رد الاعتبار للبحث الببليوغرافي في المغرب

«سوسيولوجيا التراكم الثقافي» يجمع بين التوثيق والقراءة المعمقة

TT

يحظى البحث الببليوغرافي في المغرب باهتمام خاص وبكتابات موازية مهمة، حتى أضحت أسماء بعض الباحثين المغاربة مرتبطة به، سواء في بعده التراثي أو في بعده الحديث والمعاصر، في مجاله الأدبي، أو في مجاله الثقافي العام. ويكفي هنا أن نتأمل بعض ما تم إنجازه وإصداره من كتب ببليوغرافية ودلائل ومعاجم وفهارس وأنطولوجيات في مجموعة من مجالات التعبير والميادين المختلفة، من بينها الشعر والقصة والرواية والمسرح والسينما والسوسيولوجيا والموسيقى والرحلات والحركة الوطنية والقانون والعلوم الإنسانية والدراسات الأدبية والقانونية والإعلام، ينضاف إليها البحث في المؤسسات الثقافية ودلائل الكتاب والمعاجم والمدن، وغيرها من المجالات التي اهتم بها البحث الببليوغرافي والفهرسة في المغرب، وخصوصا منذ ثمانينيات القرن الماضي. سوف نلاحظ أن ثمة إضافات كمية ونوعية على مستوى التراكم الببليوغرافي في المغرب، وأيضا على مستوى تجدد طرائق البحث فيه، باللغة العربية، وبغيرها من اللغات الأجنبية الأخرى، وخصوصا الفرنسية والإسبانية والإنجليزية..، مما يجعلنا نلمس عن كثب مدى الأهمية التي يوليها اليوم الباحثون المغاربة لهذا النوع من البحث.. ومن بين هؤلاء الباحثين، المواكبين والمنشغلين بالبحث والعمل الببليوغرافي، إلى جانب انشغالاته الفكرية الأخرى، الباحث السوسيولوجي أحمد شراك، الذي صدرت له في هذا الباب بعض الكتب المهمة، آخرها بعنوان «سوسيولوجيا التراكم الثقافي» (منشورات المركز الوطني للإبداع المسرحي والسينمائي). والكتاب ليس من صنف تلك الكتب التوثيقية التي تتوقف عند حدود الجرد الببليوغرافي، بل هو قراءة عميقة في التراكم الثقافي بالمغرب، بشكل يساهم من خلاله الباحث في تأسيس سوسيولوجيا للثقافة بالمغرب، عبر تخصصه وبحثه الممتد والموسع في طبيعة هذا التراكم الثقافي، بتفريعاته وحقوله وموضوعاته وأجناسه ومجالاته التعبيرية والمعرفية المختلفة، وأيضا من خلال البحث في بعض الأسئلة المتعلقة بهذا التراكم الثقافي، وبالوضع الثقافي والفكري والأدبي في المغرب، بما هو كتاب يرد الاعتبار، من ناحية، للبحث الببليوغرافي في المغرب في بعده العلمي، وللثقافة الوطنية، في ارتباطها بقضايا وإشكالات الكتابة والنشر والتلقي ومعوقاتها، وأيضا في منجزها المضيء، وفي تراكمها وانفتاحها على الثقافات الكونية، من ناحية ثانية. وهو مستوى تمكن الباحث من صياغته ورصده في هذا الكتاب، حيث"توقف على نحو خاص في كسب هذا الرهان. وفي هذا ما يفسر أننا نقرأ عمله كأنه «رواية جميلة..»، على حد تعبير عبد الرحمن طنكول، في تقديمه للكتاب (ص7)، وهو الذي يعتبر أيضا من بين الباحثين المغاربة المهتمين والمنشغلين بالعمل الببليوغرافي في المغرب، وله في هذا المجال بعض الإصدارات والأبحاث المؤثرة والمهمة، الموازية لأبحاثه وكتاباته النقدية.

تتوزع مباحث الكتاب على ثلاثة فصول رئيسية، حددها المؤلف على النحو التالي: أسئلة التراكم الثقافي، حول التراكم الثقافي، ببليوغرافيا التراكم الثقافي باللغة العربية وبغيرها من اللغات الأجنبية. كما يصوغ الكتاب خاتمة مفتوحة على أسئلة أخرى قادمة، بما هي أسئلة التراكم والانفصال والاتصال في مسار الثقافة المغربية المستقبلي.

