قصص من العراق لا يريد أن يعرفها عرب وغربيون

يريدون أن يغوص العراق في التراجيديا كي يثبتوا أنهم كانوا على حق في معارضتهم لإسقاط نظام صدام حسين

TT

هل لاحظت وجوه مقدمي البرامج على القنوات الفضائية الغربية والعربية في يوم الانتخابات العامة التي جرت يوم 30 يناير الماضي؟ إذا كنت قد قمت بذلك فإنك تتذكر كيف بدت مكتئبة. كانت هناك مقدمة برنامج من الـ«بي بي سي» في بغداد بدت كأنها تنقل أخبار مأساة شخصية رهيبة. وماذا يمكن قوله حول ذلك المنسق الأكبر لبرنامج الأخبار على محطة فضائية عربية سيئة السمعة: كيف بدا وجهه شديد الانقباض؟ كان يبدو وكأنه تجرع للتو قنينة زيت كبد سمك القد. لمَ كان هؤلاء الناس تعيسين إلى هذا الحد؟

الجواب يقدمه بيير ريغولو وإليوس يانيكاكيس ضمن تقريرهم الطويل حول العراق المحرَّر: هناك الكثير من الأفراد في الغرب والعالم العربي يريدون أن يغوص العراق في التراجيديا كي يثبتوا أنهم كانوا على حق في معارضتهم لإسقاط نظام صدام حسين.

كان المراسلان الفرنسيان أولا يأملان بأن ينشر تقريرهما من قبل إحدى المجلات الأسبوعية الفرنسية. لكنهما بعد فترة قصيرة اكتشفا أن الإعلام الفرنسي غير مستعد بعد لوجهة نظر متوازنة حول عراق محرَّر. فالرئيس شيراك مع تأييد قوي من المثقفين الفرنسيين والإعلام والمؤسسة السياسية السائدة كانت تعارض بشدة الإطاحة بصدام حسين، وأي واحد يخرج من هذا الخط، من خلال الإيحاء، على سبيل المثال، بأن الشعب العراقي قد يكون فرحا أيضا بتحرره، يخاف من أن يعزل تماما عن الإعلام الفرنسي. (مثال على ذلك: تم طرد نائب رئيس تحرير صحيفة «لا كروا» اليومية بعد أن زار العراق وكتب مقالا يظهر فيه العراقيين وهم فرحون بتحررهم).

بعد سفرهما عبر شتى أنحاء العراق والتحدث مع عدد من العراقيين استنتج ريغولو ويانيكاكيس أن أغلبية ساحقة من العراقيين كانوا فرحين بوجود صدام حسين في السجن وأن الإرهابيين الذين يلحقون الخراب في أجزاء كثيرة من العراق هم ليسوا سوى تعبير عن عنف عدمي غاضب من طرف أقلية ضئيلة تنتمي لأولئك الحانقين من بقايا النظام السابق يدعمهم إرهابيون أجانب.

يمكن القول إن كتاب ريغولو ويانيكاكيس لا يتضمن تبشيرا بأفكار أو مواقف معينة. فالمؤلفان كانا حريصين في إبقاء وجهات نظرهما لنفسيهما. وكان تقريرهما فعالا بسبب أنه يعتمد على ما تلتقطه أعينهما من المشهد الذي يتابعانه عن الحياة اليومية للعراق المحرَّر. فهما سجلا كل مصاعب الحياة اليومية تحت ثقل العنف الإرهابي المتواصل هناك.

* مفكرة بغداد

* صيغ كتاب الرحلة الصغير الذي ألفه لؤي عبد الإله في هيئة يوميات تغطي زيارة قام بها الى العراق استغرقت 3 أسابيع، وهذا الكتاب تسجيل مختلف عن الكتاب السابق. لكنه أيضا يوفر صورة فوتوغرافية للحياة في العراق المحرَّر مع استرجاعات مكثفة للماضي لكي يضع الكل ضمن سياق مناسب.

بعد هروبه إلى المنفى وبقائه هناك مدة 26 سنة رجع عبد الإله الى بلده في شهر رمضان من عام 2003 برفقة صديقه الشاعر العراقي فاضل السلطاني الذي هو الآخر يقيم في المنفى. قرر الاثنان العودة إلى العراق عبر نفس الطريق الذي أخذهما إلى المنفى قبل سنوات كثيرة. كان السفر الثنائي تقليدا قديما في بلاد وادي الرافدين وبدأ منذ قيام جلجامش برحلته مع صديقه أنكيدو، حيث أنهما انطلقا بحثا عن الوحش هُمْبابا لقتله. لكن ثنائينا المعاصر لم يكونا يعرفان عمّ كانا يبحثان في هذه الرحلة. ربما كانا يسعيان للعثور على القليل مما سرقه الزمن والاستبداد منهما. النسخة الحديثة من همبابا قد اختفت لكن الأسطورة ما زالت قائمة في شكل خوف وعنف وشك وإرهاب.

