من الجيل الموتور إلى القلم المكسور

أحمد المديني

TT

لا علاقة لهذا العنوان بحلية السجع البتة، الا من حيث الشكل، إذ المضمون مطلبه الاول والآخر، وهذا رغم ان الاديب يطلب الصورة ويسعى اليها، بغيته الجمال، فتراه يواري أفكاره او يقمطها في تلاوين وشغاف الالفاظ لترف بأهداب الخيال، وما هو الا وراء معنى هارب او خادع كسراب يمضي ان مضى والا سيعد ذلك حلما تألق يوما وغاب، كما لا مناص، بعدئذ، في جفن الردى. أما انا فبغيتي في هذه السانحة المضمون أولا فأولا، وإن كنت في دخيلتي أوثر عليه نكهة الورد تضوع من بعض الكلمات، واطيافا ما زلت اراها تسامت شفيف تلك الذكريات، وهنا اراوح في لحظة خوف من النزول الى هوة ذلك القاع العميق، آه، حيث ماضي جيل ومعرفة واغتراف خيال، وأبهاء رؤى واسماء جلى لجمال، رحلت بعد ان غردت ونقشت ذكرها، واخرى تواصل بشغف رسم لوحة الجمال وإعلاء لواء الشرف.

ليس التردد بين القول وتَوْأَمِهِ الا لأن اتحاد كتاب المغرب، الذي كان، لهو بحق تاريخ ولادات، وصولات، وجولات، وصولا الى العثرات والخيبات والانكسارات، وحتى الخيانات. فقد أوجد ومهد وعبد الطريق التي سيسلكها في بلادنا الفكر الحديث والابداع الجديد لمجتمع كانت نخبه المتنورة قد اختارت مصير التحديث بلا هوادة، وهي التي أطلقت منذ ما يزيد عن نصف قرن، وبكيفية استراتيجية، مشروع النهضة المغربية القائمة على اسس استرداد السيادة، وإحياء الهوية، ونشر التنوير، وزرع بذور التقدم والتجديد لبلد وانسان جديد. وفي هذا المشروع، ولتحقيق هذا المنال واعلاء القيم المبثوثة فيه اعتنق الكاتب في المغرب الرسالة الوطنية التي اصبحت قرينة باسمه، وكناية عن وجوده كله بلا تجزيئ او انشطار، درجة التوحد، ذلك الذي نحت تاريخ القول الادبي في بلادنا هوية لنا احببنا او كرهنا، وليكن، على حساب انواتنا الصغيرة وقد وجدت آنئذ ذاتها في نحن كبيرة. نحن، كان اتحاد كتاب المغرب احد اقوى اصواتها جهرا ونبرا، واعلى خطاباتها معنى ومنحى، وهنا بيت القصيد.

في مطلع العقد الستيني، في قلب الزمن الذي انطلقت فيه شعلة مرحلة الاستقلالات الوطنية، وتجدد التعبئة لنضال سياسي وثقافي من طراز مختلف، ومتعدد الاشكال والادوات، لمواجهة تحديات الاستعمار الجديد، وزحف بورجوازيات هجينة لابتلاع مكاسب الاستقلال، ومن اجل خوض معركة موضوعها التحرر الاجتماعي، والتقدم ولتحقيق العدالة الاجتماعية، والانتقال الى الديمقراطية بعد استرجاع السيادة.. ثم خاصة انقداح زناد إرادة المستعمرين القدامى لتشكيل كتلة مجموعة او بلدان العالم الثالث ترتادها نخبة من المثقفين التقدميين، الوطنيين والماركسيين والاشتراكيين، ينشدون رفع المعاناة عن معذبي الارض، بلغة فرانز فانون. في هذه الحقبة الدقيقة سيبدأ منعطف حاسم تظهر فيه تنظيمات واحزاب وهيئات نقابية وسياسية وثقافية تتولى التعبئة والتنظيم والتربية والتأطير لنشر القيم الجديدة الكفيلة بصنع المجتمعات المتحررة، الديمقراطية، والمالكة، عموما، لمصيرها وهويتها الخصوصية، بتعبيراتها المتميزة، والتي يعد العمل الثقافي والانتاج الابداعي، بكل تأكيد، احد ادواتها وسماتها الفاعلة.

