مراكز البحوث في الوطن العربي بين مطرقة التمويل الأجنبي وسندان الأنظمة

باحثون وأكاديميون مصريون يتحدثون عن استقلاليتها ومعوقاتها ويحذرون من تكرار مأساة إغلاق مركز زايد

TT

أثار إغلاق مركز زايد للمتابعة والتنسيق، في أغسطس من العام الماضي بتهمة العداء للسامية العديد من المخاوف لدى مراكز البحوث في الوطن العربي. ولم تزل هذه المخاوف تتردد في أوساط الباحثين والمتخصصين حول مدى استقلالية مراكز البحث العربية، وهل معنى حصولها على تمويل من دول أجنبية إنها بالضرورة تنفذ اجندات أجنبية تضر بمصالح العالم العربي والإسلامي.

وفي حالة إذا كان التمويل ضروريا هل تحصل هذه المراكز على تمويل من الحكومات العربية في ظل اتهامها بأنها تدعم بأبحاثها أنظمة الحكم، وهل تحول إغلاق مركز زايد إلى شبح يثير قلق وخوف بعض هذه المراكز من الولوج في مناطق شائكة قد تؤدي إلى إغلاقها وتشريد باحثيها، وما الذي يضمن استقلالية هذه المراكز في النهاية وينفي عنها شبح العمالة؟

«الشرق الأوسط» تلقي الضوء على قضايا مراكز البحث العلمي والأكاديمي في الوطن العربي.

في البداية يقول الدكتور محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: إن المشكلة الأساسية والتقليدية عند تأسيس مراكز البحوث في العالم العربي هي مشكلة التمويل، خاصة ان البحوث صناعة مكلفة من حيث الأجور والمرتبات والطباعة والتوزيع، وهي غالبا حتى تصنع باحثا متميزا، لكي تتمكن من استثماره في المستقبل تحتاج إلى ما يقرب من 10 سنين بعد تخرجه، وهي صناعة ثقيلة من هذا المنطلق لا تقدر عليها إلا المؤسسات التعليمية الضخمة، أما بالنسبة للأهرام فهي سابقة تاريخية ويلفت سعيد إلى أن مراكز البحث غالبا ما تكون غير ربحية، وهذا يجعلها تلجأ للتمويل في الغرب، حيث يأتي من مؤسسات منحية، وهي جزء لا يتجزأ من المنظمات البحثية، وكل المراكز البحثية تعتمد هناك علي مؤسسات مانحة، وهذا لا يوجد في مصر. ويلفت سعيد إلى أنه كان في مصر في القرون الماضية المؤسسة الوقفية وكانت قابلة للتطوير، ولكن هذا لم يحدث في الواقع العربي، وتوقفت عند الوقف الخيري التقليدي، واستولت عليها الدولة.

* صناعة متأخرة

* ويرى سعيد أنه من الصعب في البلدان العربية تأسيس مراكز بحوث، لآن الوضع في الجامعات ـ علي سبيل المثال ـ مأزوم ماديا ولا تستطيع أن تصرف على كل مراكز البحوث في أي جامعة مصرية إلا في حدود أو أن تحصل على تمويل أجبني، مشيرا إلى أنه لا توجد في مصر مراكز للبحث إلا مركز الأهرام، والباقي مراكز شؤون اجتماعية، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكلها معتمد على إنتاج أساتذة الجامعة الذين يكلفون بصورة خاصة لانتاج مادة علمية لصالح الجامعة، ولكن لا يملكون دورا بحثيا خاصا.

ويؤكد سعيد أن صناعة المراكز البحثية متأخرة في مصر والعالم العربي لأنها مرتبطة بالدولة، ولأنها تشبه القطاع العام، ولذا يكون أداؤها ضعيفا والحل الوحيد أن تكون لديها قيادة مستقلة وتعبر عن هذا الاستقلال والنزاهة العلمية للباحث.

ويقول سعيد إن الاستقلال عادة يكون في الهيئات الخاصة أكثر من الجهات الحكومية، ولكن في كل الأحوال يجب ألا تكون الأفكار خاضعة للإملاء، وألا تتدخل الجهة المانحة، وألا يتلقى مركز البحث أوامر من الحكومة، لانه إذا حدث هذا ستكون فضيحة دولية غير مقبولة، وعالميا هناك قواعد نضجت واستقرت منها النزاهة وعدم التدخل.

* حالة صفرية

* ويرى الكاتب والباحث المصري الدكتور وحيد عبد المجيد نائب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب أن المشكلة الأولى لمراكز البحث العربية هي أن المناخ العام للبحث العلمي ليس منتجا للتقدم، ولذلك فما هو موجود في العالم العربي مراكز أشبه بمراكز البحث، لكن لا توجد مراكز بالمعنى الحقيقي.

ويعتقد عبد المجيد أن الاستقلالية ليست هي المشكلة الوحيدة لدى هذا المراكز حتى لا يتصور البعض أن الاستقلالية ستحل المشكلات التي حولت مراكز البحث إلى حالة صفرية، وهذه الحالة ـ في رأيه ـ واضحة ومرصودة جيداً، في وجود غياب معرفي كامل عن العالم العربي.

