العرب بالكاد يلبسون أنفسهم وخارطة النسيج العالمية لا تذكرهم

كتاب أميركي عن النسيج واللباس في الاقتصاد العالمي

TT

يفتخر العرب أكثر مما يجب بتاريخهم العريق في مجال النسيج، ولا يخلو احتفال محلي أو فولكلوري من عروض لهذه الحرفة العتيقة التي بقيت رهن بدائية التخطيط.

وبالنظر إلى الخريطة العالمية في مجال صناعة الخيوط والنسيج والألبسة الجاهزة، يغيب العرب كلية عن المشهد، حتى لا يذكر لهم اسم أو نتبين وجودهم على أي جدول إحصائي. وهو لا يعني ان الدول العربية لا تصنّع شيئاً، لكن الذي تنتجه كماً ونوعاً، لا يدخلها في الحسبان، أو يلزم الدارسين إدراجه في مجال بحثهم وتقصيهم حول تطور هذه المهنة عالمياً. وللباحثة الأميركية كيتي.ج. ديكرسون كتاب مرجعي فريد اسمه «النسيج واللباس في الاقتصاد العالمي»، كان قد صدر بالإنجليزية، وترجمه مؤخراً نور الدين شيخ عبيد، بجهود «المنظمة العربية للترجمة» في بيروت، كتبت له صاحبة المؤلّف مقدمة فيها الكثير من الأسف عما لا ذنب لها فيه، إذ قالت وكأنها تعتذر للقارئ العربي عن غياب ذكره في بحثها:«لسوء الحظ، معظمنا في الغرب يعرف القليل عن الوضع الحالي لقطاعي النسيج واللباس في الدول العربية، وعن الأهمية التي لهما، وذلك مقارنة بما نعرفه عن منطقتنا ومناطق أخرى من العالم. لذلك آمل ان يسهم كتابي، بطريقة ما، في توسيع التبادل وفي فهم هذه الصناعة العربية في بلداننا».

وهذا الكتاب الضخم بصفحاته التي تجاوزت الألف، والذي أصبح متوفراً في المكتبة العربية، يقدّم دراسة وافية عن صناعة النسيج والملابس في العالم وتطوراتها، ومستقبلها ضمن عولمة قلبت المقاييس رأساً على عقب، حيث وجد العاملون وفق منظور وطني أنفسهم يتلاشون وقد داهمهم نظام اقتصادي يتحرك بمنظور سوق دولية واحدة. ولهذا تجد الكاتبة ان الخلاص هو باعتبار كل مواطن نفسه جزءاً من الجماعة العالمية، مع إدراك ان التغيرات التي تحصل، في أي مكان في العالم ستؤثر عليه مباشرة.

العالم يتغير بسرعة هائلة، والتحولات من بداية القرن الماضي لا يستهان بها، فقد كان لبريطانيا حصة 70% من تجارة النسيج العالمية حينها، وازداد انتاج النسيج في العالم إلى ما نسبته 90% بين العام 1900و1937، وكانت النتيجة ان توسعت صناعة النسيج في بريطانيا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى على نحو كبير جداً بلغت ذروته في اميركا مع حلول عام 1947، ورحّب المصنعون على الأثر بدعم جهود اليابان لإعادة بناء صناعتها. إذ اعتمدت الدول المتحاربة تاريخياً على انتاج النسيج لإعادة بناء اقتصادها وعرى مصالحاتها. وبمرور الوقت دخلت الدول النامية على خط التصنيع، وأصبح لعدد كبير منها دورها التنافسي في السوق. ويشمل الداخلون الجدد دولاً من أكثر أمم الأرض تخلفاً، مما صعّب المهمة على الجميع، وجعل الدول الكبرى تلتف على أساليبها التقليدية بنقل أماكن صناعاتها إلى دول ذات أجور منخفضة للتمكن من المنافسة. وبنتيجة هذه المزاحمة الطاحنة فإن بعض الدول الآسيوية التي كان فيها لإنتاج النسيج حصة كبرى في وقت ما، اتجهت إلى صناعات أخرى مثل الحواسيب والإلكترونيات ذات المداخيل المربحة.