وإذا كان من الصعوبة هنا تلخيص محتويات فصول الكتاب، بالنظر لتشعبها وتعدد مباحثها وقضاياها وأسئلتها، فإن قراءة موازية فيه تجعلنا أمام كتاب جديد في مادته وفي طريقة معالجته لها، الأمر الذي يجعل منه كذلك كتابا ومرجعا لا مناص منه لراصد الحركة الثقافية في المغرب وتاريخها وأسمائها ومجالاتها وأنماطها، والكتب المرتبطة بها، في مختلف مجالات التعبير، بما يرتبط بذلك أيضا من بحث في مفهوم الثقافة ومكونات التراكم الثقافي ودعاماته ومؤثراته، ومن وصف لأنماطه وأسئلته الكبرى، كأسئلة اللغة والجنس والدين وتحولات التشكيلات الثقافية وتغيرات الممارسة الثقافية.

كما أنه كتاب أساسي على مستوى حركة الأدب المغربي الحديث، في بعديه الإبداعي والنقدي، من خلال ببليوغرافياته، ومن خلال قراءة موازية في إحدى تلك الببليوغرافيات التي أعدها الباحث عبد الرحمن طنكول حول «الأدب المغربي الحديث: ببليوغرافيا شاملة»، وأيضا على مستوى الحركة الفلسفية في المغرب، في علاقتها بالمسألة الثقافية، بالنظر إلى كون «الفلسفة هي عنصر فاعل من عناصر النسق الثقافي بالمغرب، ولأن مفهوم الثقافة مفهوم محدد ينضوي تحته كل الإنتاج الرمزي المكتوب»، على حد تعبير المؤلف (ص57)، عدا مساهمة الكتاب في مناقشة أحد الكتب حول تحقيق المتن الرشدي.

ويعود الباحث، في هذا الكتاب، إلى معالجة مسألة التراكم، من خلال سؤال الإبداع الشعري في المغرب مقارنة بنظيره في المشرق العربي. كما يرصد، بنوع من النقد والمقاربة الدقيقة، بعض اللحظات الأساسية من تاريخ السوسيولوجيا المغربية وآفاقها في المغرب. وللتدليل على مجموع هذا التراكم في بعده المدروس، يثبت الباحث، في الفصل الأخير من هذا الكتاب، ببليوغرافيا قابلة لكي توسع بمئات أسماء الكتاب والباحثين والمؤلفين، وبآلاف الكتب والأبحاث والمقالات ومئات الآلاف من الصفحات في مختلف مجالات البحث والإبداع والثقافة في المغرب (ص 115)، معتمدا في ذلك الترتيب الألفبائي للمؤلفين والكتاب، وكذا للمؤسسات والمراكز والمعاهد والدعامات. كما تغطي هذه الببليوغرافيا قرنا من الزمن ومن الإنتاج الببليوغرافي (1903 ـ 2003)، مع رصدها لما أنتجه الأجانب عن المغرب أيضا في هذه الفترات. من ثم، جاء هذا الكتاب مغايرا في منهجية البحث التي اعتمدها المؤلف فيه، ومتنوعا في مادته وأسئلته وطروحاته ومواضيعه، وهو بذلك، إنما يعالج ثلاثة أبعاد أساسية، حددها الباحث في مقدمة كتابه، كما يلي:

ـ مقاربته لأهم التيمات والقضايا التي تشغل الثقافة المغربية، وتشكل أهم توتراتها وإشكالاتها وتحولاتها.

ـ مقاربته النقدية / التطبيقية للتراكم الثقافي بالمغرب، وخصوصا الببليوغرافي منه.

ـ إعداده لببليوغرافيا خاصة بالتراكم الثقافي المغربي، من خلال توثيق مجموعة من المؤشرات لهذا التراكم، كالببليوغرافيا والبيو ـ ببليوغرافيا والأنطلوجيا، ومعجم التراجم ومعجم المصطلحات والمفاهيم، والأعمال الكاملة، وكذا النقود والمتابعات لمختلف الإصدارات التوثيقية لأهميتها في العرض والنقد والاستدراك..