ظهر اتحاد كتاب المغرب نبتة اصيلة في هذا المناخ، وهو يحمل تسمية الشمول، اي المغرب العربي باعتبار مؤسسيه من المغرب والجزائر. وقد كان في ذلك وعي بضرورة أن يواصل الكتاب المعركة المشتركة للسياسيين بالادوات التي تناسبهم. والحق انها قضية واحدة، وستستمر على مدى سنين حين سينفرد كل بلد باتحاده لكن من غير ان يحيد لحظة عن وضع القلم في خدمة القضايا الوطنية الكبرى، انسجاما مع قاعدة التزام الكاتب التي سترسخ منذئذ وتغدو مذهبيته الخاصة ضمن الايديولوجية العامة للقوى التقدمية اليسارية التي سيترعرع في محيطها، ويتغذى بأدبياتها وبرامجها للتغيير اغلب كتابنا، الى درجة التماهي بين الطرفين والدورين. وهذا ما يجعل البعض لا يفهم العلاقة المركبة بين السياسي والثقافي في البيئة السوسيوـ ثقافية المغربية، وإحدى سماتها الغالبة بلغت، احيانا، حدا مقلقا انعكس على مسار اتحاد كتاب المغرب بصفة خاصة، وجعله يرتهن طردا وعكسا الى مركزية وقوى سياسية بعينها تجد في التمثيل الثقافي احد تمظهرات وقلاع معارضتها ومناهضتها للنظام الحاكم الذي ظلت تجافيه ويرجفها طيلة اربعة عقود تقريبا.

