رؤساء اتحاد كتاب المغرب السابقون

TT

* محمد الأشعري حكمة الإصغاء والصبر على المكروه

* الرباط ـ محمد بوخزار: أحس احمد اليبوري، انه تحمل بما فيه الكفاية وفوق الطاقة عبء رئاسة اتحاد الكتاب. لم يرد ان يثلث كما فعل محمد برادة قبله، بل راح يدعو قبل نهاية ولايته الى ضرورة فسح المجال لأسماء جديدة من القاع الأدبي، قريبة من احاسيس الاجيال الشابة التي دخلت سجلات الكتابة في المغرب الحديث.

وجد اليبوري مرشحا مثاليا لخلافته، اختبره في العمل الى جانبه في المكتب المركزي. انه الشاعر ذو الصوت العالي النبرة بالاحتجاج والثورة، محمد الاشعري، الذي اجتمع فيه ما لم يتوفر في اقرانه الشعراء: موهبة ادبية معلنة، رصيد نضالي في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الخزان الذي مد منظمة الكتاب المغاربة بأغلب الرؤساء الذين تناوبوا عليها، اضافة الى ان الشاعر الذي اصر، منذ شبابه الاول، على احاطة وجهه بلحية كثيفة، بدا معها، رغم اناقته الطبيعية واستواء هندامه، كأنه ثائر متمرد، يعبر المدينة بسرعة ليغادرها بسرعة اكبر، عائدا الى مغارات الثوار.

الخاصية الكبرى الأخرى التي امتاز بها محمد الأشعري على الرؤساء الذين سبقوه هي ميزة، الصبر والإصغاء، اكتسبها في حلقات النقاش الحزبي في مقرات الاتحاد الاشتراكي، كما أدرك حكمتها حينما صار يحاور نفسه، يتأمل وجدانه بين جدران السجن، ليمنع قصيدة او ليتحاور في ما بعد مع رفاقه حول الخطة الحزبية التي تخرج حركتهم من مأزق الصدام مع السلطة. اذن فقد اصبح لاتحاد الكتاب ولأول مرة رئيس من دون الأربعين لا يحمل لقبا جامعيا كبيرا، بل صنع رمزيته من الادمان على القراءة والانخراط في النضال الحزبي واحتمال مواجع التجربة الشعرية. لا ينتسب الى المدن التقليدية مثل اسلافه الرؤساء، غير متحدر من طبقة اجتماعية ميسورة الحال. كان وصوله الى رئاسة الاتحاد بأعلى الاصوات تعبيرا عن الكتلة الناخبة الجديدة المكونة من المتعاطين الشباب للثقافة والكتابة، المقبلين عليها بنهم لمراكمة انتاجهم الخاص ليصب فيما بعد في نهر الادب المغربي الحديث.

سنقول ان الاشعري، رغم جذرية مواقفه السياسية، كان محاورا ثقافيا بامتياز. نجح في الابقاء على لحمة اتحاد الكتاب طيلة ثلاث ولايات، زاخرة بالأحداث السياسية والاجتماعية، استطاع خلالها ان يهادن الاصوات الغاضبة على الاتحاد لأسباب ذاتية او موضوعية، وتصرف، وهو الفارس الحزبي، كرئيس للجميع، يعبر عن كل التيارات والحساسيات، وأصناف التعبير في الكتابة والادب، مكنه كل ذلك من مراكمة حصيلة مميزة على صعيد الانشطة الثقافية، والجهر بصوت الكتاب ورأيهم في القضايا الوطنية والقومية الكبرى.

ظهرت براغماتية الاشعري، في اجلى صورهما، في مناسبة استضافة مؤتمر الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب في الدار البيضاء. اقنع السلطات المغربية بالاسهام في تحمل نفقات المؤتمر، ما دامت الامانة العامة ستؤول الى البلد المضيف، كما جرت العادة من قبل مع البلدان التي احتضنت مؤتمرات المبدعين العرب، لكن الاشعري، فوجئ بالكواليس تدبر تفويت الامانة العامة الى مرشح غير المغرب.