الصورة الأولى التي يراها الثنائي عن العراق المحرَّر هي وجه قاس لجندي اميركي قام بفحص جوازيهما والتقاط صور لهما على الحدود مع ســورية. الشيء الثاني كان مدرعة هامفي تسير في الأفق القرمزي. أما أول احتكاك بأبناء وطنهما فلم يكن أقل تعاسة حينما تم إيقاف سيارتهما على يد عصابة يحمل أفرادها رشاشات كلاشنيكوف بعد مطاردتهما، حيث قاموا بسرقة ما لديهما من نقود.

أصبحت الرحلة وبسرعة تتنقل ما بين القنوط والحماسة الشديدين. صدم كاتب اليوميات كثيرا بحجم الدمار الذي لحق بالعراق تحت النظام البعثي وبسبب سلسلة الحروب التي أثارها. الأشياء ليست كما كانت ذات يوم والدمار المادي للبلد يعكس دماره الأخلاقي والثقافي. في بعض الحالات، تخلى عبد الإله عن أسلوبه الهادئ والمقتضب ليمضي ناعيا فقدان قرية أو بلدة مثلما هو الحال مع سدة الهندية، مدينة السلطاني، القريبة من بابل على سبيل المثال. في هذه الحالات لا يكون أمام القارئ سوى العودة إلى امرئ القيس وهو يذرف الدموع أمام «الأطلال».

لكن عبد الإله بإتباعه أسلوب الجملة القصيرة التي تقترب إلى أن تكون شبيهة بجمل الرسائل التلغرافية فإنه تمكن من حشد قدر هائل من المعلومات في هذا الكتاب. في الوقت نفسه لم تفلت منه تلك التفاصيل الصغيرة مثل رائحة الأرض بعد المطر، وتبدل الألوان عند الغروب، ومن باب التيقن الشخصي، الأصوات المختلفة للمتفجرات المختلفة التي تصبح كأنها موسيقى تصويرية تشكل خلفية لفيلم مخصص عن الحياة في بغداد، وتمنح حياة لمشاهداته عن هذه الحياة. بعد فترة قصيرة تعلم هو الآخر تمييز السيارات المفخخة التي أصبحت جزءا من حقيقة الحياة اليومية في العاصمة العراقية.

لا بد أن كاتب اليوميات قد عاش أياما طويلة، إذ أنه تمكن من الالتقاء بعدد كبير من الناس والتحدث معهم، من أقرب أقاربه مثل أخته وبناتها الثلاث، إلى الشعراء والكتّاب والسياسيين والناس العابرين. ولتقديم محاوريه الكثيرين وفر عبد الإله للقارئ سيرا ذاتية مصغرة عنهم، كذلك قدم لمحات مكثفة لبعض الأحداث التراجيدية التي بَصَمت الحياة في العراق منذ انقلاب 1958 العسكري مثل النهاية المريعة للعائلة المالكة والانقلابات العسكرية المتكررة للقبض على السلطة، والطرد الجماعي لأعداد كبيرة من الناس بعد اتهامهم بأنهم من أصل «فارسي»، وحملات الإبادة التي مورست ضد الأكراد، واضطهاد الشيعة، والحرب ضد إيران ومحاولة الاستيلاء على الكويت ومصادرتها، وحرب الخليج الثانية. هذه هي بعض الأحداث التي أدخلت في اليوميات وبشكل مقتضب لكن مع تأثير فعال، وذكرت من قبل أفراد حقيقيين عاشوا هذه الأحداث بأنفسهم. كذلك قام المؤلف بتسجيل مشاعرهم وآرائهم باختصار وصدق، وهذا ما ساعد على تقديم لقطة فوتوغرافية للقارئ حول الرأي العام العراقي الذي من النادر توفره في الإعلام السائد حاليا.

