دولنة الدين في المشروع البورقيبي حرمت رؤيته من التجذر في الواقع التونسي

آمال موسى

TT

ليس من الصعب في شيء تأكيد علمانية التوجهات البورقيبية وذلك سواء بالنظر في الإصلاحات المؤسسية الكبرى التي قام بها في السنوات الأولى للاستقلال أو في مظاهر العلمنة و التحديث الثقافي التي يتضمنها خطابه السياسي بوصفه وعاء يحمل الرؤى والخيارات والبنى الذهنيّة البديلة. أمّا الصعوبة الكبرى فإنّها تكمن في إجراء حسم واضح ونهائي في خصوص علاقة السياسي بالديني في التجربة البورقيبية. فلا يخفى على أحد أن التعاطي مع خطاب سياسي يختلف جذريا عن التعاطي مع نظرية فكرية أو مدرسة ذات طرح فكري معين، ذلك أن طبيعة السائس واعتماده أساليب المراوغة والتسييس والتوظيف والمناورة، تجعل من كل الفرضيات مفتوحة بحكم أن الباحث يجد الحقيقة ونقيضها.

ولا تخلو خطب بورقيبة الكثيرة من عدة ظواهر أبرزها التوظيف واللجوء إلى المزايدات بنوعيها الوصفي والانتمائي، إضافة إلى ظاهرة تشكل عائقا أمام مسيرة البحث هي ظاهرة التناقض في المواقف.

ونظرا لهذه الملابسات الخاصة بتجربة بورقيبة، فإن سمات الإشكالية والتعقد والالتباس تلتصق بشدّة بالمشروع البورقيبي، الأمر الذي يتطلب من الباحثين والمهتمين مقاربات مختلفة وتحليلات موضوعية تأتي على مفاصل المشروع التحديثي البورقيبي، ومظاهر عقلنة المفاعيل الاجتماعية والنظام الرمزي للمجتمع التونسي. وفي نفس الوقت محاولة فهم وتفسير خطة التواصل مع الدين التي اعتمدها بورقيبة في سياسته والتي تظهر بالخصوص في حضور المعجم القرآني في الخطاب والالتباس بالسيرة البنيوية، وهي خطة كثيرا ما عوض بها السائس علاقة التوتر مع الممارسة الاجتماعية للدين.

ومن الإسهامات الفكرية والجادة التي بدأت تظهر أخيرا، نذكر كتاب «بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة» لصاحبه الكاتب الصحافي لطفي حجّي، وهو من الأقلام التونسية المعروفة بعمقها وبسعة ثقافتها. وحقّق هذا الكتاب الصادر عن دار الجنوب للنشر صدى إعلاميا وثقافيا لافتا وذلك لطبيعة الموضوع ولطريقة التناول التي عبرت عن محاولة جادة في التساؤل والتحليل والبحث.

ولقد تضمن كتاب «بورقيبة والإسلام» ثلاثة أبواب: الأول بورقيبة والعلمانية، والثاني معارك الإصلاح (المرأة، جامع الزيتونة، القضاء، شيوخ الزيتونة)، والثالث والأخير التأويل البورقيبي للإسلام.

ويلخص لطفي حجّي، دوافع بحثه في علاقة بورقيبة الجدلية بالدين وأيضا في أن القضايا الإسلامية التي عالجها منذ نصف قرن لا تزال محل نقاش إلى اليوم في الدول الإسلامية بل إن أغلب تلك القضايا أصبحت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر محور نقاش عالمي. وانطلق الباحث في قراءته التي أرادها بعيدة عن التخوين والتمجيد، من رصد ثلاثة مواقف أساسية وضعها الدارسون لعلاقة بورقيبة بالإسلام وهي:

ـ اعتبار بورقيبة كافرا لأنّه غيّر ما هو معلوم من الدين بالضرورة واجتهد في مسائل تضمنت نصّا قطعيّ الدّلالة، واستفزّ المسلمين في عباداتهم وعقائدهم، وتلك مواقف تكفي في المنظور الإسلامي السائد أن تخرج صاحبها من ملّة الإسلام.

ـ اعتباره لائكيّا/علمانيّا بامتياز، وهذه الصفة يطلقها خصومه الذين يرون في العلمانيّة ضربا من ضروب تهميش الدين عن دواليب الدولة ومؤسسات الحكم... ويرون في ذلك خطأ شنيعا ارتكبه بورقيبة في حقّ الإسلام، لأنّ الإسلام عندهم دين ودولة.

