آخر ملوك البطالمة مؤلفة كتب في الفلسفة والطب وكانت تهوى مجالسة العلماء في قصرها بالإسكندرية

الألفية المفقودة : كليوباترا أوقعت قيصر روما برجاحة عقلها وليس بجمالها

TT

ينقسم كتاب «علم الآثار المصرية الألفية الغائبة. مصر القديمة في المصادر العربية الوسطى» Egyptology: The Missing Millennium Ancient Egypt in Medieval Arabic Writings لمؤلفه الدكتور عكاشة الدالي الاستاذ بجامعة يونيفيرستي كوليدج ومتحف بتري بلندن الى عشرة فصول تبدأ بمقدمة يستعرض فيها المؤلف النظرة المعتادة الى دراسة علوم الحضارة المصرية والتي تخلو تماما من أي اشارة الى إسهامات العلماء العرب في العصور الوسطى. ويستهل الكتاب بمقولة لعالم الآثار المعروف ترجر: «حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، لم يكد ما كان معروفا عن حضارات مصر القديمة والشرق الأدنى، يتجاوز ما هو مذكور في الإنجيل والمصادر اليونانية الرومانية القديمة». ومثل هذه المواقف هي التي دفعت المؤلف إلى رحلة البحث في النصوص العربية التي ترجع إلى عصرنا الوسيط. والكتاب مكون من 227 صفحة من القطع المتوسط. وعشرات من اللوحات التوضيحية للأصول العربية في الآثار الفرعونية . ويستهل المؤلف كتابه بمقولة خطيرة للجاحظ من كتاب الحيوان المؤرخ بحدود 771 ميلادية، تدل على مدى أهمية معرفة التاريخ عند العلماء المسلمين والعرب تقول :

«وجعل الله حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا».

ويتعرض المؤلف في كتابه لموضوع يتعلق بالملكة كليوباترا آخر ملوك الفراعنة المتحدرة من السلالة البطلمية، التي تولت حكم مصر، عندما كانت في الثامنة عشرة عام 51 قبل الميلاد، أي قبل نحو ألفي عام، انها كانت سيدة تهوى الأدب والعلم والكيمياء وتقرض الشعر، بل ان لها رسالة في مكونات السموم، على خلاف ما شيع عنها انها كانت سيدة لعوبا، تخصصت في غواية قادة وحكام العصر الروماني.

ويكشف الدالي في كتابه ان المؤرخين القدامى كشفوا عن مواهب جديدة لكليوباترا في الرياضيات وعلم الكيمياء، مشيرا الى وجود بحث علمي باسمها حمل اسم «رسالة كليوباترا في السموم». ويكشف الدالي ان المؤرخين الرومان عمدوا الى تشويه سمعة كليوباترا بإلصاق تهم الغواية بها، لأنها كانت ملكة قوية تسيطر على الحكم في بلدها.

