الكتابة شرفة القلب والشعر استنساخ لما في الروح من ألم

ثريا ماجدولين *

TT

في البدء لم تكن الكتابة بالنسبة لي اختيارا.. أو على الأقل لم تكن اختيارا مريحا.. لجأت إليها وأنا بين الألم والأمل، وكانت الطريق الذي وصلني بالحلم الذي كنت أتوق إلى تحقيقه. حين لجأت إليها لأول مرة، كان ذلك نتيجة لصدمة العين. أخذت القلم وأنا في الرابعة عشرة من عمري وبدأت أدون إحساسي بعنف العالم من حولي.. أدون رفضي للعالم الذي يقرر من أجلي ويكسر الأحلام بداخلي.. أخذت القلم لأول مرة لأدافع عن وجهة نظري تجاه الحياة والتي بدت لي آنذاك تافهة وقاسية في آن واحد، حيث اكتشفت مبكرا أن العالم ضيق وظالم. وفي التاسعة عشرة من عمري نشرت أولى قصائدي. كتبت في هذه الفترة بغزارة عن الوطن والذات.. وكلما توغلت في العمر وفي رحلة الكتابة، وجدتني أتسلق السماء باحثة عن الأرض.. عن مكان يسع حلمي. هكذا كونت لنفسي طريقا خاصا في الكتابة، وسعيت من خلاله إلى إعلان حضوري لأقول للآخر: أنا أكتب إذن أنا موجودة! كانت الكتابات الأولى تدوينا لرفض العالم ثم صارت بعد ذلك، في المرحلة الجامعية بالخصوص، تجسيدا للوعي الوطني والقومي، حيث كتبت عن الوطن وفلسطين وجنوب لبنان دون أن تغيب الذات بين كل هذه المواضيع، حيث ظلت المعاناة شرطا ضروريا للقصيدة. وفي نهاية الثمانينات عدت ثانية إلى تأمل الحياة، لكن بنظرة عبثية ناتجة عن الإحباطات المتكررة التي لا شك أحسها الآخرون أيضا على جميع الواجهات. وفي كل المحطات من مسيرتي الشعرية حاولت أن أجعل من الكتابة وسيلة للتحرر والتحدي.

ولماذا الشعر بالذات؟ حين اكتشفت القصيدة ذات زمن بعيد، وجدتني أمحو كل شيء من أمامي ولا أدع غير بياض الورق، يمدني بشهوة الكتابة ونشوة التفوق.. شهوة الامتلاك ونشوة الامتلاء.. يتفوق الكاتب على عذاباته حين يأسرها بالكلمات. سافرت في الكلام.. زرعت الكلام ومرقت سريعا من دون الالتفات إلى الوراء! الكتابة كانت وما تزال بالنسبة لي فرصة لأجلس إلى ذاتي وأنسج العزلة الرفيعة حولي، لأدون إحساسي المفرط بالأشياء، بالزمان والمكان والناس. أثناء الكتابة أفتح عيني وأغلقهما على دوائر الصمت بداخلي وتكون القصيدة صدى للصمت المدمر في الأشياء... هكذا أكتب لأغلق الحفر الممتدة حولي والناتجة عن شيخوخة الصمت وشيخوخة الألم، وهكذا أحس أن المسافة بيني وبين القارئ قريبة جدا. وأعتقد أنني أبدو في قصائدي أكثر وضوحا من المرآة. فإذا كانت المرآة تعكس الشكل الخارجي فإن قصائدي تكشف عمقي. وهكذا يكون الشعر استنساخا لما في الروح من ألم، وانعكاسا لما في النفس من مقاومة ضد عنف الحياة. مع توغلي أكثر في هذه الرحلة أصبحت الكتابة مكاني المشتهى، فيها أستطيع أن أضع لونا للهواء وشكلا للفرح وضوءا للحزن.. ومعها أفلت من ضيق الزمان وعجز المكان.. وبها أحفر في عمقي ثقبا أمرق منه إلى العالم الذي أشتهي وأريد.. وإذا كان البعض يعتقد أن الكتابة في يومنا هذا ضرب من العبث، فما أحوجنا إلى عبث نلون به العيش بلون الحياة.. بدون هذا الجانب الروحي تصبح حياتنا عقيمة.. نحن الذين نبحث في كل ما حولنا عن جودة الحياة وجودة العلاقات الإنسانية ونحن نعلم مسبقا أن تكاليف الجودة باهظة.. كم هو ضيق هذا العمر إن لم نفتح نوافذ الشعر لنطل من شرفتها على الحياة ونستنشق الهواء النقي، بدل أن نغلق أعيننا وننظر إلى دواخلنا بحسرة ونحن نكتشف الهوة الواسعة التي تفصلنا عن الحلم الذي نتوق إليه. أعرف أن الكتابة ليست خلاصا، ولكن كيف السبيل لإيقاف هذا المد الممتد من الذهن، هذا السيل العذب الذي يمرق من العين والقلب.. ولعلي أكتب لأصلح شيئا ما حولي أو بداخلي.. أو على الأقل لأغسل الصمت العالق بي. الشعر هويتي التي لا يمكن أن أنسلخ عنها، هو الزمان والمكان المشتهى دوما. أكتب لأحس بالحياة.. لم أشعر قط أنني أكتب ليقرأني الآخر.. كان يكفي أن آخذ القلم وأملأ البياض أمامي لأحس بعدها براحة ومتعة.. الكتابة عندي مكان، ملجأ، يعيد التوازن إلى نفسي.

* شاعرة من المغرب