فتحي عبد الفتاح: نحن مستهلكون عظام وليس لنا علاقة بأي إنتاج في العالم

رئيس تحرير مجلة «المحيط الثقافي» يرى أن مصر في حاجة إلى أكثر من 200 مجلة ثقافية

TT

في هذا الحوار يتحدث الدكتور فتحي عبد الفتاح رئيس تحرير مجلة «المحيط الثقافي» المصرية عن الثقافة العربية ببعدها الإسلامي والمتوسطي، وتجربته مع الملاحق الصحافية الثقافية في الستينيات، وكيف «تتعرض إلى الحذف والبتر الآن في ظل تهميش الثقافة والنظر اليها باعتبارها محض سلعة وليست عملا إبداعيا» كما قال، هنا نص الحوار:

* نشأت في عصر كانت الآيديولوجيات فيه هي التي توجه الثقافة، هل انتهى هذا العصر خاصة مع الدعاوى التي تتحدث عن موت هذه الآيديولوجيات؟

ـ ربما نشأت هذه الدعاوى نتيجة لسقوط الاشتراكية، ونتيجة لهيمنة عولمة ثقافية واحدة، لكن هذا ليس صحيحا في النهاية، ولم يثبت حتى الآن. لم تمت الآيديولوجيات ولم تزل تساهم في تكوين الثقافة، فالآيديولوجيا ضرورية لانتاج الإبداع. ولو نظرنا الى بلد مثل إسبانيا سنجد انها تنتج كتبا مثل العالم العربي مرة وثلث، وهو الأمر الذي يطرح قضايا متعلقة بالآيديولوجيا مثل الحرية والديمقراطية. وانا أرى أن الآيديولوجيا المعاصرة ضرورة للأيمان بالإنسان، ومن المهم ان ننطلق من تصور للمرحلة هو ان نكون مؤمنين بإنسانية الإنسان وحريته بلا حدود في الإبداع والخلق وكل ما يؤكد قدراته وما يفتح أمامه المجال للصراع سلميا، وأرى ان هذه هي آيديولوجية العصر، ومن لا يؤمن بهذه الآيديولوجية فقد حكم على نفسه بالتخلف وأرجو ألا يكون العالم العربي كذلك.

* حسنا، كيف أثرت الآيديولوجيا على تكوينك الثقافي والفكري خاصة أنك سجنت بسبب أفكارك؟

ـ بالنسبة لي نشأت في مجتمع ريفي، ورأيت مآسي الريف، كان والدي أزهريا. كان يؤم المسجد ويتلو القرآن وهو ذاهب في الصباح إلى المدرسة، لكنه ينتخب المرشح المسيحي في الانتخابات ضد زميله، لان المسيحي كان مرتبطا بالوفد على عكس الآخر الذي كان مرتبطا بالحزب السعدي. واعتقد ان هذه العوامل أثرت علي، ومنحتني فكرة العدالة، حتى عندما بدأت اقرأ، وأفكر، وجدت أن فكره الاشتراكية بالشكل العام وبمعناها الشامل هي تحقيق المساواة والعدالة بغض النظر عن الجنس والدين. فالأثر الاول علي كان للقرية، ثم لأبي، وللحياة الاجتماعية، ثم بعد ذلك العالم العربي، وقراءاتي وايماني بإنسانية الإنسان.

* لماذا اتجهت للماركسية اذن؟

ـ أنا لا احب كلمة الماركسية، ولم اقل يوما أنني ماركسي، ولست ماركسيا. لان ماركس نفسه قال «أنا لست ماركسيا» وأنما أيماني الأساسي كان بفكرة العدالة الاجتماعية، بحثا عن الحرية وإنسانية الإنسان. وقد أكون وجدت في الأفكار الاشتراكية ما يحقق المساواة والعدالة «كل حسب طاقته، كل حسب قدرته»، بغض النظر عن الجنس والدين واللون. وأنا رأيي ان مشايخ الماركسية لا يختلفون عن المشايخ والقساوسة الجامدين في القرون الوسطى، وهم الذين أجهضوا وحولوا الفكر إلى مجرد أرقام صارمة أدت إلى قتل الفكر.

* أنت حتى الان عضو في اللجنة المركزية لحزب التجمع، أليس كذلك؟

ـ بلى، وأنا أيضا أحد مؤسسي حزب التجمع.