لم يبد امتعاضا ولا انزعاجا، بدأ يتسلى بما يراه من نفاق على اوجه الاعضاء، وما يصله من اخبار الكواليس، ومنطق العبث الذي يهيمن على احاديثها.

هنأ الاشعري، الامين العام، فخري قعوار، الأردني الذي توج فوق ارض المغرب، ولسان حاله يقول: الله عليها من راحة. ماذا ستزيدني امانة هيئة اصيبت بهشاشة العظام، خاصة انه يدرك في قرارة نفسه انه لن يستمر في برج قيادة اتحاد كتاب المغرب.

عاد الاشعري، الحاضر يوميا على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي، من خلال عموده اليومي «عين العقل»، الى الحضن الحزبي الذي سيصنع فيه بصبر وحس عملي مجده السياسي الذي سيرفعه لاحقا الى مرتبة الوزارة، وهو المتحدر من «زرهون» المدينة الهامشية التي لم تنجب رجال السلطة الكبار منذ عهد المولى ادريس الاول.

ما يلفت النظر في مسار حياة صاحب ديوان «سيرة الماء»، التوازني والتوازن بين هدفي السياسة والابداع عنده. كتب الخاطرة والقصة القصيرة «مجموعة يوم صعب» والرواية «جنوب الروح» وباقة من الاضمامات الشعرية. حافظ في كل الاجناس الادبية التي طرحها من دون افراط على المستوى المطلوب. اما المتوازية الثابتة في حياته فهي انغماسه في السياسة، بما تفرضه معاركها ومنعرجاتها من تحالفات متغيرة، وابدال التكتيك بالاستراتيجية والانشغال بالـظرفي على حساب المستقبلي.

ما كان يتوقع يوما ان تعود عليه بركة اتحاد كتاب المغرب، لتنقله من الكرسي الخشبي بزنقة سوسة (مقر الاتحاد) الى زنقة غاندي البعيدة عنها بأمتار حيث كان كرسي وزير الثقافة الوثير في انتظاره، وما زال يتربعه الى الآن والى غاية 2007 بإذن الله.

* محمد عزيز الحبابي فيلسوف الشخصانية الذي هزمته الإيديولوجيا الملتزمة

* الرباط ـ محمد بوخزار: لا يُعرف بالضبط متى تأسس اتحاد كتاب المغرب، وكأن ذلك الحدث الثقافي الهام تم منذ الماضي السحيق، لم يكن للتدوين فيه أثر ووجود، لكن المنقبين عن يوم الميلاد يقدرون ان تحركات المبادر الاول لتوحيد المثقفين المغاربة في بوتقة واحدة، بدأت منذ اواخر الخمسينيات، حيث اجرى محمد عزيز الحبابي، اول رئيس لما دعي اصلا «اتحاد كتاب المغرب العربي«، اول اتصالاته مع الرموز الثقافية القليلة في ذلك الوقت. ويقال ان الحبابي ربما استلهم الفكرة من رغبة كانت راودت الزعيم السياسي الراحل عبد الخالق الطريس في مدينة تطوان (شمال المغرب) ايام فترة الكفاح ضد الاستعمار الاسباني، مدفوعا بالحركية الثقافية التي عرفتها مدينة تطوان منذ اواسط الاربعينيات الى منتصف الخمسينيات بفضل صلاتها المباشرة بالشرق عن طريق البريد البريطاني، الذي كان يؤمن وصول المجلات والجرائد والمطبوعات المشرقية لمستهلكيها في شمال المغرب، وحرصا من الطريس، وهو قطب اصلاحي ثاقب الرؤية في وقت متقدم، على حشد المثقفين في معركة الاصلاح. المهم ان الاتحاد، خرج الى الوجود، مكتمل الملامح والقسمات مع بداية الستينيات، حيث ستصطبغ مرحلة التأسيس وما بعدها بشخصية المؤسس محمد عزيز الحبابي، ابن مدينة فاس العائد من فرنسا بفقه جديد هو الفلسفة، التي انتقى من مذاهبها تيار الشخصانية، فصار يروج له ويضفي عليه البهارات الفكرية العربية، والاسلامية، صاغها في مؤلفات، واتخذ ابداعاته الشعرية والقصصية والروائية، مطية للتعبير عن مذهبه الفلسفي الاثير، الذي نهله عن مؤسسه الفيلسوف الفرنسي «مونيي».