ويشير عبد المجيد الى أن العوامل التي تجعل من الصعب أن تكون هناك مراكز مستقلة كثيرة، ومنها غياب التقاليد الاجتماعية والثقافية التي تحترم الاتجاهات والأفكار المختلفة، وتخلق البيئة الملائمة لأعمال بحثية تهدف إلى معرفة الحقيقة وإلى المساهمة في صنع التقدم كما يحدث في كثير من بلاد العالم، وليس في البلاد المتقدمة فحسب، بل في آسيا، وأميركا اللاتينية، ولكن في العالم العربي لا توجد تقاليد ـ في رأيه ـ لاحترام البحث العلمي ولا توجد نظم تعليمية تؤهل لإيجاد عدد كاف من الباحثين الذين من الممكن آن يضطلعوا بالبحث.

اما المشاكل الرئيسية للبحث في الوطن العربي، فيرجعها عبد المجيد الى انها تحتاج إلى تمويل كبير، لانه لا يمكن إجراء أبحاث تضيف إلى المعرفة بدون توفر تمويل لها. وهذا التمويل يأتي إما من الدولة أو من شخصيات لديها اجندات سياسية واقتصادية معينة، وخصوصا مراكز البحث التي تعمل في قضايا معينة، لافتا إلى انه لا توجد تقاليد تفصل بين المال والبحث وان الوضع السائد أن المال يشتري كل شيء والبلاد التي حدثت فيها نهضة في البحث العلمي توجد تقاليد للإسهام في تطوير المناخ العلمي بما فيها الأدوات مثل البحث العلمي، أما عندنا فالتمويل يحدد الاتجاه بشكل مباشر ومن المعتاد أن يكون مؤيدا لما يريد الممول أن يقوم به وفي ظل هذه الظروف يكون من الصعب التطلع إلى بحث علمي مستقل. ويرفض عبد المجيد وصف كل من يأخذ تمويلا بالعمالة، لافتا الى ان العمل في البحث يقوم علي برنامج معين لا يفترض ان يكون عشوائيا، والمعتاد ان من يبحث عن تمويل يحتاج الى إن يتكيف مع رغبات الممول، والكلام عن العمالة كلام ـ في اعتقاده ـ تافه، لكن المشكلة أن مراكز البحث تهتم بموضوعات معينة تعرف أنها تستطيع ان تحضر لها تمويلا، ولا تهتم بموضوعات أخرى لأنها تعرف أنها لن تحصل على تمويل لها، فهناك سوق في هذا المجال، فمنذ فترة قصيرة كانت موضوعات مثل الأصولية، والجماعات المشتددة، وقضايا المرأة، من الممكن الحصول على تمويل لها بسهولة، أما إذا أراد مركز البحث أن يقدم بحثا عن تطور الخريطة الاجتماعية في الريف المصري في الأربعين سنة الأخيرة، بما يتطلبه ذلك من بحث ميداني ورصد المتغيرات الاجتماعية العميقة، والحراك الاجتماعي، يمكن أن يظل سنوات يبحث عن تمويل ولا يجد.

* الاستقلالية المالية والادارية

* ولا يستطيع الدكتور عمرو الشوبكي الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية القول بان هناك استقلالية كاملة لمراكز الأبحاث لأننا ـ في رأيه ـ لو نظرنا إليها سنجد أن معظمها إما تابع للدولة أو تعتمد في تمويلها ونشاطها على التمويل الأجنبي.

ويرى الشوبكي أن المشكلة الحقيقية لمراكز الأبحاث في الوطن العربي انه لا توجد خطة مستقلة أو طموحة لبناء مراكز أبحاث ذات اجندة علمية مستقلة بمعزل عن الجهات الممولة أو المالكة. وفي البلدان الأوروبية مثل فرنسا جزء كبير من مراكز البحث تابع للدولة لكنها تتمتع باستقلالية مالية وادارية تتيح لها أن تضع اجندتها العلمية بشكل مستقل، أما في العالم العربي فلا زالت علاقة هذه المراكز البحثية وارتباطها بالدولة لم تتح لها فرصة حقيقية للاستقلال باجندتها الخاصة.

