شهادات حية عن حروب تتناسل

الكاتب العراقي صلاح النصراوي يرصد وقائعها ومآسيها من خلال عيون عراقية

TT

يتتبع الكاتب والصحافي العراقي صلاح النصراوي وقائع حروب صدام حسين خلال حوالي ربع قرن حكم فيها العراق وما خلفته هذه الحروب من مآس وجرائم انسانية بلغت اكثر من مليون قتيل وجريح ومعاق وأودت بالعراق في النهاية الى الوقوع تحت براثن الاحتلال الاجنبي.

وعلى عكس معظم الكتابات التي تناولت المشهد العراقي الراهن يطرح النصراوي في كتابه «ذاكرة الحروب» الصادر حديثا من وكالة الصحافة العربية بالقاهرة رؤيته لهذه الحروب من خلال عيون عراقية بعد ان كان قد ساهم في تغطيتها كمراسل صحافي لوكالة انباء «الاسوشيتد بريس». قد لا يكون ممكنا تسجيل كل وقائع هذه الحروب بمقدماتها ونتائجها على المستويات العسكرية والسياسية والانسانية بسبب امتداداتها المتشعبة لكن النصراوي يوضح منذ البداية بأن محاولته تعتمد على بعض ما دونه في دفتر ملاحظاته الصحافية خلال هذه الفترة الطويلة ومشاهداته وانطباعاته الشخصية الا انه يأمل ان تكون مساهمته مدعاة لشحذ همم شخصيات عراقية أو اخرى شهدت الوقائع التي ارتبطت بهذه الحروب كي تبادر وتدلي بشهاداتها خدمة للحقيقة والتاريخ في أحداث من أهم واخطر ما شهده العراق خلال تاريخه الحديث.

وخلال خمسة فصول يستعرض المؤلف الاحداث الابرز في هذه الحروب بدون الدخول في تفاصيلها الكثيرة في لقطات بدت كمشاهد سيناريو حين تتجمع تنتج شريطا من الاحداث والافكار التي ترسم صورة مثيرة للخيال عن وقائع تلك الدراما البشرية والسياسية التي عاشها ولايزال يعيشها العراق. ففي الفصل الاول الخاص بالحرب العراقية الإيرانية ينفتح المشهد قبل اكثر من عام على بدئها ومن اليوم الذي تسلم فيه صدام السلطة وما رافقه من تصفيات في قيادة حزب البعث والتي مهدت له الانفراد بالسلطة وبداية مشواره الى الديكتاتورية المطلقة التي كانت الحروب إحدى وسائل تحقيقها مثلما كانت احدى نتائجها المريعة لا يقتصر هذا الفصل على القاء الضوء على بعض وقائع الحرب على الجبهة العراقية التي شاهدها المؤلف بنفسه بل يحاول فيه ان يربط بينها وبين ما كان يغذيها من مواقف وسياسات اقليمية ودولية رسمت رقعة الشطرنج التي لم يكن صدام فيها غير بيدق تحركه اصابع خفية. ويرى أن ذلك لم يكن طبعا استنتاج صدام نفسه الذي رأى تجرع عدوه اللدود الخميني لكأس السم وقبوله بانهاء الحرب انتصارا ساحقا له على ايران الخمينية والذي اراد تقديمه هدية الى العرب الذين حمى لهم ما دعاه بوابتهم الشرقية من السقوط على وقع اقدام اعدائهم الفرس.

في الفصل التالي ينتقل المؤلف الى الفترة التي اعقبت الحرب العراقية الايرانية والتي مهدت كذلك لحربه القادمة التي بدأت بغزوه للكويت، في هذا الفصل يطلع القارئ على اهم الاحداث التي كانت المحطات التي أوصلت قطار الحروب الصدامية الى مرحلته الثانية ومن ابرزها إعدام الصحافي الإيراني فرزاد بازوفت وتأسيس مجلس التعاون العربي والمواجهة العراقية الاميركية بشأن برامج الاسلحة العراقية والازمة مع الكويت حيث يقدم تفسيرات جديدة في اطار محاولته الكشف عن طموحات الزعامة الاقليمية التي بدأت تطغى على سلوكيات الرئيس العراقي السابق بعد خروجه منتصرا في الحرب على ايران. هذا الفصل يتناول ايضا غزو الكويت حيث يروي المؤلف تجربة صحافي عراقي يغطي الغزو ويدخل الى الكويت مع القوات الغازية وهي تجربة مثيرة كان بامكانه ان يتوسع فيها اكثر ليلقي المزيد من الضوء على تجربة كهذة لم تتوفر لصحافيين آخرين في الصفحات التي يفردها للحرب التي شنتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة خلال شتاء عام 1991 ويتناول المؤلف يومياته خلال المعارك التي غطاها تحت وابل القنابل والصواريخ التي كانت تضرب المدن العراقية.

وتتناول فصول الكتاب الثلاثة الاخرى الحرب الأخيرة بمقدماتها واحداثها ونتائجها التي لم تنته بعد وفيها إضاءات على بعض التطورات التي قادت إليها وساهمت في التعجيل بها ومنها هروب حسين كامل الى الاردن ونشاطات المعارضة العراقية وأحداث 11 سبتمبر 2001 وموضوع أسلحة الدمار الشامل ومؤتمرات القمة العربية الى الحرب ذاتها التي غطاها هذه المرة من خارج العراق لكنه ظل في صميمها وهو ما تكشفه وقائع اليوميات التي بدونها عنها وبعض يوميات هذه الفصول تطرح قضايا وأسئلة مهمة عن تطورات المشهد العراقي مثل دور المعارضة العراقية في التمهيد للحرب والموقف العربي المتردد والمتذبذب منها ومسألة أسلحة الدمار الشامل وكيف انه اكتشف في وقت مبكر وعلى حد قوله بأن معظمها لم تكن إلا قصصا مسلية في الصحافة الغربية هدفها تقديم الذريعة لشن حرب كانت قادمة لا محالة.

ويؤكد المؤلف ان هناك خيوطا عديدة تجمع بين الحروب الثلاث وهدف المؤلف كما هو واضح هو كشفها والربط فيما بينها بهدف تكوين صورة رسمها بقلم الصحافي ومن خلال يومياته وليس بقلم المؤرخ عن اخطر الاحداث التي عاشها العراق خلال ثلاثة عقود وصفها بانها احداث كانت نتيجتها الاكثر كارثية حيث انها جعلت العراق البلد الوحيد في العالم الذي يتم احتلاله كاملا وسلبه استقلاله ويترك مصيره تلعب به الاقدار وكل ذلك بفضل تلك الحروب التي خاضها صدام لا من اجل العراق كما كان يشيع بل من اجل تحقيق أوهام الزعامة واقتناص مجد كاذب.