أتعامل مع الكتابة كأنها صلصال وعجائن من الورق

TT

كنت في الثامنة. وكان مقررا علينا نص عن القطن ضمن محفوظات اللغة العربية. لم أكن أجد سببا مقنعا يجعلنا ندرس نصا موزونا ومقفى بحيث يمكننا غناؤه، يتحدث عن فوائد القطن لبلادنا. المصانع. العمال. التصدير.. فقررت أن أكتب نصا موازياً، لكن عن القمح. وكانت الأولوية للقمح عندي ترجع إلى كوننا نعيش في بلد حار: «يمكننا أن نمشي عرايا دون أن نصاب بالبرد، لكن لا يمكن أبداً أن نعيش ونحن جوعى». هذا ما بقي في ذهني من النص الموازي الركيك فنيا والغني بالأفكار الذي كتبته في الثامنة من عمري، أي قبل أن أدرك سطوة تلك التقاليد التي تنتج أمثلة مثل «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس»...

أعتقد أن في الفن شيئا من هذا أيضاً. شيء من عدم وضع ثقل التقاليد في الحسبان، بينما ننتج أفكاراً أو نصنع علاقات جديدة، تختلف تماماً عن الراسخ من البلاغة والبيان، والمنطق الفني المتعارف عليه. لم أجد صعوبة في التوجه بكامل وعيي واختياري إلى قصيدة النثر. فاهتماماتي كانت أغلبها منذ الصغر يسيطر عليها عامل التشكيل. فبقدر ما أحببت الصلصال وعجائن الورق، أحببت تلك الكتابة التي تتشكل من داخلها دون فصل بين شكل سابق على الكتابة، ومضمون منفصل عن الشكل.. كان أغلب أصدقائي ما زالوا يستخدمون الورقة والقلم عندما بدأت أكتب قصائدي مباشرة على الكومبيوتر. وليس في هذا أي فخر. فقط، كنت ألعب على البيانو منذ صغري في المدرسة، لكننا برغم المدرسة الفرنسية والحياة المعتدلة الكريمة، لم يكن باستطاعتي أن أجرؤ لأطلب من أهلي أن يشتروا لي بيانو حقيقياً، وأن يكلفوا مدرساً خاصاً لمتابعتي في البيت، لذلك عندما ابتاع لي أبي كومبيوتر اعتبرت لوحة المفاتيح هي السلم الموسيقي الخاص بي، الذي من خلاله أكتب نوتاتي الشعرية وأقرأها على الشاشة. علاقتي بالكومبيوتر صارت حميمة جدا منذ اللحظة الأولى. مثلها مثل علاقتي بالموسيقى.

لكن هذه العلاقات بين الفنون التشكيلية والموسيقى والكتابة لم تعد وحدها كافية في لحظة من اللحظات لإنتاج معرفة تساعد في البحث عن الذات شعرا وسط هذا العالم الواسع من المجرات والكواكب والمجموعات الشمسية. كان ينبغي أن أعرف نفسي، نوعي، سياقي.. لهذا وإلى جانب الفنون المتعددة، أحببت القراءة في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والديانات القديمة والتاريخ البشري والأساطير، وتشريح الإنسان، وجغرافيا المكان. في المرحلة الثانوية، كنت أحب كل المواد التي ندرسها بلا استثناء. وبينها كانت الهندسة والكيمياء والنحو والمنطق هي المواد التي لها أفضلية عندي: كانت هذه المواد تنتج قوانين، وفي هذه المرحلة العمرية يحتاج الإنسان لمعيار ما يكتشفه بنفسه ويعتمد عليه. اكتشفت أن المسائل الهندسية تطلب منك: «اوجد كذا» وهذا قانون صارم لا يعرف التلاعب ولا يدع لك فرصة للاختيار. إنه قانون المصادرة على الفردانية، في سبيل تحقيق نظام عام متناسق يكون فيه كل ضلع في الأطروحة الهندسية كالترس في آله منظمة. الكيمياء تطلب منك معادلاتها أن تختبر معملياً ما قد ينتج من جمع أو طرح مجموعة من العناصر وكذلك شروط هذا الجمع أو الطرح التي قد تقلب المعادلة رأساً على عقب. الكيمياء فيها شيء من الصوفية. إنها لا تعتمد على وجود عناصر المعادلة وحدها لكن أيضا على شروط التحقق لهذه العناصر.

عرفت فيما بعد وجود قوانين أخرى، مثل قانون الزمن، ذلك الذي يمكن بوضوح أن نجد مثالا له في الزراعة، زراعات الصيف وزراعات الشتاء ومواقيت البذر والحرث والري والحصاد.. أما عن رغبة الإنسان في امتلاك هذه القوانين والسيطرة على شروط وجودها بوضع صوبات مثلا واستزراع محاصيل مهجنة، فهذا أمر آخر. أمر يشبه التطور الشعري بين أشكال للكتابة وأغراض ومضامين وعروض وتفعيلة الخ.. لكنك مهما زرعت ونسقت حديقة ستظل تحن إلى دغل «ينمو شيطانياً»، إلى غابة يكون فيها لك سؤال مصيري بالضرورة. أن تواجه الأسد بأم عينيك. أن تثبت أحقيتك في أمك الطبيعة أو تموت بين الحلول التوفيقية للحياة المدينية.. أعتقد أنني أشبع حنيني إلى بداءتي هذه في الكتابة. ولأنها بعيدة وعريقة كالتاريخ، يدفعني هذا الحنين إلى حالات من البحث النهم في ذواتي وفي الكون، في شروط وجودي في هذا الكون المترامي الأبعاد من المجرات الدائرة بلا ملل في الفضاء الواسع.. فأنا بكتاباتي جزء من النظام، حتى لو تم اعتبار كتاباتي منفلتة وخارجة عن السياق.. فبلا التفاحة المعطوبة لم يكن المثل القائل بأن «تفاحة واحدة معطوبة قد تفسد سلة التفاح» قد وجد. وبلا البهيمة الجرباء الشاردة لم يكن ليتم اكتشاف مراع جديدة، وبلا المستنقع بغيض الرائحة والحشرات لما بقي مجرى النهر صافياً. وبلا طاقة الفكر المتقد الذي يخلق الكلمة، لما انبعثت الكلمة حارقة.

* شاعرة ومترجمة مصرية