ولا يقتصر نعت بورقيبة باللائكيّة على خصومه الإيديولوجيين فحسب بل يصفه بذلك المثقفون الحداثيون الذين تبنّوا رؤى من خارج الفضاء التقليدي ورأوا في بورقيبة نموذجا جسّد العلمانيّة وإن كانت منقوصة بالنسبة إلى الذين اعتقدوا تحت تأثير الإيديولوجيات السائدة أن العلمانيّة لابدّ أن تكون استئصاليّة لجميع المظاهر الدينيّة.

ـ اعتبار بورقيبة أتاتورك العالم العربي في قراءة أخرى إذ أنّ بعض الدّراسات تورد اسم بورقيبة مقرونا باسم الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك عند الحديث عن الإصلاح في الدول الإسلاميّة، فمشروع بورقيبة مطابق عندهم لمشروع أتاتورك، فكلاهما كان له موقف صارم من الدين، وتأثر بالغرب إلى حدّ بعيد، حتى أنّ هنالك من اعتبر مشروعيهما مجرّد نسخ لتجارب غربيّة رغبة منهما في سحق الشخصيّة المسلمة.

إنّ إعلان بورقيبة قبل الاستقلال بسنتين تقريبا في الصحف الفرنسية عن ميولاته لإرساء دولة علمانية، الشيء الذي أثار ردود فعل رافضة من أهمّها خطاب شيخ الإسلام آنذاك عبد العزيز جعيط في عيد الأضحى أمام الباي، قد شكل البداية/ الصدمة في علاقة بورقيبة بعلماء الدين، والأهم من ذلك هو تصنيفه بشكل قبلي كسائر على خطى مصطفى كمال أتاتورك، لذلك فإن الكاتب لطفي حجّي أولى لهذه المسألة الحيز الكبير من بحثه، وأجرى تحليلا يعتمد المقارنة والنقد، وذلك من خلال استنطاق الخطاب البورقيبي من الداخل بفسح المجال له كي يردّ على سؤال التاريخ والواقع والعلمانيّة أي مقاربة إشكاليّة العلمنة عبر مسارين هما: مقارنة الرؤية البورقيبية بالمشروع الأتاتوركي وأيضا الرؤية البورقيبية لموقع الدين في السلطة الاجتماعية خطابا وممارسته على اعتبار أنّ ذلك أحد الأبعاد الأساسيّة للطرح العلماني.

وفيما يخص علاقة بورقيبة بأتاتورك، فإنه من السهولة بمكان الظفر ببورتريه ضاف وكاف له في خطاب بورقيبة السياسي فهو ـ أي أتاتورك ـ حسب الرؤية البورقيبية ينبذ مركب اليأس والقنوط، وهو المجدد الذي ذهب في نشر العلمانية إلى حدود لم تذهب إليها فرنسا نفسها، بل أنه البطل المثالي وباعث تركيا الحديثة.

ولفهم مثل هذا البورتريه التمجيدي لأتاتورك وتحديد ظروف إنتاجه الفكريّة، لابدّ من ربطه بالإجراءات التي اتخذها أتاتورك ضد الدين والمتمثلة في إلغاء اعتماد الإسلام الدين الرسمي للبلاد ورفع الآذان باللغة التركية واعتماد قانون جزائي جديد وتغيير الأحرف الأبجدية العربية في الكتابة.

والجدير بالاهتمام في مقاربة الكاتب لطفي حجّي هو توقّفه عند أوجه الاختلاف بين بورقيبة وأتاتورك، وكأنه بذلك يمحو مبالغة ما وتركيزا على تشابه أدى إلى سوء فهم وتأويل يجانب الحقيقة. ويقول حجّي في هذا السياق: «لما كانت نقاط الالتقاء كثيرة بين الرؤية الكمالية والبورقيبية فقد حجبت لدى الكثير من الدارسين أو السياسيين أوجه الاختلاف بل التضاد في كثير من الأحيان، فبورقيبة حرص أكثر من مرّة على إبراز هذه الاختلافات بل إنّه نقد المشروع الكمالي نقدا جذريا يصل في بعض الأحيان إلى التجريح. لقد كان نقدا شاملا للمنطلقات والأهداف والوسائل أي للاستراتيجيات والتكتيكات الكماليّة». ومن مظاهر الاختلاف بين أتاتورك وبورقيبة هو ما رصده لطفي حجّي في مستويات عدّة تشمل المنطلقات والاستراتيجيات والرؤية والوسائل، مع استعراض موقف بورقيبة الرافض لإعلان أتاتورك للجمهورية وإلغاء الخلافة وتبرير بورقيبة ذلك باعتبارين:

ـ الظرفيّة التاريخيّة لم تكن مهيأة لتطبيق هذا النظام، كما أنّ مصلحة تركيا والمسلمين كانت تكمن في الحفاظ على الخلافة العثمانيّة، حتّى إن كانت جسدا مريضا، ومحاولة تقويمها من الداخل لا إلغائها، فالمصلحة العامة تستوجب الوحدة لا التشتت.