* حسنا ، الا يتضاد هذا مع ما ذكرته؟

ـ أنا ارفض الماركسية لكنني اشتراكي، وأؤمن بالعدالة الاجتماعية وأؤمن بالفكر الاشتراكي بشكل عام، بمعنى التجديد والتطوير، وانا أؤمن في الأساس بإنسانية الإنسان وحريته. ووجدت هذه الفكرة هي الأقرب الى الفكر الاشتراكي بشكل عام، وظللت 5 سنوات في المعتقل من اجل هذا وعندما سافرت إلى دولة إشتراكية، وجدت ان هناك اعتقالات أيضا. اذن فهذا شيء آخر. انا أريد اشتراكية مختلفة اذن، والجوهر الذي دخل قلبي من الاشتراكية هو انها تحرر الإنسان من كل الموبقات التي تشل قدراته الإبداعية وغير الإبداعية وهذه المقولة لماركس رغم انهم حولوه لشخص رهيب جدا، وكلمة الشيوعية، كلمة خاطئة، ولذلك عندما تقرأ ماركس، وانجلز، ستجد ان الشيوعية حلم قد يتحقق بعد قرون طويلة قد تساوي عمر البشرية كلها، لان الشيوعية تعني انه لا يوجد رأسمال وتكون هناك مساواة مطلقة، لا توجد طبقات، الجميع ينتج والكل يأخذ حسب حاجته، وليس حسب ما يملك، والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية حققت بالعدالة الاجتماعية اكثر مما حققته الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية.

* ننتقل إلى نقطة أخرى وفي ظل ما ذكرته هل يجب على الكاتب والمثقف ان يكون معاديا للسلطة وبشكل دائم؟

ـ التناقض بين المبدع والسلطة موجود بشكل عام تاريخيا، لان الحاكم يتصور نفسه هو صاحب القرار والمبدع يرى نفسه هو القادر على الخلق والتوجيه. وهذا التناقض موجود منذ قدم التاريخ، وقهر الإبداع والمبدعين، كان دائما يشكل جزءا أساسيا من تاريخ السلطة. وفي العصر الحديث بدأ ما يسميه البعض بتثقيف السلطة، ولذلك وجدنا بعض المثقفين اصبحوا رؤساء جمهوريات، مثلما حدث في تشيكوسلوفاكيا، وكذلك حرص بعض الحكام ان يكون على علاقة طيبة بالمثقفين. لكن هذا حدث بشكل ما في المجتمعات المتقدمة، ونحن في العالم العربي ما زلنا نعاني من هذا الإرث التاريخي، وليس المثقفين فحسب، بل الوضع بشكل عام، فقضية الديمقراطية والحريات اهم قضايا العالم العربي الآن، وقضية الاحتياج إلى الديمقراطية وتحرير الإنسان من كافة القيود وان ينتج ويبدع، يجب ان تكون هي قضية كل المثقفين العرب، فالمثقفون دائما هم الكتيبة المقاتلة من اجل الحرية، والشريحة المسماة بكتاب السلطة موجودة على مر التاريخ وستوجد ووجودها طبيعي.

* لكن الا ترى ان وجودهم الان زاد بشكل مكثف؟

ـ زاد لانه لا توجد ديمقراطية. كلما اتسعت أرضية الديمقراطية، كلما اتسعت أرضية الإبداع وكلما حوصر كتاب السلطة وضاق عليهم الخناق. ولكن كلما كانت هناك حواجز وقيود كلما نمت هذه الشريحة. وللأسف هم الان يمثلون قطاعا كبيرا، وآمل ان تتغير الظروف في الوقت القريب لانه لم يعد هناك وقت لكي نضيعه. يجب ان نهتز من الداخل أولا حتى نستيقظ.

* يتحدث كثيرون الان عن وجود فساد ثقافي في مصر، كيف ترى أنت الأمر؟

ـ هناك فساد، وهو موجود بالمناسبة في كل العالم، لكن يجب ان نتساءل ما الذي يواجهه؟ الشفافية والديمقراطية وتبادل السلطة لان الوزير عندما يخاف من تداول السلطة وعدم استقراره في كرسيه، فان هذا يزيد من الشفافية والديمقراطية، وبالتالي يحاصر الفساد، ويقلله بدرجة كبيره جدا. عندما نقرأ تقرير منظمة الشفافية الدولية سنجد ان ترتيب الدول العربية ترتيب متدن، لأنها مجتمعات مغلقة، واذا أنفتحت هذه المجتمعات سيكون لديها قدرة اكبر على الابداع وعلى مواجهة الفساد، فالمجتمعات المفتوحة اقل المجتمعات فسادا وأكثرها إنتاجا وإبداعا بدون وجدود تابوهات.

* طرحت في كتابك الأخير «الثقافة والعولمة» فكرة عولمة الثقافة، هل الثقافة العربية في اعتقادك قادرة على مواجهة «العولمة»؟

ـ نحن نملك ثقافة عريقة، وحضارة قديمة، والحضارة العالمية ظلت منذ البداية وحتى الخمسمائة عام الماضية حضارة الشرق الأوسط، فالحضارة المتوسطية حضارة فرعونية، اخذ منها الإغريق واخذ منهم اليونان واليونان اخذ منهم العرب، إذن فهذه المنطقة، منطقة ثقافية قديمة أسهمت في الحضارة الإنسانية وتستطيع ان تسهم بالكثير. إنما المشكلة هي أننا لا نفهم الان ما الذي يجب ان نفعله وما الذي نملكه، وهناك كتاب قديم سنة 1937 لطه حسين اسمه «مستقبل الثقافة في مصر»، ومن الممكن ان تغير عنوانه وتقول «مستقل الثقافة العربية» ولن تشعر بالخطأ فيه فهو يتحدث عن القضية بأكملها، فتناول فيه التليفون والتلغراف وقتها، وقال يجب الا ننعزل وأننا قادرون على المنافسة، واعطينا الثقافة العالمية، ونستطيع ان نعطي اكثر. وأورد طه حسين في كتابه تعبيرا عظيما هو «نحن لسنا من طينة غير طينة الأوروبي ويجب ان نتخلص من الإحساس بالدونية»، فالثقافة العربية اذن ببعدها الإسلامي والمتوسطي قادرة على المنافسة والمواجهة.

