لا يوجد مجتمع يتكلم لغة واحدة أو لهجة واحدة

عبده الراجحي يرى اللغة بنظّارات اجتماعية

TT

تكمن أهمية كتاب الراجحي الجديد في انه ينظر إلى اللغة من زاوية اجتماعية، وهذه الدراسات تفتقدها المكتبة العربية. فالمؤلف يقول في مقدمته عن هذا الفرع العلمي انه «فن من فنون البحث اللغوي، أخذت أصوله تتضح وتستقر في السنوات الأخيرة، وهو الذي يعرف الآن بعلم اللغة الاجتماعي»، وفي كلامه شيء كثير من الصحة، إذ نادرا ما نجد هذه الشعبة تدرس كمادة في جامعاتنا، سواء في قسم اللغة او في قسم العلوم الاجتماعية.

لعل من مأساة الدراسات اللغوية القديمة، كما يرى الكاتب، أنها فصلت نفسها عن الحياة وتقوقعت في صَدَفة النحو معزولا عن انخراطه الحيّ والساخن في كل خلايا الحياة اليومية، ولعل اللغة هي الشيء الوحيد الذي لا ينفصل عنا حتى في فترات النوم، بحسب رأي الباحث النفسي اريك فروم في كتابه الغني «اللغة المنسية»، كما ان من مأساة الدرس اللغوي أيضا انه صبّ اهتمامه على نمط واحد من اللغة هو اللغة المكتوبة رغم ما تمتاز به اللغة الإنسانية من طبيعة صوتية، مما جعل الدارس اغلب الأحيان يمارس ضربا من الاضطهاد والتمييز العنصري في ما يضع من دراسات حين يحصرها في خانة الخطأ والصواب انطلاقا من معايير مسبقة، معايير تقوم أحيانا على أسس آيديولوجية وليس لغوية إلى ان جاء فرديناند دي سوسير، مؤسس علم اللغة الحديث، ووضع حدا جميلا للغة وهو أن على عالم اللغة ان يدرسها في وسطها الطبيعي، أي في المجتمع من حيث هي علامات اجتماعية.

إن تحرير اللغة، في أي حال، من أيدي اللغويين المحض أفادها إفادات جمّة وأفاد اللغويين أنفسهم أيضا حيث صار من الطبيعي ان يستعين اللغوي بعلوم كثيرة، كما يقول الكاتب، كالجغرافيا والإحصاء والفيزياء وعلم النفس والاجتماع والانتروبولوجيا، مما أعاد للغة خصوبتها الفعلية وأعان على فهم أعمق وأسلم لهذا السلاح الفتاك القابع في فم الإنسان.

يعتبر المؤلف أن اقتران علم اللغة بكل العلوم كان وليد حاجة عملية وليس وليد ترف اكاديمي، فالاهتمام بعلم اللغة الاجتماعي كان ابن الظروف التي تعيشها الدول النامية والمتقدمة على السواء. ولا تخلو لغة من لغات العالم من مشكلة ما مع الناطقين بها، لكأنها سنّة اللغات كما سنّة الحياة، بحكم الصراعات الدائمة بين طبيعة اللغة المتحركة ورغبة الإنسان في تثبيت الاعراف ومنها الاعراف اللغوية. وهذه الصراعات ليست حكرا على الدول الضعيفة، فحتى الولايات الاميركية لا تخلو من أزمات لغوية، باعتراف علمائها أنفسهم ومنهم وليم لابوف.

يقول عبده الراجحي ان الخلاف بين الدرس اللغوي المحض والدرس اللغوي الاجتماعي هو في عملية تقسيم اللغة، ففي الدرس اللغوي يهتم الدارس بالجملة، أما في الدرس اللغوي الاجتماعي فان اهتمامه يذهب إلى محاولة اكتشاف «بناء تتابع الجمل» وتبيان مفاصل التبادل الكلامي، فالإنسان لا يحكي مع ذاته إلا نادرا، ولكنه يحكي مع الآخرين اغلب الأحيان.