ويقول الباحث إن أحدا في التاريخ لم يذكر أنها كانت تضاهي في الجمال ساحرات السينما اللاتي قمن بتمثيل دورها مثل اليزابيث تايلور وفيفيان لي. الا أن الدارسين العرب في القرون الوسطى لم يشيروا أبدا إلى الشكل الخارجي للملكة المصرية، ولم يذكروا أبدا أن لجمالها تأثيرا يصل لدرجة الإيقاع بيوليوس قيصر ومارك انطونيو. إلا ان جميع من عاصروها «أعجبوا باتساع معرفتها العلمية وقدراتها الإدارية»، والتي شملت مجالات مثل الطب والفلسفة والرياضة وتخطيط المدن. وليست هناك امرأة أثارت اهتمام المؤرخين والشعراء والكتاب وعلماء المصريات، كما أثارت كليوباترا الجميلة الاهتمام، بحسب المؤلف. ويقول الدالي :« إن الملكة الفرعونية لم تثر الاهتمام فقط بسبب جمالها، بل بالأساس بسبب علمها الغزير وثقافتها وقدراتها العقلية المبهرة». وتعتبر كليوباترا آخر ملوك دولة الملوك البطالمة، التي خلفت الاسكندر المقدوني في حكم مصر. هي أشهر ملكات العالم القديم على الإطلاق، إذ جمعت بين الدهاء والفتنة، وأوقعت اثنين من أهم القادة الرومان في حبها، واستطاعت أن تجلس على عرش الإسكندرية، وتمد حدودها إلى قبرص. ويكشف المؤلف في كتابه ان كليوباترا كانت اول ملكة بطلمية تتحدث اللغة المصرية القديمة، إضافة الى إجادتها اللغة العربية. وأضاف ان الرومان عمدوا الى تشويه سمعتها بعد رحيلها، لأنها كانت امرأة ذات شخصية قوية. وينقل الدالي عن المسعودي المتوفى عام 956 ميلادية في كتابه «مروج الذهب»بأن كليوباترا كانت عالمة في الكيمياء، وطبيبة تهوى مجالس العلم. ونقل المؤلف كذلك عن ابن فاتق وابن اصيبعة اهتمام آخر ملوك العصر البطلمي، وابحاثها في مجال صبغات الشعر وتساقطه ونمو الجنين في رحم الأم. ولاحظ الدكتور الدالي في كتابه أن مؤرخي الغرب انصب اهتمامهم بالأساس على جمال الملكة البطلمية، والذي طوقت كليوباترا به قادة الرومان، فيما انصب اهتمام المؤرخين العرب مثل المسعودي، في القرن العاشر، في «مروج الذهب» وابن عبد الحكم، في القرن التاسع، في «فتوح مصر» على ثقافة وذكاء كليوباترا وتفقه في الكثير من العلوم. ويشير الدالي الى ان أيا من المصادر العربية لم يتطرق الى الملامح الجسدية او شكل الملكة الفرعونية، وهو أمر مثير للانتباه نظرا لأن المصادر الغربية دأبت على وصفها بأنها امرأة لعوب تستغل جمالها لتحقيق مطامعها السياسية. وبحسب المصادر العربية الموثقة التي اعتمد عليها الدالي في كتابه، فان الملكة الفرعونية كانت لها اهتمامات فلسفية، وأن لها كتابا بعنوان «حوار الفلاسفة» عبارة عن محتوى مناقشاتها الفلسفية مع المفكرين والفلاسفة في بلاطها. كما ان لكليوباترا كتابا مشهورا بعنوان «رسالة كليوباترا في السموم»، وهو منشور بالإنجليزية. كما لها كتاب حول أدوات التجميل، وعن علم طب النساء. ويلقي الكتاب الضوء على فترة مهملة تتجاوز الألف عام من تاريخ علم الآثار المصرية والذي يفضل المؤلف أن نطلق عليه «علم الحضارة المصرية» والذي لا تمثل الآثار فيه سوى بعض ما بقي من مظاهرها المتعددة. وتبدأ هذه الفترة من الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي وحتى الفتح العثماني في القرن السادس عشر. والكتاب في الأساس رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراة من معهد الآثار بجامعة يونيفيرستي كوليدج لندن حيث يعمل حاليا. ويهدي الدكتور عكاشة كتابه الى روح المفكر البروفسور ادوارد سعيد الذي وافته المنية أثناء إعداد الكتاب كما يهديه ايضا للعالم المسلم فؤاد سزكين الذي أسس في فرانكفورت بألمانيا اول معهد من نوعه في الغرب لدراسة تاريخ العلوم الإسلامية العربية، والذي كان المؤلف قد زاره وهو طالب في الجامعة فترك في نفسه أثرا لا يمحى.

وبين سطور الكتاب يلاحظ من خلال نشأة الدكتور الدالي كمصري عاشق للغة القرآن الكريم منذ الصغر، كانت عونا له في إدراكه مبكرا لأهمية بعض هذه المصادر والتي يمكن ان تسد الفجوة القائمة حتى الآن بين المصادر الكلاسيكية التي أشارت إلى مصر القديمة وبين المصادر التي ترجع إلى عصر النهضة الأوروبية. ويقتصر بحث المؤلف في هذا الكتاب على ثلاثة محاور : أولها: التركيز على أن العرب في العصور الوسطى ومن ضمنهم المصريون بطبيعة الحال كان لديهم من الاهتمام والمعرفة الأصيلة بثقافة مصر القديمة ما دفعهم إلى القيام بمحاولات لتفسيرها. ثانيها: توضيح أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المصادر العربية من أجل فهم أفضل للحضارة المصرية القديمة، وذلك عن طريق سد الفجوة بين المصادر الكلاسيكية وبين المصادر الأوروبية اللاحقة. ثالثها: شحذ همة الباحثين لمواصلة دراسة المصادر العربية المتاحة، والتي يمكن لبعضها أن يكون عونا لعلماء الآثار من خلال ما تقدمه من أوصاف لبعض المناطق الأثرية إضافة إلى إشاراتها إلى تنقيبات وتفسيرات لبعضها، بل وربما تساعدنا هذه الأوصاف في إعادة تركيب الآثار التي اختفت منذ زمن طويل، ومنها على سبيل المثال مقصورة ايمحتب في منطقة سقارة ابو صير، والتي كانت تعرف في المصادر العربية بسجن يوسف، او معبد مين في اخميم، او منارة الاسكندرية الشهيرة وغيرها كثير.

