أفغانستان وأنابيب الغاز والبترول والدماء

TT

سيظل كتاب «أفغانستان: السياسة الغائبة والسلام المسلح» وثيقة نادرة ومصدرا أساسيا لا مناص من العودة اليه ليس في ما يتعلق بالشأن الافغاني فحسب بل وفي ما يخص عددا من شؤون دول آسيا الوسطى عموما. فهذا الكتاب الصادر أخيرا في تونس عن دار الجنوب للنشر، تتراوح محتوياته الموزعة على 229 صفحة، بين التحليل والتوثيق لفصول الحرب والدمار التي ما فتئت تؤرق الشعب الأفغاني منذ ما يزيد عن سبع سنوات وهو عمر الحرب الأهلية التي اشتعلت كالنار في الهشيم بعد أن نجح هذا الشعب في الانتصار على واحدة من اعتى القوى في العالم. وتتركز أهمية الكتاب على كونه يحمل امضاء الدبلوماسي التونسي محمود المستيري وهو الوسيط الأممي الذي كلفه الأمين العام السابق للأمم المتحدة المصري بطرس بطرس غالي مباشرة الملف الأفغاني لفترة استمرت ثماني وعشرين شهرا بين عامي 1994 و1996. وهي الفترة التي كادت فيها المنظمة الأممية ان تنجح في وضع حد للمأساة الأفغانية لولا الظهور المفاجئ لحركة طالبان الذي أدى الى خلط الأوراق من جديد واعادة الجهود الأممية الى نقطة الصفر. غير أن ما يزيد من أهمية الكتاب أيضا هو أنه جاء في شكل حوار اجراه الصحافي صالح عطية لمواطنه الدبلوماسي المذكور. وبالتالي فان الأسئلة التي طرحت على هذا الأخير كانت بمثابة علامات ساعدت الوسيط الأممي السابق على اعادة السير والتجوال عبر الثنايا والتضاريس المتشعبة والمعقدة في تلك المنطقة المتفجرة من العالم. وهو ما تم تضمينه في الكتاب ضمن خمسة فصول.

جاء الفصل الأول تحت عنوان «مقاربة جغراسياسية وتاريخية» وقد تضمن تقديما موثقا ومفصلا أنجزه الصحافي صالح عطية في شكل دراسة علمية تتناول القضية الأفغانية بالعودة الى خصوصيات التاريخ والجغرافيا أولا ثم في ضوء ما أضحى حاصلا من تحولات وتغيرات في منطقة آسيا الوسطى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وتفرد الولايات المتحدة الاميركية بزعامة العالم ثانيا. ويمكن للقارئ أن يخرج من هذا الفصل بنتيجة مفادها بأن أفغانستان هذه الدولة الجبلية الصغيرة، ليست فقط ضحية النعرات القبلية والطائفية التي تلهب نار الصراع بين مختلف فصائلها وجماعاتها المسلحة بل هي ضحية أيضا لنار التدخلات الخارجية التي تشعلها أطماع دول قريبة وبعيدة ما انفكت تتحين الفرص للسيطرة على الثروات الكثيرة التي تعد بها أفغانستان ومن جاورها من دول آسيا الوسطى مثل تركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان. ويبين الكاتب أن الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لمثل هذه الدول تحفز دولاً كثيرة ما انفكت تتدخل بشكل أو بآخر في الشأن الأفغاني. ونجد في قائمة هذه الدول الولايات المتحدة الاميركية وروسيا وباكستان وايران وتركيا وبدرجة أقل الهند والصين.

