ظاهرة الأدباء الشباب.. وصراع الأجيال

عبد الرحيم مؤدن

TT

ظاهرة الأجيال ـ أدبيا ـ ظاهرة طبيعية، غير ان الظاهرة، ذاتها، تأخذ ملامحها المميزة عبر كل مرحلة تاريخية حسب طبيعة كل بلد من جهة، وحسب، من جهة اخرى، وضعية الادب في هذا البلد او ذاك. وكل شاب، سيصير شيخا، كما ان هذا الاخير انتمى في زمن ما، الى الشباب. ومصطلح «الادباء الشباب»، في تاريخ الادب المغربي الحديث، وظف توظيفا، اذا صح التعبير ادبياً، واخر غير ادبي، استثمر فيه هذا المصطلح استثمارا «سياسويا» و«انتخابويا» ..الخ. يطلق المصطلح، مرة اخرى، على الظاهرة الشبابية، عمريا، في المرتبة الاولى، ويأتي الجانب الابداعي ـ البدايات والمحاولات الاولى ـ في المرتبة الثانية. واذا كان للسن إكراهاته المتعددة، فإن هذه الظاهرة، تأخذ ابعادا عديدة يسهم فيها كل من الطرفين سواء تعلق الامر بـ «الشيوخ» او بـ «الشباب».

هكذا ينطلق الشيوخ من أبوية تاريخية تسمح بها السن والسبق التاريخي..الخ. وينطلق الشباب من واقع الاختلاف ـ عمرا ومرجعية ـ الرافض لهذه الابوية.

الصراع، اذن، وارد بين الموقعين من دون ان نجعل منه «صراع اجيال». فالجيل، ادبيا، يختلف عن الجيل زمنيا، واقصد بذلك ان ظاهرة جنس ادبي ما، لا ترتبط بالشباب او الشيخوخة، عمريا، بل انها تقتضي مراحل زمنية متعددة تنسحب على العديد من الاجيال.

واذا حاولنا تجسيد هذه الظاهرة من خلال مؤسسة تاريخية رمزية، اشتغلت بالميدان الثقافي ما يقرب من نصف قرن، وهي «اتحاد كتاب المغرب»، فان مستويات هذه الظاهرة على الشكل التالي:

1 ـ مستوى التعايش بين الاجيال والاعمال وانماط الكتابة. كان ذلك في البدايات الاولى التي شهدت وجود الفقيه بجانب المثقف العصري، والشيخ بجانب الشاب، والنص الفقهي بجانب القصيدة العمودية، والقصة الحديثة بموازاة النص التاريخي، واللغة العربية بجانب اللغة الفرنسية...الخ.

2 ـ مستوى الجدل في بداياته المبكرة، بين الثقافي والسياسي. وشكل منتصف السبعينيات تجسيدا أوليا لهذا الجدل الذي تداخل فيه السن، او العمر، بالمفهوم الثقافي، ولم يكن من قبيل المصادفة، ان يصدر هذا الجدل عن «الشباب» وهم الآن في مرحلة الشيخوخة، الذين استفادوا من فورة السبعينيات، علما ان العديد منهم قد ساهم في هذه المرحلة بقليل او كثير.

3 ـ ولم يكن هذا الجدل السبعيني، عبر محطات محددة، صراع ديكة، بل كان صراع مواقف ورؤيات وكتابات، أو بعبارة اخرى، كان ظاهرة صحية ساهم فيها الجيل الجديد من خلال الدعوة، قولا وعملا، الى تحديث الابداع، او الكتابة الادبية، في سياق تحديث المجتمع. وهذه المساهمة من خلال مواقع مختلفة، لم تصادر حق الآخر «الشيخ» في التعبير. من هنا اعتبرت مرحلة السبعينيات «قيمة مضافة» للابداع الفكري والادبي بالمغرب الحديث او المعاصر.

4 ـ مستوى ما بعد المرحلة السبعينية الذي تلون بتلوينات عديدة منها:

أ ـ استمرار الجيل السابق في الانتاج الفكري والابداعي، وبذلك أثبت بعض ممثليه انهم اكثر شبابا من الشباب عمريا وابداعيا ايضا.

ب ـ استمرار جذوة الشباب في نصوص ابداعية وفكرية محددة جسدت حساسية جديدة، لم تدر ظهرها للحظات المضيئة في المرحلة السبعينية. اي انها ـ والعمر وارد ـ التقطت عنفوان الشباب من اضافات السبعينيات من دون ان تسقط في صراع الاعمار والسنوات والكبر والصغر..الخ.

ج ـ سقوط الكثير من هذه التجارب الشبابية في مأزق المراوحة في «محلك سرْ»: اي عدم القدرة على التجاوز، تجاوز تجربة الشيوخ، او الجيل السابق.