رغم هذه الخاصية التي تعد مثلبة من حيث الظاهر، الا ان اتحاد كتاب المغرب، وانطلاقا تحديدا من نهاية الستينات، مضى يشخص المنازع الفكرية والابداعية الاساس في البيئة الثقافية المغربية، وطفق يعبر في السنوات الموالية، صعدا، عن موازين القوى المتجابهة حول قيم ومبادئ التحرر الاجتماعي والسياسي بالمعنى الجذري ودور الكاتب ومفهوم ومضمون أدبه الذي لا يمكن وما ينبغي ان يخرج او يتنافى مع «هموم الجماهير» (كذا). وقد تجذر هذا التصور موقفا حاسما في المؤتمر الصاعق للاتحاد في منتصف السبعينات، الشهير بمؤتمر مدارس محمد الخامس بالرباط، حيث انعقد، والذي حسمت فيه المعركة لصالح «القوى التقدمية» في مواجهة «القوى الرجعية اليمينية» الموالية للنظام، وهذا بتعبير تلك الايام، دليلٌ على ان من سموا بالجيل الموتور صنعوا للكاتب وضعا لا يختلف كثيرا عن سلفه زمن نضال الحركة الوطنية ضد الاستعمار، يظهر فيه بهالة صاحب رسالة ومساند منادد للمناضل السياسي، وانتاجه يعرف اولا على هدي من هذا السلوك والمنحى. التصور ذاته الذي سيأخذ طابعا اكثر تمذهبا ويسبك في بنية نسقية، مزيج بين الايديولوجي والسوسيو نقدي، عقب مؤتمر جديد في نهاية السبعينات تهيمن فيه قوى اليسار وحدها وكتابها على تسيير منظمة ثقافية ستتحول فعلا الى مركز ثقل واشعاع للكتاب المغاربة، بلا منازع. سيصدر الاتحاد وثيقة تاريخية باسم: «ميثاق الشرف» هي بمثابة دستور ودليل لأخلاقيات الكاتب المغربي، من جهة التزامه اللامشروط بالقيم الوطنية والديمقراطية النضالية، بالولاء لها فردا وتصريفها انتاجا ثقافيا وابداعيا، وثيقة «لا يزيغ عنها الا هالك»! سوف يقضي الاتحاد العقود الموالية إما يعمق المواقف ذاتها بتفاوت، او منخرطا في منظومة حركة ثقافية وابداعية ما انفكت تتجدد وتتعدد في اختيارات راح الكتاب يبنونها بأنفسهم، متنازعين بين صيرورة وعي المثقف العضوي وبين خطاب يصنع الذات بلواعجها وجماليات تعبيرها الخصوصية. وفي سياق هذه الكينونة المغايرة المقترنة بتتابع تحولات سياسية بدا الاتحاد يعيش نوعا من التآكل الداخلي تتبدد فيها هويته وريادته التاريخية وتتقاطع في سياق تدبيره ومساره الاهواء التي لم تحدث تحولا نوعيا الى الامام، بقدر ما خبا فيها وهج عمر كامل امتد اربعة عقود تمثل بالفعل ذاكرة ثقافية وادبية للمغرب المستقل بامتياز، وتسجل العلامات البارزة، الناحتة لملامح الوعي ومسعى التحديث ومواقف الالتزام الوطني والقومي لدى احدى اهم النخب الفاعلة، ليس في موطنها المحلي فحسب، بل وفي حقل الثقافة العربية بمختلف مكوناتها وابعادها. يبدو اتحاد كتاب المغرب الذي ينحدر من تقاليد عريقة اخطرها ديمومة استقلاليته عن السلطة، ونديته في التواصل الخارجي، واليقظة بل المبادرة الدائمة والجريئة في المعترك الوطني، والحيوية المشهودة في اقتراح وبلورة انسب المقولات، وابتداع افضل الصيغ الممكنة للعمل الثقافي، تعبيرا عن اهلية القائمين عليه والموهبة المتأصلة لادبائه وغالبية المنتسبين الى شواغله، يبدو الاتحاد المعني منذ مطلع الالفية الجديدة، ثم عقب انقلاب الادوار السياسية التي حملت قسما من المعارضة التاريخية الى كراسي الحكم وفتحت شهوات كبتت طويلا لغنم مكاسب حاضر داني القطاف، وكأنه فقد بوصلة التمييز بين ما هو ظرفي، عابر ذي مقتضيات مسطرية، وما هو من طبيعة استراتيجية ينذر التلاعب بها او التشويش عليها بسلخ جلد المؤسسة وتغيير قواعد اللعب داخلها جملة وتفصيلا، بما نقلها او ينقلها الى كينونة مختلفة تصنع قطيعة، بالسلب طبعا، مع سيرتها والتاريخ الذي اهلها واليه انتمت جدارة. هذا من ناحية مضمون الهيكلة، اما عن مفهوم الفاعل المنتج داخلها او بموازاتها او قيمة ما يصدر له من اعمال او مستوى علاقته وفهمه للابداع، فتلك لعمري اشكالية يتسع خرقها على اي راتق ليس في بيئتنا المغربية وحدها بل وفي العالم العربي كله حيث تتوحش الطحالب في مشاتل الورد ويتعملق الجاهلون بقواعد الإملاء والنحو، دعك من قواعد ابن الاثير، سادة للحداثة والريادة. حين سيسترد اتحاد كتاب المغرب ضبط بوصلته، او ما يريده اعضاؤه من وراء وجوده ـ وهم ليسوا دائما مخيرين، وعندنا ألف دليل ـ فسيصبح لا محالة شيئا او تنظيما آخر، وقد صار فعلا اخر، سواء أقر بذلك مؤتمره الجديد او تولى تدبير شؤونه وجه قديم جديد اخر!

* روائي رئيس رابطة أدباء المغرب