كان الحبابي، متشبثا بالانجاز الثقافي الذي حققه، فهو نواة واجهة وحدوية مغاربية، ولذلك اشرك كتابا جزائريين في العملية مثل مولود معمري، الذي اعتبره احد المؤسسين، ليكون المولود الثقافي الجديد منبرا يطل منه المثقفون الجزائريون الذين كانوا انذاك محاصرين تحت نير الاستعمار الفرنسي.

اتاح الموقع الاكاديمي الموازي الذي كان يحتله الحبابي (عمادة كلية الاداب)، وصفة الفيلسوف التي يحملها وحده في المغرب انذاك، ان يستقطب الاسماع والانظار والعقول، لذلك كثف درجة حضوره في وسائل الاعلام خاصة الصحافة والاذاعة التي كانت ذات مستوى محترم، تتولى تغطية انشطة اتحاد الكتاب وأمسياته الادبية والفنية، الرائقة مفسحة المجال لضيوفه الادباء المغاربة والاجانب، هذا عدا اصدار مجلة (آفاق) التي اصبحت فضاء آخر لكتاب وحساسيات ادبية مختلفة، لكنها في ذات الوقت كانت السباقة للتبشير باسماء ادبية جديدة سواء من خلال التشجيع على النشر او من خلال وسيلة المسابقات الادبية التي سنها الاتحاد وكافأ الفائزين معنويا اكثر من ماديا.

وأمام مقاومته تحويل الاتحاد الى واجهة سياسية او حزبية ملتزمة، باتت الفرقة امرا محتوما وحصل اول انشقاق علني في جبهة ثقافية مغربية، انتهى بتجميد اعضاء فاعلين واساسيين لوضعيتهم ونشاطهم الى حين، وانتقلوا الى الواجهة الاعلامية ليسددوا منها ضرباتهم وسهامهم للحبابي المتمترس مع قلة قليلة من المخلصين الاوفياء له في دار الفكر، مقر الاتحاد، التي انطفأت جذوتها الثقافية، بعدما هجرها الادباء المشاغبون.

حاول الحبابي مرارا ان يعيد المنسحبين الى المؤسسة التي لا حياة لها بدونهم، عارضا صيغا للتسويات، لكن «المنشقين» كانوا يعرفون قوتهم الثقافية وجدوى انحيازهم ومساندتهم للاحزاب المغربية التي عوملت باجحاف، لمجرد أنها رفعت شعار دمقرطة الحياة السياسية والعدالة الاجتماعية واقتسام السلطة.

بعد سلسلة مخاضات لم يرض الحبابي ان يوصف بمعرقل تطبيق الديمقراطية، فوافق على دعوة اعضاء الاتحاد المعدودين الى مؤتمر عام عقد في الرباط في يوليو (تموز) 1968، افتتحه، وهنا المفارقة، عبد الهادي بوطالب بصفته وزيرا للتربية والتعليم انذاك، واعتبر حضوره في نظر المعارضين من الحكم، دليلا على التفريط في استقلالية الاتحاد ومغازلته للسلطة.

لم يكن امام الفيلسوف المبشر بالشخصانية مفر من الاحتكام والامتثال الى الديمقراطية والاقتراع السري المباشر. ومثلما كان متوقعا انهزم الفيلسوف الحبابي بفارق ضئيل في معركة رئاسة الاتحاد التي انتقلت الى الروائى عبد الكريم غلاب، فيما اسندت لمحمد برادة، المعبر عن الاصوات والحساسيات الثقافية الجديدة الواثبة، نيابة الرئيس، واصبح الحبابي مجرد عضو منتخب في المكتب المركزي، حضر الاجتماعات الاولى فقط، ثم أيقن أن صوته لن يصغى اليه كما قبل، وان الفيلسوف المتدثر بأحضان الشخصانية، غلبته الايديولوجيا ومنطق التغيير الحاصل في الحقل الثقافي المغربي، نتيجة ظهور فئات اجتماعية صاعدة، هكذا كان عليه ان يهاجر بلاده، خاصة بعد ان اظهرت له السلطة المجن وازاحته من عمادة كلية الاداب، التي تركها لمؤرخ شاب، درس في فرنسا مثله، مع فارق انه مشبع بافكار حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي حاليا) هو ابراهيم بوطالب، البرلماني السابق والعضو الحالي في هيئة الانصاف والحقيقة.