واللافت ان الكتاب حين يتحدث عن دول نامية فهو لا يقصد دولنا او تلك الأفريقية المتهاوية في ترديها الاقتصادية، وإنما يحدد انها دول مثل البرازيل وسنغافورة وتايوان والهند والصين وهونغ كونغ. وفي مقابل كتلة اقتصادية تزداد تحصيناً مثل الاتحاد الأوروبي ودولة ضخمة الانتاج مثل الولايات المتحدة فإن هذه الدول عليها ان تقوم بعمل جبّار كي تسجل حضورها. والمعضلة الكبرى التي تواجهها ـ الدول المسماة في الكتاب نامية ـ هي الجودة والنوعية وكذلك استيفاء الشروط المفروضة عليها كي تستطيع اجتياز الحصون الاقتصادية. وفي خطوة استباقية فإن شركات يابانية افتتحت لها فروعاً مسجلة داخل الاتحاد الأوروبي مثلاً كي تصبح موجودة في الداخل ولا تحتاج نتاجاتها لإجازة مرور.

وتقول الدراسة ان اليد العاملة الرخيصة ليست وحدها السبيل إلى المنافسة الناجحة، فهذه مسألة لعب عليها المصنعون الكبار حين نقلوا مراكز التجميع إلى مناطق أقل كلفة، فالمسألة الأساسية اليوم هي في مدى التطور التكنولوجي الذي تستطيع الاستفادة منه الجهة المصنعة، إذ بفضل التكنولوجيا تمكنت الدول الكبرى إضافة إلى ما لها من ماركات تجارية شهيرة ومعروفة ان تؤمن الأفضل والأجود وان تسلّم البضائع بسرعة اكبر وبكميات أكبر، وهذا كله يدخل في مجال التنافس الحالي. وتبين الكاتبة ان الدول الصناعية الكبرى قد دخلت مغامرة في اتباعها الأساليب الجديدة في صنع الملابس. إذ باستخدام التكنولوجيا ونقل مراكز التجميع ازداد عدد العاطلين عن العمل، في هذا المجال بسرعة قياسية، خاصة وان هؤلاء غير مؤهلين للقيام بمهمات اخرى مغايرة. فقد وصل عدد العاطلين عن العمل في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى 30 مليوناً تقريباً. وبما ان العاملين في مجال النسيج بدأوا يشعرون بأن مهنتهم بلا مستقبل فقد أخذوا يوجهون أولادهم للابتعاد عنها. وبالتالي فإن الدول الأكثر تقدماً صارت تعاني من نقص في المهارات اليانعة في هكذا مجال.

يدخلنا الكتاب وبالتفاصيل في الاتفاقات التجارية الجديدة وتأثيراتها، ويرينا كيف ان صنّاع النسيج كثيراً ما كانوا وراء سياسات بعينها، وإجراءات وقوانين سنت من أجل استرضائهم وضمان أصواتهم وثقلهم في الانتخابات، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية. ورغم ان كل الدول تقريباً باتت منخرطة في صناعة الملابس، إلا ان النظم التجارية الجديدة إذا ما تضافرت مع التكنولوجيا، سيبقي الميزان راجحاً لصالح الأقوى والأمهر. مما يعني ان صناعة الملابس في الدول العربية، بالأساليب التقليدية المتبعة ستكون مجرد حاجز صغير للحد من الاستيراد الأجنبي قدر الممكن، لكنها ما تزال وستبقى عاجزة، على المدى المنظور، عن المنافسة وتسجيل الغلبة.

* النسيج واللباس في الاقتصاد العالمي

* المترجم: نور الدين شيخ عبيد

* المؤلفة: كيتي.ج. ديكرسون