كما ان النظرة الاجتماعية للغة حررت المفردة من المعجم وربطتها بالاستعمال، وهذا ما يقوله الفيلسوف اللغوي فتجنشتاين من «ان ليس للكلمة معنى وإنما لها استخدامات» والاستخدام هو الذي يضفي على اللفظ المعنى الطارئ إذ ثبات الدلالات من الاستحالات. ومن الاهتمامات الطريفة التي يتعرض لها الدرس اللغوي الاجتماعي اليوم ما يعرف بـ«التحول الكلامي» إذ لا يوجد مجتمع يتكلم لغة واحدة أو لهجة واحدة، والإنسان يتجّول في طبقات الكلام واللهجات باستمرار وذلك لأسباب وعوامل اجتماعية.

هذا الاختلاف في النظرة يشكل أحد الخلافات الجوهرية بين اللغويين الذين يعزلون «بعض» الظواهر اللغوية لدراستها في حد ذاتها وبين علم اللغة الاجتماعي الذي يصرّ على دراسة الظواهر اللغوية في إطار «كل» ما في المجتمع. وغاية هذا العلم كما يقول المؤلف الوصول إلى نظرية لدراسة أنواع الأحداث الكلامية، لأن الخط البياني لكل حديث متعرج متلوٍّ أشبه بحركة الأفعى. وللتوصل إلى أسس نظرية تحتضن قوانين حركة الخطاب لا بد من اتباع طرق علمية صلبة تقوم على البحث الميداني.