كان تعيين بوطالب، على رأس عمادة كلية الاداب معقل المعارضة الطلابية، اقرارا من السلطة بتحول الجامعة وانجذاب اساتذتها وطلابها نحو الافكار الوطنية واليسارية المعارضة، فضحت بالحبابي، الفيلسوف الشخصاني ذي العلاقة الملتبسة بالسياسة، مع ان الراحل كان محسوبا في وقت ما على حزب الشورى.

ذهب الحبابي الى الجزائر، معززا مكرما من طرف اصدقائه هناك، امثال عبد الحميد مزيان، الطالب الذي تتلمذ عليه في الرباط، والاكاديمي في بلاده، واحمد طالب الابراهيمي، الذي كان وزيرا للتعليم العالي. ومن هناك تابع نشاطه الاكاديمي، وظل المثقفون المغاربة يتابعون اخباره، يكنون له التقدير والعرفان لأنه اول من جمعهم تحت راية واحدة، الى ان عاد الى بلاده ليستأنف نشاطه الثقافي ويمثل الحيوية والنشاط، في ندواته بداية في مدينة تمارة (ضواحي الرباط)، ومن خلال جمعية الفلسفة بالمغرب، ومثلما كان مشعا ومثيرا في اتحاد كتاب المغرب، كذلك استمر في الموقع الفكري الجديد، الى ان اختاره الله بجواره.

* عبد الكريم غلاب ثاني الرؤساء .. السلطة قايضت على إزاحته من الرئاسة بعد أن عاقبته بالسجن

* الرباط ـ محمد بوخزار: لم يكن الروائي عبد الكريم غلاب، راغبا في خوض معركة انتخابية ساخنة ضد محمد عزيز الحبابي، ليحل محله في رئاسة اتحاد كتاب المغرب. ما كان يبتغيه هو أن ينسحب المؤسس معززا مكرما، لكن إصرار هذا الأخير وانضباط الأول لأمر أو قرار صدر تلميحا أو تصريحا من حزب الاستقلال، الذي كان يحتل في قيادته موقعا نافذا، جعله يضحي مؤقتا بصداقته ومجاملته للفيلسوف الحبابي، ابن مدينته فاس، إذ يجب ألا يغيب عن الأذهان أنه ساند مبادرته منذ البداية، للم شمل الكتاب والمثقفين وتوحيد صفهم وإن اختلفت الغايات، كما رضي غلاب أن يكون نائبا للحبابي كتحالف مرحلي، إلى أن شب الخلاف بين الرئيس، ممثل الأقلية بالحسابات الانتخابية، وبين التيار العريض الذي أصبح يتشكل ويتبلور حول اسم غلاب ودفعه لاقتحام دار الفكر.

كان تيار غلاب مؤلفا من شريحة واسعة من الكتاب المحسوبين على حزبه، والمنتسبين والمتعاطفين مع الحزب اليساري الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاشتراكي لاحقا)، الذي أدى ضريبة مناهضته للحكم فاستحق تعاطفا واسعا وتلقائيا من الفئات الواعية وبينها الكتاب والمبدعون، فضلا عن أعضاء، يشتغلون بالثقافة والفكر، من دون أن ينخرطوا صراحة في تشكيل سياسي.