يمكن اعتبار كتاب يوميات عبد الإله واحدا من أكثر التقارير ذكاء مرت على كاتب هذه السطور منذ تحرير العراق. فهو لا يقدم لنا صورة عن الحياة الحقيقية في العراق لم يرها يوما المراسلون الغربيون الذين يبقون متمترسين داخل حدود «المنطقة الخضراء»، بل هو نقل الأطر التي وفقها يتبلور النقاش السياسي داخل العراق. فهو يظهر كيف أن العراقيين يتحركون اليوم عبر الحياة الاثنية والطائفية، إلى النقطة التي لا يستطيعون فيها حتى الاتفاق على أي يوم سيكون الأخير من شهر رمضان. ويبدو أن الأفكار الأساسية التي يدور حولها الحوار في العراق المحرر تتركز حول العلاقة بين المسجد والدولة، ووضع النساء، والمشاركة في السلطة بين الكثير من عناصر المجتمع العراقي الموزائيكي.

وعلى الرغم من وجود قدر من الظلمة الناجمة عما تركته عقود الاستبداد على العراق في هذا الكتاب الصغير فإن يوميات عبد الإله تنتهي بملاحظة مملوءة بالأمل.

من بين الأمكنة التي كتب عنها عبد الإله كانت الحبانية، وهي كانت ذات يوم أكبر قاعدة جوية عراقية. ومن «مفكرة بغداد» نعلم أن هذا المكان تم نهبه بطريقة منتظمة تماما عند سقوط صدام حسين، وشمل ذلك حتى نهب بعض المباني قرميدة قرميدة.

* عراقي في باريس

* الحبانية تعتبر مسقط رأس ايضا لصمويل شمعون مؤلف الكتاب الشيق «عراقي في باريس». طردت أسرة شمعون المسيحية الآشورية من الحبانية ودمر منزلها بالجرافات عام 1968 عندما سيطر البعثيون الجدد على السلطة في بغداد، كما طردت من المدينة أسر أخرى اعتبرت بسبب أصولها الفارسية والتركية والكردية والأرمنية والآشورية طابورا خامسا لأعداء القومية العربية.