في الفصل الثاني الذي يتركز حول مخاض السلام العسير نتعرف على حيثيات تكليف المستيري بمهمته كوسيط أممي لحل النزاع في أفغانستان، وعلى النهج الدبلوماسي الذي اتبعه في معالجة هذه القضية، ومن ثم الكيفية التي ميزت تنفيذ مهمة الوساطة بين مختلف الفصائل الافغانية. ونجد في حديثه معلومات ضافية عن خصائص وسياسات تلك الفصائل وعن أهم قياداتها وعن مصادر قوتها وضعفها، كما نجد أيضا تفاصيل عن سياسة الأمم المتحدة وعن مدى مساهمة أهم الفاعلين في هذه المنظمة في تسوية الملف الافغاني، وتتضمن اجابات الوسيط الأممي عناصر أخرى لم يسبق لوسائل الاعلام تناولها في ما يتعلق بأفغانستان. وتخص هذه العناصر بالأساس مواقف الشارع الأفغاني ودور النخب المثقفة في التعاطي مع هذا الموضوع. وعلى خلاف ما هو متوقع، يبدو هذا الدور مهما بالنسبة لمستقبل أفغانستان. فحسب توضيحات المستيري لا يخفي المثقفون في هذا البلد حقدهم وعداءهم لكافة الأحزاب والفصائل. وهو ما يصوغه الدبلوماسي التونسي في هذه الجملة التي يقول بأنها جاءت على لسان الاغلبية منهم على النحو التالي: «خلصونا من هذه الأحزاب المتناحرة. لقد نجحوا في طرد السوفيات وأنهو بذلك غزوهم لبلادنا، لكنهم انقلبوا بعد ذلك على الشعب وأفقدوه الأمن والاستقرار. انهم يمطرون المواطنين بالقنابل من دون مبرر أو سبب ويختفون هم وراء المتاريس والمصفحات لا تصدقوهم عندما يقولون لكم بأن خلفهم أتباعا كثيرين من أفراد الشعب فأقوى هذه الفصائل لا يتجاوز عدد أتباعها الخمسة آلاف مقاتل». يأتي الفصل الثالث تحت عنوان «الشأن الأفغاني بين فكي كماشة التدخل الأجنبي» حيث يتم التركيز عبر تبادل الأسئلة والأجوبة على أهم الأدوار التي تلعبها مختلف الأطراف الأجنبية المتعاملة مع الملف الأفغاني. ويتم في البداية الوقوف عند الدور الباكستاني ويعرج بعد ذلك على التدخل الايراني وتليه اشارة الى الدور السعودي. كما يتم التعرض بطبيعة الحال الى التدخلات الروسية والاميركية ثم الى صلة كل من الهند وتركيا بهذه القضية.

في الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان «بحث عن نظرة جديدة للمعادلة الأفغانية» تتمحور أغلب الاسئلة والأجوبة حول اعادة قراءة الراهن الأفغاني واستشراف مستقبل هذه البلاد في ضوء المعطيات الجيوسياسية والاستراتيجية الجديدة في المنطقة، لا سيما منها انفجار آسيا الوسطى وبروز بعض الأدوار الاقتصادية حول أفغانستان، وهي أدوار من شأنها أن تنقل الأفغان ان عاجلا أو آجلا الى مرحلة ما بعد الحرب. ولعل أهم ما تضمنه هذا الفصل تمثل في التأكيد على المشروع الاقتصادي الضخم الذي تقف وراءه الولايات المتحدة الاميركية وتركمانستان وفي مرتبة ثالثة باكستان، ويقوم هذا المشروع على انجاز خط لأنابيب الغاز والبترول سيمر من تركمانستان عبر أفغانستان ليستقر في باكستان، مع بناء سكة حديدية تسير بالتوازي معه.

في الفصل الأخير الموسوم بـ«اشكالية العرب والعالم الاسلامي الجديد» يعود الصحافي صالح عطية الى باب الاستنتاجات والتحاليل بعيدا عن محاوره الدبلوماسي المستيري. وذلك ضمن منحى حاول من خلاله أن يبين الأهمية البالغة التي تكتسبها منطقة آسيا الوسطى على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية بالنسبة للعالم العربي. ويشير الكاتب الى عدم وعي العرب التام بهذه الأهمية وهو ما يتجلى حسب رأيه من خلال حالة الغياب والانسحاب الصارخة على مستوى العلاقة بين هذه الدول والدول العربية باستثناء السعودية ومصر اللتين تنفردان ببعض المحاولات في هذا الاتجاه حسب تأكيدات الكاتب.

نشير أخيرا الى أن الكتاب احتوى على خرائط ووثائق هامة تتضمن نسخا من بعض محاضر جلسات مجلس الامن المتعلقة بأفغانستان.

أفغانستان: السياسة الغائبة والسلام المسلح المؤلف: محمود المستيري الناشر: دار الجنوب للنشر ـ تونس