نقلت رئاسة غلاب، اتحاد الكتاب إلى ساحة جديدة، حاول الحبابي دائما أن يتجنبها، حذرا وحيطة أو اقتناعا، ابتعد عن السلطة وانحاز إلى خندق المعارضة التي غنمت بوصول المثقفين المحسوبين عليها إلى قيادة هيئة الكتاب، مكسبا معنويا وحليفا رمزيا، عزز مصداقيتها في نظر الرأي العام المغربي الذي بدأ يظهر منذ مستهل عقد الستينيات علامات عدم الرضا والاحتجاج على النهج السياسي العام، الذي سار عليه الحكم، وأدى في سنوات لاحقة إلى خضات اجتماعية عنيفة، ساندها اتحاد الكتاب بالتعبير الثقافي، متضامنا مع القوى الوطنية التي تعرضت جراء عدم انصياعها إلى عقابات متفاوتة الحدة، تبعا للظرفية السياسية وطبيعة ميزان القوى بينها وبين الحكم، لكن حزب الاتحاد الوطني وفصائل اليسار، نال النصيب الأوفر من المضايقة والعقاب.

أمضى غلاب ثلاث ولايات متتالية في رئاسة اتحاد كتاب المغرب. كانت سنواتها الأولى زاخرة بالنشاط والحركية الثقافية. عادت الحياة إلى دار الفكر، مقر الاتحاد، وأصبحت مقصد مثقفي العاصمة المغربية مرة كل أسبوع على الأقل. أقيمت بها تظاهرات ثقافية وإبداعية كبرى، ونوقشت في صالات الدار القضايا الوطنية الحساسة مثل التعليم والسياسات الاقتصادية، شارك فيها فاعلون حزبيون ونقابيون، وعادت مجلة «آفاق» إلى الصدور المنتظم، في ثوب جديد، منفتحة على الأقلام الصاعدة، ومالت محتوياتها نحو ربط الأدب بالواقع، ودافعت عن قدرته على التغيير الاجتماعي.

ظل الحكم مراقبا لنشاطات الاتحاد التي تعدت في نظره النطاق الثقافي الصرف، وصار ينظر إليه، بعد التأكد من ذلك، كواجهة للمعارضة التي تناصبه العداء في الشارع وتطعن في شرعية وجدوى مشاريعه السياسية، وتنتقد أسلوب تدبيره للشأن العام مستنكرة استئثاره بمقدرات الأمة من دون قاعدة ديمقراطية شعبية افتقدتها الحكومات المتعاقبة، من عقد الستينيات الى حكومة التناوب في نهاية السبعينيات.

لم يعد ممكنا أن يبقى الحكم مكتوف الأيدي، أمام الجرأة المتصاعدة والنقد الجذري الصادر عن هيئة الكتاب المغاربة، لذا بات عليه أن يفكر في وسيلة الإسكات أو فخ يوقع فيها الاتحاد. ناقش «مستشاروه» عدة سيناريوهات منها التضييق على الاتحاد بمختلف وسائل الترهيب، لكن بدا أن ذلك سيجر عليه نقمة، فالأمر يتعلق أولا وأخيرا بحرب ضد طائفة من الناس لا سلاح لهم إلا أفكارهم وأقلامهم، فاهتدى إلى خطة تدبير الهجوم على رأس المنظمة. سيتصيد المناوئون لغلاب في اروقة السلطة خطأ جسيما من وجهة نظرهم من موقع مسؤوليته عن إدارة وتحرير جريدة «العلم»، أولى الصحف المغربية في تلك الفترة وأقواها انتشارا. كانت التهمة الإساءة إلى الجيش بسبب مقال انتقادي صغير نشر أصلا في جريدة «الرأي» التي يصدرها ايضا حزب الاستقلال، بالفرنسية، وترجمته العلم بعد يومين، فاستحق، عليه المحاكمة أمام القضاء وأودع السجن من دون الصاق التهمة بالمطبوعة الاصل. وتلك كانت سابقة غير مستساغة.