أما منهج المؤلف في هذه الدراسة فقد بدأ بجمع ما أمكن الحصول عليه من مصادر عربية، وأغلبها يرجع الى الفترة بين القرنين السابع والسادس عشر الميلادي. وبعضها منشور بالفعل، غير ان الكثير منها لا يزال مخطوطا حبيس أدراج المكتبات في شتى أرجاء العالم. وقام الدكتور عكاشة الدالي قدر استطاعته بالتنقيب في فهارس المكتبات لتحديد المخطوطات التي يشم من عناوينها وجود علاقة بموضوع الدراسة، والحصول على نسخ لهذه المخطوطات. ومن العقبات التي تعرقل مثل هذا النوع من البحوث، هو تشتت المخطوطات العربية حول العالم وصعوبة الإطلاع على الكثير منها واستنفاد الوقت والجهد والأموال في سبيل الحصول على نسخها مما يفوق طاقة أغلب الباحثين.

ومن المشاكل الأخرى التي تواجه الباحث ما يتصل بطبيعة المصادر العربية نفسها، فالقليل منها تم نشره وقليل مما نشر تم ترجمته الى لغات يمكن لدارسي الآثار الاطلاع عليها، اذ لا يزال أغلبهم يجهل العربية والتي لا تعتبر على الإطلاق ضمن اللغات التي يحتاج الى معرفتها دارسو الآثار المصرية.

ويقول المؤلف:«حاولت قدر المستطاع الالتزام بالأصل مع مراعاة المواضع التي كتبت بالأساس في سياق مختلف عن سياق النسخة العربية». وهناك نقطة مهمة هي أن كلمة «العربية» في العنوان لا تعني ان الكاتب الأصلي عربي الأصل وانما تعني أن اللغة العربية هي لغة المصدر مثل أبي الريحان البيروني وابن سينا وغيرهما على سبيل المثال. وهناك بعض الاستثناءات القليلة مثل كتاب «سفرنامة» للرحالة ناصر خسرو والمكتوب أصلا بالفارسية. والواقع ان اللغة العربية كانت هي اللغة العالمية الأولى للعلم في شتى مجالات المعرفة منذ توطدت دعائم الاسلام وانتشاره في العالم، حيث استوى العلم العربي على سوقه بحلول القرن التاسع الميلادي وحتى بشائر عصر النهضة الأوروبية الحديثة. وبلغ من نفوذ اللغة العربية آنذاك ان تذمر بعض الأوروبيين علنا من سيادتها. ولم تكن اللغة العربية قاصرة على العرب فحسب. ولأبي الريحان البيروني مقولة رائعة تشرح تفضيله للغة العربية وهو الأعجمي الذي يجيد الفارسية واليونانية والسنسكريتية وغيرها إذ يقول :«ان للعربية رونقا ليس لغيرها يزدهي به العلم». وقد اخترت أيضاً التركيز على الكتاب المسلمين بغض النظر عن أصولهم العرقية، مع الاستعانة بغيرهم أحيانا، لأن الإسلام، من وجهة نظر الغرب، هو المسؤول عن قطع صلة المصريين بتراثهم القديم وماضيهم الفرعوني التليد، وهى المقولة التي تتكرر كثيرا في كتاباتنا في الشرق والغرب على السواء حتى اكتسبت قيمة المسلمات التي لا تقبل جدلا. وعلى حين حظيت المخطوطات العربية في مجالات العلوم الطبيعية مثل الطب والكيمياء والميكانيكا باعتراف العلماء وتقديرهم، فان أخواتها في مجال تواريخ الحضارات والأمم القديمة وآثارها قد عانت بصفة مجملة من الإهمال بحجة أنها مجرد قصص طريفة وأعاجيب ليست لها أية قيمة تاريخية. وقد نقبت هذه المصادر العربية بحثا عن أية إشارة إلى مصر القديمة تدل على اهتمام الكاتب أو مصادره بحضارتها ومدى فهمهم لجوانبها المختلفة. ثم تعرضت المادة التي تجمعت عندي لتحليل متعدد المستويات من منظور علوم المصريات يهدف أساسا إلى توضيح مدى مصداقية هذه المصادر وما إذا كان يمكن لدارسي الحضارة المصرية الاعتماد عليها مثلما نعتمد على كتابات المؤلفين اليونان والرومان الأقدمين. وقد حاول المؤلف إعادة تركيب صورة مصر القديمة كما عكستها المصادر العربية. وقد وقع اختياري على الكتاب الذين ذاع صيتهم في حقول المعرفة ممن تعكس كتاباتهم اهتماما أصيلا ومعرفة رصينة بمصر القديمة. كما استعنت أيضاً بروايات الملاحم العربية التي تعج بموضوعات مصرية قديمة او تقع أحداثها في بيئة مصرية مثل قصة الملك اليمنى سيف بن ذي يزن.

* علم الآثار المصرية الألفية الغائبة. مصر القديمة في المصادر العربية الوسطى»

* المؤلف: عكاشة الدالي