ـ لم يهيئ مصطفى كمال المجتمع التركي لقبول النظام الجمهوري وبالتالي لم يتحوّل هذا النمط إلى مطلب جماهيري.

ويرى صاحب الكتاب أن هذا النقد البورقيبي يحيلنا على تفكيك ما يراه البعض مفارقة في الفكر البورقيبي، فبورقيبة ينقد إعلان الجمهوريّة التركيّة ويتبنّى في ما بعد نفس الطرح، يصبّ جام غضبه على محاولة المسّ بالوضع القائم للمرأة أثناء الاستعمار، ثمّ يذهب بعد الاستقلال بعيدا في النقد الجذري لهذا الوضع ويستميت محاولا تغييره. لقد فسّر الكثير من الدارسين هذا الأمر على أساس الارتباك السياسي أو على أساس النفعيّة أو حتّى الميكيافيليّة. ويضيف حجّي أنّ المنطق الداخلي للخطاب البورقيبي يبيّن أنّه خطاب مثقل بوعي اللحظة التاريخيّة إلى حدّ الهوس واستراتيجيّة التعبئة ضدّ الاستعمار كانت تفرض التوحد حتّى على توازنات هشّة، كما تمّت الإشارة إلى رفض بورقيبة سعي أتاتورك إلحاق المجتمع التركي بالمجتمع الغربي وخاصّة النموذج الفرنسي معتبرا أنّ المشهد الذي رسمه أتاتورك لمجتمعه مشهد زائف ولم يحسن أتاتورك إدراك التمايزات، وسعى إلى وسائل لا تتماشى مع حقيقة الواقع وهي اعتماد القمع واعتماد القانون قبل توفير الأرضيّة.

ولكن هل أنّ نقد بورقيبة لأتاتورك وإبراز الكاتب لمظاهر الاختلاف البنيويّة والمنهجيّة كافيان لمحو صفة العلمانيّة عن بورقيبة؟

لقد حرص لطفي حجّي بشكل غير مباشر على إظهار التوجهات العلمانيّة في حلّ عن الالتباس بتجربة أتاتورك، ويظهر ذلك في الباب الثاني الذي خصصه لمعارك الإصلاح وفيه أقام الأدلّة على مظاهر الترشيد المادي للإصلاحات التي قام بها بورقيبة في مجالات الأحوال الشخصيّة والقضاء وخصوصا التعليم الزيتوني وقابليّته للاستعمار، ذلك أنّ إلغاء المحاكم الشرعية والتعليم الديني الزيتوني وإلغاء الأحباس العامّة والخاصّة علّها تتضمّن معركة خفيّة ومعلنة مع المؤسّسة الدينيّة التي رامت الإصلاحات إلى تجاوزها وتفكيكها كبنى تقليديّة، إضافة إلى المفاهيم التي تشكّل المعجم الأساسي في خطابات بورقيبة ومنها مفهوم الأمّة بالمعنى الأوروبي وموقع العقل في الفعل الإنساني وأيضا تكريس خطابات كثيرة للإقناع بوجوب الصوم في رمضان لكسب معركة التقدّم، وموقفه من مسألة النسل ومحاولته المساواة في الإرث وإباحته للربا وتركيزه على ما يمكن أن نسميه ظاهرة تقديس الدنيوي على حساب الآخرة في خطابه.

وفي مقابل سعي الكاتب إلى فهم وتفهم رؤية بورقيبة الخاصّة للدين الإسلامي التي تقوم على الاجتهاد فإنّه لم يستطع والحال أنّه يستنطق خطابا تكشفه شقوقه ومقولاته ودلالاته أن يتجاوز بعض المحددات التي أثرت في عدم تجذير الإصلاحات، معتبرا أنّ الخطاب البورقيبي قد تحول في كافة مستوياته إلى خطاب مغلق.

* بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة

* المؤلف: لطفي حجّي