وجد محمد برادة، نائب الرئيس، وهو الذي يتهيأ للسفر إلى باريس لإكمال دراسته العليا، فجأة نفسه في مواجهة السلطة، التي سجنت زميله غلاب، فنسق هو ومحمد العربي المساري (الكاتب العام)، عملية التضامن مع غلاب، واستنكر الاتحاد انزال العقاب القاسي برئيسه، الذي تعاطفت مع قضيته منظمات وهيئات في الداخل والخارج، وتقاطرت على «العلم» عرائض التضامن والاحتجاج، صارت تزين صدر صفحاتها الاولى مدة سجن غلاب.

أفرج عن غلاب، نتيجة ضغوط واستعطافات، لكن الرجل، اخترق الأبواب السبعة، وهو موقن أن السلطة وضعته في القائمة السوداء، وقد تنتقم منه مجددا، فكان أن اتخذ أول قرار وقائي مخافة تلفيق قضية قضائية أخرى ضده: إخلاء دار الفكر، وتركها لورثتها الذين كانوا يطالبون بالإفراغ وتسديد الإيجار المتأخر، بواسطة رسائل إنذار من محاميهم.

لاذت قيادة الاتحاد، بمقره الحالي، وهو شقة صغيرة بوسط المدينة، وتركت دار الفكر المتداعية البناء إلى أهلها الذين باعوها إلى الدولة، وأقامت على أنقاضها فيما بعد، وكالة المغرب العربي للأنباء (وكالة الانباء الرسمية).

لم يتراجع اتحاد الكتاب عن مواقفه المبدئية كحليف ثقافي للمعارضة الحزبية، رغم توجس رئيسه، من معاودة إنزال العقاب به. ولم يكن ممكنا للرئيس أن يظهر الخوف أو التردد ما دام حزبه (الاستقلال) في معترك المعارضة.

كان حدس غلاب، صادقا، أو لربما توفرت له قرائن أو معلومات أن السلطة تريد إزاحته عن الاتحاد مهما كلفها ذلك. ومع اقتراب موعد المؤتمر الرابع بدأت نذر الخطر تحوم بمقر الاتحاد الواقع في زنقة سوسة بالرباط. وفي خضم الترتيبات المادية للمؤتمر، لاحظت اللجنة التنظيمية أن الاشتراكات تنهال من أعضاء كانوا قد فكوا ارتباطهم مع المنظمة منذ زمان. وتبين أن المبادرين إلى إرسال قسيمة الاشتراك هم موظفون سامون في الدولة، أو محسوبون عليها يحملون صفة العضوية في الاتحاد، طلب منهم ان يستعدوا للمعركة الفاصلة.

بات مؤكدا أن الدولة المغربية وضعت عينها على اتحاد كتاب المغرب، مستغلة انحسار اليسار نتيجة القمع الذي سلط على فصائله ورموزه ولا سيما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي خرج من معطفه الاتحاد الاشتراكي، وتصورت أن الفرصة اصبحت ذهبية لإطاحة غلاب.

نبه المثقفون المحسوبون على الاتحاد الاشتراكي وآخرون، إلى خطورة هجوم السلطة على الاتحاد، وطالبوا بتأجيل المؤتمر الذي سيعقد في ظروف استثنائية، اعتقالات، إعدامات الضباط الذين شاركوا في المحاولة الانقلابية، محاكمات مدنية وعسكرية، باختصار كان الجو مشحونا وعالي التوتر، لكن غلاب، نتيجة حسابات غيردقيقة أصر على انعقاد المؤتمر الرابع في حينه، رغم أغلبية التيار الداعي إلى التأجيل المعزز بتوقيعات المؤتمرين على عريضة التأجيل. وبعد مفاوضات ونقاشات، اتفق ما سمي آنذاك بـ«التيار الوطني العريض» على الالتفاف مجددا حول غلاب والتصدي للسلطة والتمسك بالاتحاد منظمة مستقلة، والحيلولة من دون تحويله الى مكتب حكومي.

احتدم الصراع بين المعسكرين منذ الجلسة الافتتاحية، وكثرت الدلائل على أن التيار الحكومي يريد شيئين: إما إفشال المؤتمر وإيجاد حالة فراغ قانوني، وإذا تعذر ذلك، إزاحة غلاب بأي ثمن الرئاسة. وفي لحظة قايض الحكوميون لجنة تنسيق مصغرة، بالتخلي عن غلاب في مقابل تركهم المؤتمر يسير بكيفية هادئة.