ويؤكد الشوبكي انه لا توجد رغبة حقيقية في العالم العربي في بناء قاعدة بحثية علمية حقيقية، ولا توجد إرادة لفعل ذلك، ولاقرار سيادي يدرك اهمية الانفاق على البحث العلمي ووضعه في سياق إداري مستقل، فالمشكلة في رأيه لها شق مادي وشق اداري وفي الحالتين لايوجد تطور للبحث العلمي اذ لن يتنفس الا في بيئة مستقلة وديمقراطية ويقبل بدور البحث العلمي بصرف النظر عن النتائج أو إذا كانت هذه النتائج ملائمة أو تلقى ترحيب النخبة السياسية الحاكمة أم لا، ولا بد أن يكون هناك احترام للبحث العلمي، بدلا من نظرة الحذر إليه، نظرا لانه ربما يتجاوز أمورا معينة، وهو ما يترتب عليه في النهاية أن يصبح هناك قصور في نشاط هذه المراكز البحثية، ويفتح الباب أمام الممول الخارجي.ويعتقد الشوبكي أن هناك الكثير من الممولين مستعدون لتمويل مشاريع بحثية جديدة وجادة، لافتا إلى أن هناك اجندات بحثية تربط اجندتها بسياسات معينة، لكن لا يمكن القول إن كل المراكز البحثية عميلة، فبعضها حصل على تمويل أجنبي وفي نفس الوقت تميز بالجدية والشفافية مطالبا بان تكون الخطوة الثانية هي البحث عن تمويل وليس العكس.

ويعتقد الكاتب والباحث نبيل عبد الفتاح إن معوقات البحث العربي عديدة وتختلف من حالة مركز إلى آخر، ومن بلد عربي إلى آخر، فبعض البلدان ذات الكثافة السكانية العالية والمتأزمة اقتصاديا لا توفر الميزانيات والتحويلات الملائمة لصياغة سياسات تتصدى وتحلل الظواهر التي تحدث في حين أن بعض البلدان الميسورة تنشئ المراكز التي تحلل الظواهر والمتغيرات والسياسات العالمية وذلك يرجع إلى أن هذه المجتمعات والحكومات ترى أن المراكز البحثية جزء من وجاهة الدولة وصورتها الدولية والإقليمية وليست جزءا من سياسات بحثية وعلمية هدفها دراسة هذه المجتمعات وتحليلها بهدف السعي إلى تطويرها.

ويشير عبد الفتاح إلى أن هناك أيضا مشكلات تتعلق بالتمويل الأجنبي في مجتمعات العسر العربي، فالاعتماد الرئيسي للمراكز يكون معتمدا علي العطايا المالية التي تقدمها بعض المؤسسات البحثية والعلمية في الدول الغربية، وذلك بشرط دراسة ظواهر معينة غالبا ما تكون جزءا لا يتجزأ من اهتمامات هذه المراكز الغربية، وهو ما يعني تقبل جماعات البحث المحلية لمنظومات من الاهتمامات الغربية بحيث تدمج هذه المفاهيم في التفكير الجماعي وان كان هذا لايعني أن بعض هذه المشروعات البحثية ساهمت في تطوير الجماعة ولغة الحوار والمناهج البحثية في بعض البلدان العربية. لكن المشكلة الأكثر عمقا في عمل مراكز البحث العربية، ويرصدها نبيل عبد الفتاح، تكمن في العلاقة بين هذه المراكز والسلطات الرسمية السياسية والسلطات الدينية والسلطات الأخلاقية.

ويوضح عبد الفتاح أن السلطة السياسية الرسمية في مصر وفي غيرها من البلدان العربية لا تعتبر البحث العلمي جزءا من السياسات العامة في الدولة وذلك من خلال تركيزها على بعض السياسات العامة حيث إنها لا ترى أن تطوير السياسات العامة المتبعة تجاه البحث الأكاديمي. بل والسلطة ذاتها، والمجتمع يعود في أحد أبعاده إلى ضرورة تطوير مراكز البحث العلمي من حيث آلياتها والقيمة المستهدفة من دراساتها أيضا، الأجزاء المخصصة من الميزانية العامة لدعمها.

ويقول عبد الفتاح أن هناك نقصا في آليات البحث التقني أو البحث في العلوم الاجتماعية وايضا لعدم اهتمام قطاع ما يسمى برجال الاعمال بدعم انشطة البحث العلمي في العالم العربي وذلك لان البحث العلمي لا يدخل ضمن اهتماماتهم، وقصارى ما يقدم هو بعض الجوائز الأدبية التي يقدمها البعض، ومع جزء من محاولة تجميل صور رجال الأعمال في مقابل الصورة النمطية المصوغة عنه في الإدراك العام أو في بعض الإعلام العربي.

ويشير عبد الفتاح إلى أن المسموح به في بعض البلدان أن العربية مثل مصر وتونس ولبنان يجعل البحوث السياسية والفسيولوجية تدور في مدارات تدعم نظام الحكم أو مجموعة من الآليات التي تستفيد منها أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، ولكن تضع من الضوابط ومن القيود على الحريات الأكاديمية ما يجعلها مصادرة في عمومها لصالح الصفوة السياسية الحاكمة في البلدان الافروآسيوية واللاتينية. ويؤكد عبد الفتاح أن ضعف حريات البحث في العالم العربي أدى إلى ضعف مستويات البحث من ناحية والى تحول الجامعات العربية، وأقسام البحوث الاجتماعية والسياسية وكليات القانون إلى إعادة إنتاج مجموعة من الكتابات التقليدية عن الظواهر الاجتماعية غالبيتها نقول وسرديات مترجمة.