ويقف الكاتب عند نظرية تعرف بـ«النظرية السياقية» لأنها تمثل ركنا من أركان الدرس اللغوي، وتعدّ هذه النظرية جزءا أساسيا من النظرية اللغوية في بريطانيا، ساهم في بلورة أسسها كل من العالم الانتروبولوجي مالينوفسكس والعالم اللغوي البريطاني فيرث الذي نقّحها وعدّلها حتى أضحت مقرونة باسمه. ومن أهم الطروحات لهذه المدرسة ان الكلمة حتى تفهم لا بد من ربطها بثقافة المجتمع، والترجمة ممكنة فقط عند فهم السياق الثقافي وليس فقط السياق اللغوي. ويقول ان احد أسباب سهولة الترجمة بين اللغات الأوروبية مردّه إلى اشتراك هذه اللغات في الميراث الثقافي، ولعل هذا النقص أحيانا لدى بعض المستشرقين هو ما أوقعهم في سقطات مضحكة لدى ترجمة بعض النصوص، كما لاحظ مارون عبود حين نقده لكتاب المستشرق الفرنسي رجيس بلاشير عن المتنبي على سبيل المثال. وهل سوء الفهم اللغوي في غالب الأحيان إلا نتيجة لفصل حادّ بين اللغوي والثقافي أو بين اللغوي والاجتماعي، كما يقول ادوارد هول صاحب الكتاب الخصب «اللغة الصامتة» ؟ ولتعزيز هذا النمط من الدراسات نزل احد أتباع فيرث إلى السوق ودرس اللغة كما تتم في الحياة، بلا رتوش وبلا احكام مسبقة، فالادب لا يصلح بمفرده لدراسة اللغة لانه ليس صورة فوتوغرافية عن حياة اللغة في المجتمع، انه اقرب إلى الرسم الزيتي، أي تتقلص فيه الحيادية إلى حد كبير. ومن الدراسات الممتعة والعملية بهذا الخصوص ما قام به العالم ت.ف. ميتشيل في بحثه عن «لغة البيع والشراء في سيرانايكا». أي اللغة وهي تسعى إلى التأثير في زعزعة الأسعار، وما زالت المكتبة العربية إلى اليوم تتنظر دراسات من هذا القبيل كدراسة لغة المفاوضات مثلا، فلكل غرض أو موقع استراتيجية خاصة، وأحيانا لا تكون أسباب الفشل إلا وليدة عدم معرفة استراتيجيات الخطاب، أو شروط الاتصال الاجتماعية بتشعباتها العديدة والمرنة في آن. وهنا يشير الدكتور عبده الراجحي إلى نقطة عربية شديدة الأهمية تلخصها مقولة «لكل مقام مقال»، كما يقف عند الإشارات التي ربطت لدى مفسري القرآن بين الآية وبين «أسباب النزول» مستشهدا بقول للواحديّ يقول فيه: «إذ هي (أي أسباب النزول) أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأول ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها». كما يورد ما قاله ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن»، أو قول ابن تيمية «معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية فان العلم بالسبب يفيد العلم بالمسبّب». من هنا نرى ان كل الكتب التي تطرقت إلى علوم القرآن ادرجت بابا مخصّصا لأسباب النزول، أي ربط القول بالظرف الاجتماعي أو بالمكان الجغرافي، منعا لالتباس المعنى كما فعل السيوطي في كتابه الممتع «الإتقان في علوم القرآن». وهذه الإشارات كان لها نظائر في الدراسات اللغوية، منها قول لابن جني، أحد أعلام العربيّة، يطالب فيه بالاعتماد على الحضور والمشاهدة وعدم الاكتفاء بالسماع، مستشهدا بقول طريف لشخص قال: «أنا لا أحسن أن أكلّم الناس في الظلمة»، لأنّ الظلمة، حكما، تخفي بعض سياقات الكلام، منها على سبيل المثال ما يرافق الكلام من إشارات جسمانية لا يكتمل معنى القول إلا برؤيتها. ألا تتناقض الدلالات الحرفية أحيانا للأقوال مع الحركات الجسمانية التي ترافقها، كغمزة عين تكشف عن الذم في كلمات لا تحمل إلا معنى المدح. من هنا يخصّص الكاتب فصلا مشوقا عن اللغة والحركة الجسمية، وهو علم بكر، جديد، فيتوقف عند العالم الانتروبولوجي الأميركي راي بيردويستل الذي ارتاد طرائق هذا العلم، وأصّل منهجه، واضعا للحركة الجسمية نحوا شبيها بالنحو اللغوي. لان الكلام حين يعزل عن الجسد يقع أغلب الأحيان فريسة الالتباس المعوق للتواصل، لذا ذهب البعض إلى اعتبار ان اللغة لا تخرج فقط من الفم وإنما من كل أعضاء الإنسان، من هنا قول احدهم «كل جسدي فم». ومن الأبحاث الطريفة التي تعرض لها الدكتور عبده الراجحي الدراسة المقارنة لاستخدام الأجسام على المسرح الفرنسي والمسرح الأميركي فخلص الباحث إلى ان المسرح الأميركي يركز على الممثلين الأبطال الذين يؤدون الأدوار الأولى على حين تبدو ادوار الممثلين الثانويين ضعيفة باهتة، ويظهر ذلك واضحا حين يؤدي هؤلاء الثانويون أدوارهم بالتركيز على النطق اللفظي، أي ان الممثل ينطق جملة مثلا ثم ينتظر حتى يأتي دوره، أي انه لا يستعمل الحركة الجسمية بحيث تجعله في حضور مستمر. أما المسرح الفرنسي فلا يركز على الأدوار الأولى من خلال «حركة» الممثل الثانوي الذي يظلّ حاضرا بفضل استثمار جسده حتى عندما لا يقول شيئا. ومن الدراسات التي يهتم بها علم اللغة الاجتماعي: اللهجات الاجتماعية، وعلاقة اللهجة بالعمر أو المهنة أو الجنس، فمعجم الشباب غير معجم الشيوخ، ومعجم النساء غير معجم الرجال، بحيث ان كل شخص يتنقل بين اللهجات في كل لحظات حياته، ولا ينحصر في لهجة واحدة، فعلى صعيد علاقة اللهجة بالجنس، يلحظ المؤلف ان هناك لغة للرجال ولغة للنساء، ومن الواضح «ان النساء حين يلتقين وحدهن يتحدثن لغة تختلف عن تلك التي يتحدثها الرجال حين يلتقون وحدهم أيضا، وهم جميعا يتحدثون لغة ثالثة حين يلتقون معا».

ان العالم العربي يحتاج إلى هذا النمط من الدرس وخصوصا أننا نعاني من ثنائية لغوية حادة بين الفصحى والعامية من جهة، وبين اللغة العربية واللغات الغربية من جهة ثانية، واغلب الظن ان تعزيز هذا النمط من الدرس اللغوي يساهم في تخفيف التوتر وردم الفجوة بين العامية والفصحى كما يساهم في بناء علاقة سليمة بين العربية واللغات الأخرى كالفرنسية والإنكليزية وغيرهما من اللغات التي نستضيفها في ديارنا وعلى ألسنتنا. =