رفض العرض، وسرت بين التيار المناهض للحكومة كهرباء التشبث بغلاب كتحد ورفض للهيمنة، وذلك ما تحقق بالتصويت السري، في مدارس محمد الخامس، التي احتضنت أخطر وأشهر مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب، حيث جرت معركة حقيقية بين مثقفين رسميين موالين للسلطة منفذين لأوامرها، ومعارضين حزبيين ومستقلين. ومن المؤسف أن السلطة الحكومية انتقمت من عضوين لأنهما رفعا عقيرة الاحتجاج والنقد: حرمت واحدا من وظيفته، ونصبت للثاني فخا صحافيا فأودع السجن.

لم تكن تشكيلة المكتب المركزي التي أسفر عنها مؤتمر مدارس محمد الخامس، منسجمة بالقدر الكافي. كانت تشكيلة الضرورة ودرء خطر السلطة، مما أثر سلبا على أداء الاتحاد، وبدا رئيسه للولاية الثالثة عبد الكريم غلاب، غير مستعد لمواكبة التيار الضاغط في المكتب الجديد نحو مزيد من المواقف المناوئة للسلطة، فأضحت الحاجة ملحة إلى صيغة تحالف جديد بين التيارات وإعطاء نفس آخر لاتحاد الكتاب، وهي الاستراتيجية التي كان يهيئها محمد برادة، الذي سيصبح رئيس الاتحاد الثالث. أما الحكوميون فلم يعد يظهر لهم أثر بعد الهزيمة التي منوا بها في مؤتمر المدارس.

* عبد الرفيع جواهري: لو وضعوا القمر الأحمر في يدي!

* الرباط ـ «الشرق الأوسط»: أريد من الشاعر عبد الرفيع جواهري الرئيس السادس لهيئة الكتاب المغاربة، أن يكون جسرا واصلا بين مرحلتين: الأولى ولت بخيرها وشرها، قادها أسلافه الخمسة، الذين حاولوا بدرجات متفاوتة التوفيق بين المعادلتين الصعبتين: ان تكون كاتباً مستقل الفكر، متحررا من الضغوط والاكراهات بما فيها تلك التي ترفعها السلطة دائما في الوجوه، وفي نفس الآن ان يكون الاتحاد والمنتسبون اليه قوة حليفة للسياسي المنغمس في النضال اليومي من أجل مكاسب محسوسة يطلبها ويطالب بها الرأي العام.

تسلم الرئيس الجديد الامانة من زميله الشاعر، محمد الاشعري، من دون ان يعرف بخارطة الطريق، ومن دون ان يمكنه الذين دفعوه للمعترك من بوصلة تضبط مساره، وتحدد له السرعة التي يجب ان يسير بها، والجهات التي سيوجه وجهته نحوها، وقبل هذا وذاك ما مدى السرعة في المنعطفات الحرجة؟ وعندما سلم محمد الاشعري، وزير الثقافة الحالي مفاتيح الاتحاد الى خلفه جواهري، اختزل مراسيم التسليم في مؤتمر هادئ، وكأنه يريد ان يتحرر من عبء المسؤولية خلال ولايتين متتاليتين، جرب خلالهما الاسلحة التي كانت في يده او التي أوهم السلطة انه يمتلكها، ومن دون ان يطلق اية رصاصة طائشة في الهواء. فقد تعلم في السجن كيف يتجنب الالغام، لذا يقر خصومه واصدقاؤه بدقة الرماية وانه نجح عموما في المهمة، وحافظ على ذخيرة الاتحاد ورصيده الرمزي، كما يقال، من دون ان يخاصم الفاعلين السياسيين الذين ينتسب اليهم بقرابة النشاط الميداني، بل واكب سيرهم تمشيا مع تباشير التحول المحسوب الذي كان المغرب يستعد لدخوله (اقتراب الحكم من المعارضة التقليدية وتدشين الاصلاحات الدستورية).