طرد أسرة شمعون من الحبانية أنهى حياتها كأسرة. أرسل صمويل الى الرمادي مع أسرة أخرى طردت بسبب أصلها «الفارسي». اثر فقده كل شيء لجأ صمويل، الذي كان صبيا في الثانية عشرة من العمر، الى مجال بديل لإعادة بناء حياته. لم يكن ذلك المجال ماديا وإنما خياليا وجد طريقه الى عقل وقلب صمويل كحلم بالذهاب الى هوليوود والانضمام الى كوكبة النجوم ومنتجي الافلام السينمائية الذين كان يكن لهم إعجابا واضحا. إلا ان الهروب من قبضة وملاحقات النظام البعثي، الذي يعتبر الأكثر وحشية في التاريخ العربي الحديث، لم يكن بالأمر السهل. فقد كان لزاما على كل عراقي أداء الخدمة العسكرية قبل الحصول على جواز السفر، لذا تعين على شمعون الانتظار 11 عاما قبل التمكن من الخروج من العراق والتوجه الى سورية. كانت تلك بداية محنة أخرى لشمعون استمرت أكثر من عقد من الزمن نقلته الى لبنان والأردن وقبرص وتونس وفرنسا ثم في نهاية المطاف الى بريطانيا التي استقر فيها. انطبق على شمعون تعريف «الرجل الخطأ في المكان الخطأ». بوصفه مسيحيا في مجتمع غالبيته من المسلمين، لم يكن بوسع شمعون التخفي وراء قناع القومية العربية مثلما فعل آخرون مثل ميشيل عفلق وجبران مجدلاني والياس فرح. اما السبب في ذلك، فيعود الى انه كان من الصعب على شمعون التظاهر بأنه «عربي حقيقي» وهو آشوري صاحب حضارة سبقت الحضارة العربية بألفي عام على الأقل. واجهت شمعون مشكلة أخرى أيضا تمثلت في انه كان من مؤيدي الملكية في وقت كانت فيه غالبية المفكرين العرب ذات توجهات ثورية نتيجة التأثر بالثورتين الفرنسية والروسية. كان شمعون ينظر الى العراق كطبق الباتيلا الإسباني الذي يتشكل من عدة مكونات. أحب شمعون أميركا في وقت جرى فيه تصدير العداء لأميركا الى الشرق الأوسط بواسطة النخب اليسارية الفرنسية والشيوعيين الذين كانوا يروجون للاتحاد السوفياتي. زاد الأمر سوءا ان شمعون كان يحمل اسما اقرب الى أسماء اليهود في وقت هيمن فيه هاجس اسرائيل على النخب العربية. ربما تكون اكبر عثرة عانى منها شمعون هي مقدرته من الضحك على نفسه وعلى أي شيء تحت الشمس في وقت سيطرت فيه الجدية الزائدة على النخب العربية. لعلها معجزة ان ينجو شمعون من الاغتيال بواسطة مجموعات سورية ولبنانية وأردنية وفلسطينية وينجح في البقاء على قيد الحياة الى حين هروبه الى اوروبا. كتاب شمعون يعتبر في واقع الأمر كتابين بين دفتي كتاب واحد. فالجزء الأول «عراقي في باريس» يتألف من سلسلة من المشاهد التي تصور تجارب مغامراته في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفرنسا. يمثل هذه الجزء أفضل هجاء وسلاحا في يد الضعفاء ضد الأقوياء. كان شمعون معظم ذلك الوقت من الضعفاء بالفعل. فقد وجد نفسه وسط عاصفة من الأحداث فرضها القدر، اذ عانى سنوات من التشرد في شوارع باريس ومحطات قطاراتها. كتاب «عراقي في باريس» يعتبر من نوع الروايات الذي يصف التطور النضوج البطيء لشخصية بطلها الشاب. ربما يكون الجانب الذي جعل هجاء شمعون أكثر فعالية هو انه لم يطلق أحكاما شخصية. فقد كان يعرف جديدا ان البشر يخطئون وان الكمال سعي مدمر في الحياة الحقيقية. يمر القارئ في هذه الرواية الصغيرة بالعديد من «المفكرين» العرب والشخصيات الهامشية التي تقضي حياتها في مجاهل النسيان داخل المقاهي والحانات الباريسية. هؤلاء هم الذين خرجوا من العامل العربي دون ان يدركوا ان العالم العربي لم يخرج من داخلهم. لذا، متى ما شعروا بالغضب تجاه شمعون لأي سبب من الأسباب يوجهون إليه إساءات مثل «اليهودي القذر» او «الآشوري القذر» عندما يكونون أكثر عطفا تجاهه. كما ان البعض كان يعيره بأنه غير مختون، وفي وقت لاحق اضطر الى اللجوء بخصوص هذا الأمر الى حلاق تونسي اجرى له عملية لقاء ما يعادل عشرة دولارات. يمر شمعون بمختلف المواقف الغريبة. فقد استيقظ صباح أحد الأيام لتناول إفطاره في منزل سري بطرابلس، شمال لبنان، وفره له ثوري فلسطيني ليشاهد مشادة كلامية بصوت عال بين ياسر عرفات ونائبه ابو جهاد. ولكن كيف جاءوا الى ذلك المكان؟ لم يكن لدى شمعون وقت للسؤال وهو يحملق في وجه القياديين الفلسطينيين. علم شمعون في وقت لاحق ان عرفات وزملاءه كانوا يخططون هروبهم في الوقت الذي اقترب فيه السوريون من طرابلس بغرض القضاء على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. أخلى القياديون الفلسطينيون الفارون حساباتهم المصرفية ووزعوا الأموال على مؤيديهم بمن في ذلك عدد من الصحافيين العرب. كان نصيب شمعون، الذي تصادف وجوده هناك، 5000 دولار، وهو اكبر مبلغ مالي يراه في حياته. بعض شخصيات الرواية حملت أسماء حقيقية، فيما اطلقت على شخصيات اخرى أسماء مستعارة. لذا، فإن القارئ العربي سيجد متعة في محاولة معرفة الشخصيات الحقيقية. كاتب هذا العرض لكتاب «عربي في باريس» نجح في معرفة 12 على الأقل من الكتاب والشعراء والسياسيين العرب. حاول ومن المحتمل ان تعرف أكثر من هذا العدد.

رواية شمعون الاخرى، «المشرد والسينما» كتبت بأسلوب الواقعية السحرية. يحكي شمعون في هذه الرواية الصغيرة حلم صباه بأن ينتج فيلما سينمائيا عن والده، وهو خباز أصم في الحبانية. كان ذلك حلما ساعد شمعون في امتصاص آلام أحداث ميلاده في الزمن الخاطئ والمكان الخاطئ.

تتجاوز رواية شمعون مجرد سيرته الذاتية لتصبح قصة جيل كامل من العرب الذين دمرت حياتهم الايديولوجيات الحمقاء التي هيمنت على السياسة العربية ابتداء من عقد الخمسينات. رغم غلبة طابع السوداوية والمرارة، فإن الرواية تتضمن ايضا حسا فكاهياً وروح دعابة متميزين ومقدرة غير عادية للكاتب على خلق عالم داخلي، وهذا ما يتميز به سكان بلاد ما بين النهرين.