلك في موكب كبير الى المقابر لقراءة الفاتحة على قبور اسلافهم وموتاهم وعادوا يذرفون الدموع ويبكي بعضهم بحرقة وعويل، وظلوا يديمون النظر الى موطنهم. وفي المساء حين أرسل القطار صفارته العالية انهمرت دموع غالب الركاب بينما عمت المحطة نوبة من العويل والصراخ في اوساط المودعين، وأخذت اتسمع بانتباه الى ما يقولون بالنوبية وهم يلوحون بعمائمهم للمسافرين قائلين (أفيالوقو.. هيروقو) أي (رافقتكم العافية.. وعلى خيرة الله) وعندما أخذ القطار يتحرك كان الحلفاويون قد خطوا فعلا أولى خطى الخروج من دارهم التي ستغمرها مياه السد العالي بعد حين، وظل المسافرون يحدقون في موطنهم حتى تتضاءل في انظارهم كلما أوغل القطار جنوبا واختفى بعيداً عن الانظار.

وحرص المؤلف على نقل مشاهد مؤثرة للقطار الذي نقل أول دفعة من أهالي حلفا الى الوطن الجديد في خشم القربة بشرق السودان، ووصف الاستقبالات الحاشدة للقطار من جانب سكان المدن الأخرى الذين ارادوا التعبير لهم عن المساندة والمشاركة والتقدير لما قدموه من تضحية غالية وقدموا لهم الهدايا الكبيرة والكثيرة باسم مدنهم.

ولقد توفي المؤلف حسن دفع الله الذي سجل هذه التجربة النادرة المثيرة في كتاب «هجرة النوبيين» عام 1974 وظهر بالانجليزية بعد وفاته بنحو عام، وترجم وطبع بالعربية بعد ثلاثين سنة من رحيله واربعين سنة من تهجير اهالي حلفا في الشمال الى خشم القربة في الشرق. واصبح الكتاب بمثابة وثيقة تاريخية شملت الوقائع والتفاصيل لهجرة شعب نوبي عريق الى منطقة مغايرة في مناخها وبيئتها لما ألفوه وعاشوه، لكنهم استطاعوا بفضل حضارتهم وخبرتهم ان يتعايشوا فيها ويضيفوا اليها وينموا قدراتها الانتاجية بوجه خاص في الزراعة.