كانت المرحلة تؤذن بقرب عهد المشاركة التدريجية لاحزاب المعارضة الغاضبة في تسيير الشأن العام بعد عقود من الخصومة والجفاء بينها وبين الحكم.

فكيف تعامل رئيس اتحاد الكتاب مع ظرفية لم تكن فيها الرؤية واضحة حتى يتبين قائد العربة معالم الطريق، ومتى يضغط على الفرامل؟ على الرغم من اجندة التكليف بالرئاسة المثقلة بالمهام الجسيمة: تأهيل الاتحاد وتحويله الى جهاز فاعل في خدمة الكتاب ورعاية مصالحهم المادية والمعنوية، وانتهاج أسلوب المقاولة في التسيير، وتحديد اهداف قابلة للإنجاز، والانفتاح على الدولة والاستفادة من خيراتها، اذا امكن، بتفعيل صفة المنفعة العامة، من دون اهمال الرأسمالية الوطنية والقطاع الخاص، وذوي النوايا الحسنة في المجتمع، والى جانب الوصايا العشر، المضمنة في كتاب التكليف، وضعت في صفحته الاولى عبارات تنبيه: «المحافظة على استقلالية الاتحاد».

كانت شروط النجاح في المهام الموكولة ـ او جزء منها ـ الى عبد الرفيع جواهري، مجتمعة فيه نظريا، فهو سياسي، مرن وبراغماتي، وشاعر موهوب، يشدو باسمه المغاربة العاديون بسبب كلمات الاغاني الناجحة التي كتبها لمغنين مشهورين، كما انه ناثر جيد، واظب على تحرير زاوية نقدية ساخرة في صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» قبل ان يوقف الكتابة فيها، هذا عدا مناقبه الانسانية الاخرى التي يمكن اختزالها في دماثة الخلق ورقة الحاشية والصراحة المطلقة في القول والفعل.

لم تكن حصيلة رئاسته للاتحاد ناجحة بالقدر الذي تمناه، ولا فاشلة تماما كما أراد الذين بللوا الارض تحت قدميه. لم تكن كذلك فترة بيضاء ولا حافلة بالإنجازات الكبرى. ويمكن التماس الأعذار له، فقد وجد نفسه وحيدا تقريبا في المنظمة، خذله الذين توسم فيهم المساندة لاسباب مجهولة، انفرطوا وتخلوا عنه من دون ان يشرحوا اسباب انسحابهم او تجميد عضويتهم في المكتب التنفيذي، يضاف الى كل الحيثيات المذكورة ان الشاعر المرهف الحس والذوق، ارتكب في حق نفسه خطأ، من دون ان يدري، حيث اعتقد ان بامكانه تسيير الاتحاد من بعيد بواسطة «الريموت كونترول»، ونقصد انه كان مقيما بمدينة مراكش للاشراف على مكتب المحاماة مصدر عيشه، ولو كان قاطنا بالرباط، قريبا من الاعضاء، محتكا بهم، يشاركهم سهرهم، مطلعا على دسائسهم الصغيرة، متأملا عقارب ساعة السياسة، لكانت النتيجة مختلفة تماما.

ومع ذلك، يجب الاعتراف للرجل انه حافظ على المؤسسة ومنعها من التلاشي، وقاوم نزعة التحطيم والانتقام في نفسه. بذل كل ما في مستطاعه ليجنبها الخسائر المؤكدة، الى ان سلم الراية في المؤتمر العام، رافضا ان يعيد الكرة كما فعل الذين قبله وبعده، مرددا بصوت قطعي وحازم فيما يشبه القسم: «لو وضعوا القمر الاحمر (قصيدته الناجحة المغناة) في يدي، لما وليت امور الكتاب..».

ومن المفارقات غير الدالة ان الرئيس الذي قاد مرحلة انتقالية دقيقة في مسيرة اتحاد الكتاب، انتخب للمهمة النبيلة خلال المؤتمر العام الثالث عشر، فهل تطير منافسوه من الرقم؟