كتائب الأقصى.. هل خرجت فعلا عن البوصلة الفتحاوية؟

كاتبان فلسطينيان يتناولان تجربتهما من الداخل

TT

تشكل مادة كتاب «حركة فتح من العاصفة الى كتائب الأقصى»، الصادر عن «دار الأوائل» بدمشق لعلي بدوان ونبيل السهلي، عن الحقل السياسي الفلسطيني في اطار منظمة التحرير، جزءاً من دراسة موسعة تتعلق بالانعطافات العسكرية الفدائية لقوى المقاومة الفلسطينية في سياق الانتفاضة، ودور مختلف أجنحتها العاملة في فلسطين. والكتاب يضم خمسة فصول في 160 صفحة من القطع الكبير، اضافة الى مقدمة طويلة كتبت تحت عنوان: «ياسرعرفات … رحلة الاستثناء»، تناولت الدور الخاص للرئيس الراحل ياسر عرفات في تأسيس حركة فتح منذ الخمسينيات من القرن الماضي في القاهرة ودول الخليج العربي، و«بصماته التي عكست شخصيته ومؤثراتها التي تركها على مسار حركة فتح والحركة الوطنية الفلسطينية في ساحة أشبه بلوحة سوريالية فلسطينية وشرق أوسطية تعج بالتنوع الفكري والسياسي… وبالعجائب». كما جاء فيها.

في الفصل الأول الذي حمل عنوان «فتح العاصفة ومخاض الرصاصة الأولى»، يتناول المؤلفان الجذور التاريخية التي هيأت لانطلاقة حركة فتح وجناحها العسكري الذي حمل اسم «قوات العاصفة». ويتطرق المؤلفان بشيء من التفاصيل الى الارهاصات وعوامل التأسيس التي بدأت في قطاع غزة وسورية ولبنان والأردن وأمتدت الى دول الخليج العربي، حيث التربة الخصبة التي ساعدت على نمو وانطلاق شرارات الثورة الفلسطينية المعاصرة ويتتبع الكتاب نقاط الانعطاف والمراحل الحساسة التي مرت بها حركة فتح، والسمات التي ميزت قادتها المؤسسين والتي مكنتهم من الامساك بالمعادلة الفلسطينية في اطار منظمة التحرير واستقالة الرئيس الأول للمنظمة أحمد الشقيري ليحل مكانه ياسرعرفات في الفصل الثاني يعرض بدوان والسهلي رحلة الجناح العسكري لحركة فتح / قوات العاصفة، منذ صفقة السلاح الجزائرية الأولى التي حطت بواسطة طائرتي أنتينوف في مطار المزة بدمشق عام 1965، وصولاً الى مرحلة التجييش التي عاشتها حركة فتح مع تضخم جهازها العسكري واتساع مدى انتشار قوات العاصفة من جبهة أغوار الأردن وصولاً الى جنوب لبنان، حتى الخروج الفلسطيني المسلح من بيروت نهاية العام 1982 والموافقة الفلسطينية على قرارات الأمم المتحدة كأساس للحل. ثم يتتبعان انتقال الثقل الفلسطيني رويداً رويداً الى الداخل الفلسطيني، الأمر الذي هيأ بدوره لانطلاق شرارات الانتفاضتين الأولى والثانية، وولادة أجنحة حركة فتح العسكرية في الداخل من قاع البنية الفتحاوية العريضة من أبناء المخيمات والريف الفلسطيني كالفهود السود، وصقور فتح، والجيش الشعبي، وكتائب العودة، وصولاً الى كتائب شهداء الأقصى التي انطلقت من بيت لحم وأمتدت الى عموم الضفة الغربية وقطاع غزة في أكتوبر (تشرين الاول) 2001 بعد اغتيال حسين عبيات، باعتبارها الوريث لقوات العاصفة، وفي ظل منافسة شديدة مع التيار الاسلامي بجناحيه المسلحين: كتائب الشهيد عزالدين القسام وكتائب سرايا القدس.

وفي الفصل الثالث «كتائب الأقصى الخطاب السياسي والتنظيمي»، يناقش بدوان والسهلي الأعمدة الأساسية التي ميزت خطاب كتائب الأقصى. ويشيران الى أن طبيعة حركة فتح واللباس الفضفاض الذي يمكن أن ترتديه مواقعها التنظيمية المختلفة فتحت المجال أمام كتائب الأقصى لاطلاق خطاب سياسي يبدو أحياناً مفترقاً عن السلطة وحركة فتح، الا أنه بالجوهر لم يكن يحد عن البوصلة الفتحاوية واتجاهها العام الذي يتسع للجميع. ويلخص المؤلفان على القول بأن كتائب شهداء الأقصى حافظت بكل المراحل على وفائها والتزامها ودفاعها عن سياسات الرئيس الراحل ياسر عرفات، وعن وحدة حركة فتح والتزامها بالخط السياسي العام للسلطة الفلسطينية كما كرسه عرفات، والذي جمع بين ثنائية (انتفاضة، مفاوضات).

