الآباء المؤسسون... رجال عاديون جدا

هانكوك صاحب التوقيع الشهير على بيان الاستقلال كان محركه الأول أمواله وليس الحرية

TT

بيتر روث* كانت حمى الاحتفال بعيد ميلاد اميركا المئتين قد بدأت تضرب جذورها في اواخر الستينات. وفازت المسرحية الغنائية «سنة 1776» التي عرضت على مسرح برودواي، وتناولت انحرافات اعلان الاستقلال الاميركي، بجائزة توني لعام 1969 لافضل مسرحية غنائية. وضمن هذه الاحتفالات، عرض أيضاً عدد هائل من البرامج التلفزيونية الخاصة ونظمت المسيرات الاحتفالية والحفلات التي تحيي هذه الذكرى. وتتوجت تلك الاحتفالات باستعراض «السفن الطويلة» الذي شاركت فيه سفن حربية في ميناء نيويورك في 4 يوليو (تموز) عام 1976. ومثلت تلك الاحتفالات فرصة مناسبة للاطلاع على التاريخ الاميركي، الذي تبرز فيه صورة الآباء المؤسسين على هيئة رجال اسطوريين يتصفون بالحكمة والشجاعة، واشبه بايقونات او اصنام تعبد.

ونحن نعلم ان لمعظم الاصنام اقدام من طين، ولو اعتبرنا ان تحول الاشخاص الى اصنام ظاهرة معاصرة يمكن حينها وضع قصور البشر في سياقه، غير ان الامر يبدو مختلفا عندما يتعلق الامر بشخصية ذات وزن تاريخي.

ويقدم هارلو غايلز صاحب كتاب «جون هانكوك: الملك التاجر والوطني الاميركي» (نشرته دار جون وايلي) صورة لهانكوك تتناقض في بعض جوانبها مع الاعتقادات الشائعة، اذ يبدو هانكوك رجل اعمال عاديا جدا، يلجأ الى الوسائل التقليدية لحماية ممتلكاته. وهذا يتعارض مع الصورة الشائعة للآباء المؤسسين على انهم صنف من «الرجال العظماء».

كان من المتوقع من هانكوك اقتفاء اثر ابيه وجده الوزيرين السابقين وقضاء حياته في خدمة الدولة. بيد ان للقدر يداً اخرى، فبعد وفاة والده عاش هانكوك في كنف عمه، توماس هانكوك، ووجد الصغير جون نفسه سائرا على طريق التجارة والمال.

واسس هانكوك مع عمه «بيت هانكوك» الذي اصبح اهم المحال التجارية في المستعمرات القديمة، وبات مصدر المواد التموينية والذخيرة الوحيد للجيش البريطاني خلال نزاعه مع الفرنسيين في القسم الاول من القرن الثامن عشر.

ونجح توماس هانكوك العم بصفته شخصية مركزية في الفترات الاولى من تاريخ بوسطن في تشكيل مركز تجاري هناك سيطر على «إنجلترا الجديدة» طيلة عقود. وعند وفاته عام 1764 ورث ابن اخيه جون هانكوك تجارته وامواله واصبح اغنى رجل في المستعمرات القديمة.

وكان من جملة ما كان يملكه محلات ومخازن تجارية، وتنوعت الاعمال التي يشرف عليها بين بناء السفن والاستثمارات المصرفية وتطوير العقارات والعمل في الاستيراد والتصدير. كما شملت الجمعيات الخيرية التي ينفق عليها هانكوك تجديد الاحياء المجاورة، والانفاق على تعليم الايتام، وشراء اول قطار يسير على الفحم في بوسطن.

وباختصار، كان هانكوك نسخة اميركية للارستقراطي الانجليزي «المغرم بالثقافة والموضة الانجليزية»، علاوة على انه كان يعتبر نفسه من رعايا الملك المخلصين. وبحسب ما يقول «انجر» فان كل تلك المواصفات لا تتماشى مع «رجل سوف يقود ثورة في ما بعد». غير ان ثمة امرين حصلا في حياة هانكوك، اولهما اقباله على الارتباط بعدد من وطنيي بوسطن مثل صموئيل آدامز وجيمس اوتس، اللذين انشغل اتباعهما ابان ذلك الوقت في البطش ببيوت ومحلات طبقة التجار، عارضا عليهم السكوت عما يصدر عنهم مقابل عقد صداقة قوية معهم.

اما الامر الثاني، فتمثل في اقدام البرلمان البريطاني على فرض سلسلة من الضرائب والتعرفة الجمركية بغرض انعاش الخزينة الملكية التي اجهدت بسبب عقود من الحروب ضد فرنسا واسبانيا. واعتبر هانكوك ذلك على انه بمثابة سرقة في وضح النهار لثروته وجهده، وانعكس ذلك بالشك في حقوقه كانجليزي.

وكتب «انجر» في مقدمة الكتاب «تدريجيا وعلى نحو متردد بدأت المستعمرات تقف ضد الملك وبريطانيا. اما هانكوك والآخرون فقد اعتراهم تردد كبير، فكلهم كانوا رعايا بريطانيين وكانوا يرغبون في البقاء كذلك. كما ان الثورة الاميركية ارتبطت بالمال اكثر من ارتباطها بالحرية رغم اخفاء بعض زعماء المستعمرات شهوتهم للسلطة خلف وهج عصرالاستنارة الفلسفي».

وانطلاقا من الحفاظ على الوضع الاقتصادي، انضم هانكوك الى الثوار، مستخدما ما امتلكه من سلطة وفرتها له ثروته، وتسنم قيادتهم. وقد كلفه ذلك كل ما يمتلكه تقريبا، ولكنه تحول الى بطل في عيون رفقائه واجيال الاميركيين المتعاقبة. وبرزت الصورة المعروفة لهانكوك من هذا الجزء من حياته، ومعها توقيعه الشهير على اعلان الاستقلال.

اما الكاتب «انجر» المحرر السابق في جريدة «هيرالد نيويورك تريبيون» ومراسل صحيفة «التايمز» اللندنية فيكتب عن هانكوك باسلوب سهل «اخباري» يجتذب القراء الى القصة ويصل الى خاتمتها بعناية وحرص.

هناك قلة من الكتب التي تتناول تلك الشخصيات التي لعبت ادوارا مهمة في بدايات اميركا الاولى، مثل كتب جورج ماسون وبنجامين روش وابيجيل آدمز وجيمس اوتس. وهذا الكتاب الجديد «جون هانكوك: الملك التاجر والوطني الاميركي» اضافة نوعية الى الاعمال التي تتعرض للآباء المؤسسين والدوافع التي حركتهم وانجازاتهم. ونأمل ان يكون بداية توجه جديد لمزيد من الكتب التي تسلط الضوء على هؤلاء القادة.

*خدمة «يونايتد برس انترناشيونال» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»