وبرزت المفارقة الكبيرة في هذه التجارب من خلال ثنائيات عديدة:

* ثنائية الفائض النظري والشح الابداعي. فالكتابات النظرية والتنظيرية تتجاوز بكثير الكتابات الابداعية على مستوى النصوص (لاحظ تخمة المصطلح).

* ترويج مفاهيم مغلوطة مثل «قتل الادب» احيانا، او التعلل بـ «اليتم» احيانا اخرى. والواقع ان عملية القتل او الخضوع لليتم لا تتم الا عن طريق استيعاب المرحلة السابقة بحكم وشم السلالة الذي لا غنى عنه، فالقطيعة غير واردة في الميدان الابداعي، نظرا لأن ما يروجه هؤلاء الشباب من قطائع على المستوى النصي يتجسد في ظهور اجناس جديدة تخلقت من صلب الاجناس القديمة، اجناس الشيوخ، بوظائف جديدة وتجليات جديدة ايضا.

والمتابع، الآن، للمنتوج الابداعي والفكري، يلاحظ وجود مكتسبات عديدة حظي بها الجيل الشاب من الكتاب والمبدعين (جائزة الادباء/الشباب قنوات الطبع المختلفة/اتساع مجالات الاعلام المختلفة/الجمعيات والروابط/ارتفاع نسبة الانتماء الى اتحاد كتاب المغرب الذي يعيش تشبيبا مستمرا...الخ) بالقياس الى الجيل السابق الذي كان ينحت من صخر، من دون ان نتحدث عن الرواد الاوائل الذين انطلقوا من ارض خراب (سعيد حجي /احمد زياد/ رواد الحركة الوطنية...الخ)، بل ان كتاب الستينيات عانوا الامرين في سياق تأسيس «كتابة جديدة» وهم يومذاك من الشباب لم تعلن القطيعة المطلقة مع انتاج الجيل السابق، جيل الرواد، من دون ان تترسم خطوات هؤلاء بالمنقلة والبركار! ولعل هذا ما يدفع الى التأكيد، مرة اخرى، على هذه المفارقة بين المكتسبات المادية ـ وهم يستحقون اكثر من ذلك ـ لهذا الجيل الشاب، والانجاز النصي، علما ان الاستثناء يظل واردا في كل زمان ومكان.

ويبدو لي ان عمق هذه المفارقة يعود الى غياب مشروع متكامل يدعم هذا المنتوج، مرة اخرى سأعود الى سبعينيات القرن الماضي، لأؤكد على ان مرحلة السبعينيات ـ ابداعا وفكرا ـ كانت «عصرا سبعينيا» متكاملا في ميدان الابداع والموضة وطرح التصورات الجديدة، والبحث في التراث وانتاج الاغنية الملتزمة واللوحة التشكيلية المعروضة بالساحات العمومية، والمسرحية المفتوحة على أنساق وصيغ تعبيرية عديدة، والتوزيع النضالي للمطبوعات في المدرسة والجامعة، والجدل الفكري والايديولوجي، شفاهة وكتابة، والمغامرة الجمالية في التجارب الابداعية المختلفة، واغناء المرجعية الفكرية والادبية بمصادر مختلفة، والدعوة الى تلوين المنتوج الابداعي بألوان الخصوصية، والمزاوجة بين النضال النصي والنضال الاجتماعي.

من هنا، تصبح ظاهرة «الأدباء الشباب» ممتلكة لشرعيتها التاريخية، تبعا لسنة التطور، ولكنها في الوقت ذاته، محتاجة الى شرعيتها النصية «او الابداعية»، خاصة ان الساحة الثقافية الحالية ما زالت تمور بإنتاج «الشيوخ» الذين لم يتكلسوا بعد، بل ان العديد من تجاربهم تزخر بإضافات عديدة تعكس حيوية هذه التجربة.

ومن موقع الحب، والغيرة ايضا، على هذه التجربة الشابة، من دون ابوية او ادعاء، ارى ان ملامح الاستنزاف تلمس في الاجهاد النظري عوض الاجهاد الابداعي، وهذا الاجهاد النظري، قد ينتج دعوات مغلوطة ترى في الآخر عدوا، وفي الكتابات السابقة عبثا، وفي الجيل السابق مجرد آباء متسلطين! وبالمقابل تبدأ عملية التجييش، واكتب عني أكتب عنك، وجعل التجربة المبتدأ والخبر والغاء الآخر.

قد يكون لهذا الموقف مبرراته التي لا تخلو من صواب (مثلا اهمال النقد المغربي لهذه التجارب/ظاهرة الاخوانيات الخ)، غير ان ذلك لا يعد مدعاة لإعلان القطيعة التي لا تصمد امام سيرورة وصيرورة التأريخ الادبي.