ويرى المؤلفان، في الفصل الرابع «كتائب الأقصى ومستقبل العمل الفلسطيني»، وبعد ايراد المعطيات التي أفرزها فعل الأجنحة الفدائية الفلسطينية، أن ثمة ضرورة لترشيد العمل الفدائي المقاوم، والتخلص من النظرة التقديسية للعمل المسلح، فهو في نهاية المطاف وسيلة وليس غاية، ويفترض به أن يتم متناغماً مع برنامج سياسي توافقي فلسطيني. ويتوقفان أمام استخلاصات ونتائج تجربة كتائب الأقصى التي انطلقت في عملها المقاوم ضد التجمعات العسكرية والأمنية الاستيطانية الاسرائيلية داخل مناطق 1967 قبل أن ينتقل الى عمق 1948 بعد اقدام قوات الاحتلال على توسيع عمليات الاغتيالات للكوادر العسكرية والسياسية الفلسطينية وللشخصيات ذات الشأن العام، ثم قبول الكتائب بمنطق الهدنة بعد قبولها من الرئيس عرفات. وعليه، يقول المؤلفان بأن تمدد العمل نحو المرافق المدنية الاسرائيلية داخل فلسطين 1948 لم يخدم الانتفاضة ووضعها على ساحة المبارزة العسكرية غير المتكافئة مع جيش الاحتلال، واستطاعت اسرائيل الاستفادة منها في تصوير الانتفاضة أمام العالم باعتبارها ظاهرة «ارهابية ».

الكتاب يوفر بين دفتيه مادة طازجة، ومحاولة لتدوين ونقاش مرحلة من التاريخ الفلسطيني المعاصر، بالرغم من الملاحظات الكثيرة والواسعة التي تعتور منهجية الكتاب ومادته البحثية.

ومع هذا، فان الجهد البحثي الملموس بدا واضحاً من خلال حرص كل من علي بدوان ونبيل السهلي على تدعيم تحليل الموضوع المدروس بكم هائل من المعلومات الموثقة من مصادرها المختلفة وعلى لسان صناع التجربة، مع تجنبهما الوقوع في مطب أخطاء «تناقضات الرواية الشفوية وحتى المكتوبة» هنا وهناك على يد البعض ممن ساهم أو عمل على الدخول في ميدان محاولة تدوين جزءاً هاماً من السيرة والمسيرة الوطنية الفلسطينية.

وفي هذا السياق يسبر المؤلفان وبحكم عملهما داخل البيت الفلسطيني تفاصيل الحالة الفتحاوية والفلسطينية الخاصة، موردين العديد من مداعبات الرئيس عرفات من «مداعبات» خلال مجالسه الخاصة، منها اللقطتان التاليتان: كان عرفات يرد على الذين يغمزون من قناة علمانية بعض قادة حركة فتح في مواجهة الأصول الاخوانية للأكثرية المؤسسة لها، بأنه يفرق بين المسلم المرتد وبين من يعصي اوامر الله، وبين المؤمن، والمؤمن المتزمت، وكان يصنف نفسه من المؤمنين. وكان ينهي مثل هذه الاحاديث بالقول «لا مانع لدي من فصل كل من تقصدون من اللجنة المركزية لحركة فتح ومن على شاكلتهم من اعضاء اللجنة التنفيذية والمكاتب السياسية في الفصائل» فذلك يرضي الله ورسوله ويريحني من شرهم ونكدهم في الدنيا ووزرهم في الآخرة. وفي واقعة ثانية وعند عودته من نيويورك بعد القاء كلمة فلسطين عام 1974 لم يصطحب عرفات معه أياً من قادة المقاومة من خارج اطارات حركة فتح، وأجرى أثناء وجوده هناك اتصالات مع بعض قنوات القرار الأميركية، الأمر الذي أثار حفيظة جميع الفصائل الفلسطينية بلا استثناء، فطلب قادتها عقد اجتماع مع عرفات للاستفسار منه بشأن استبعادهم من وفد نيويورك وعن الاتصالات مع القنوات الأميركية، فرتب لعقد لقاء في مبنى لحركة فتح في بيروت، ثم طلب من بعض كوادر فتح الاختباء على شرفات القاعة. وعندما اتسم النقاش بالسخونة والحدة، أعطى عرفات اشارة منه لكوادر فتح (متفق عليها) وبدأوا باطلاق زخات من الرصاص في الجو، وهنا اعتقد قادة الفصائل بأن المبنى قد تعرض للهجوم من قبل قوة لبنانية أو اسرائيلية، فلاذوا بالفرار.. ابتسم عرفات وقال ان من يحاولون محاسبته ليسوا سوى مجموعة من الثرثارين …