* ولماذا نخاف من المواجهة؟

ـ لانه لا توجد ديمقراطية بالتالي لا توجد حرية خلق وإبداع رغم ان الدين الإسلامي اكثر الأديان تفتحا وعقلانية. فالمشكلة ليست مشكلة الدين وليست مشكلة أجناس كما قال النازيون. القضية قضية الحرية والديمقراطية وأهمية تأكيد إنسانية الإنسان وحقه في الإبداع والتفكير والعولمة حقيقة لا نستطيع تجاهلها، وقديما كانت الحكومات تشوشر على الإذاعات المعادية، لكن الان من يستطيع ان يوقف تدفق المعلومات من خلال الإنترنت والدش والأقمار الصناعية، العالم بالفعل اصبح قرية صغيرة. ونستطيع ان نساهم فيها. فيجب الا تكون ضد العولمة بل ضد ان تنعزل وضد الذين يستغلون العولمة على أساس تجاري، وعلى اساس الهيمنة والسيطرة الدولية كما تفعل أميركا، مع ان الثقافة الأميركية ليست كذلك، الثقافة الأميركية من اعظم الثقافات وانا تعلمت منها: هيمنجواي، ميللر، بول روبسن، تنيسي وليامز، شارلي شابلن، أونيل ، شتاينبك، وهؤلاء كلهم وغيرهم هم الذين صنعوا الجوهر الحقيقي للثقافة الأميركية المتقدمة، وهؤلاء ضد جوهر ثقافة السوق وثقافة البوب ميوزيك، البرجر، ومادونا، وهؤلاء هم الذين اتهمتهم لجنة مكارثي بالعداء لأميركا وطردت شارلي شابلن، انا لست ضد عولمة الثقافة، وعندما تأخذ هيمنجواي (أميركي) وتشيكوف (روسي) ومحفوظ (عربي) وسرفانتس (إسبانيا) كل هؤلاء بجنسياتهم المختلفة كانوا يسعون لتعميق إنسانية الإنسان وهذا هو الجوهر الحقيقي للثقافة.

* في اعتقادك ما هو اشد أمراض الثقافة العربية فتكا الآن والذي يحول بينها وبين العولمة؟

ـ غياب الديمقراطية.

* أيضا؟

ـ نعم، لان الآفة الرئيسية هي عدم وجود حرية، والتابوهات التي تحيط بنا، وكلما كتب أحد شيئا يهب من يقول هناك ظروف اجتماعية، وهل ظروفنا الاجتماعية تريدني ان أكون متخلفا؟ يقولون لنا لا تتكلموا مثل أوروبا، كيف ونحن سنة 1897 كان عندنا برلمان في وقت كان هناك 4 برلمانات في العالم فقط. إذن القضية قضية ديمقراطية ونحن أول بلد قدم ملكات رغم انهم يتحدثون الآن عن اضطهاد المرأة العربية، والرسول قال خذوا نصف دينكم من الحميراء وهي السيدة عائشة، والأمر ليس بعيدا عن القوى الاستعمارية التي تنمي القوى الفكرية المتطرفة وهو ما يخلق رأي عام متخلف، لان الولد الذي اعتدى على نجيب محفوظ لم يكن قد قرأ شيئا له، وهذا الفيروس نماه الاستعمار حتى يبقينا على التخلف، لان جوهر الاستعمار هو الاستهلاك، ونحن لا نفعل شيئا الآن غير الاستهلاك نحن مستهلكون عظام وليس لنا علاقة بأي إنتاج في العالم، ما أخشاه، ان استمر هذا التخلف ان نتحول إلى حقل تجارب الى أناس من الدرجة الثالثة، وقد يكون هذا قد حدث على مستوى الحروب حيث تجرب فينا الأسلحة الجديدة.

* بعد إغلاق مجلات «إبداع» و«المسرح» و«القصة» كيف ترى واقع المجلات الثقافية في مصر؟

ـ مصر في حاجة الى اكثر من 200 مجلة ثقافية، ربما تكون القراءة محدودة وربما يكون هناك تخلف ثقافي، وتراجع على مستوى القراءة، لكن هذا لا يمنع من وجود المجلات الجادة، وإذا نظرت إلى ما يقرأه الناس الان ستجد انها كتب الخرافات والشعوذة، والجن والعفاريت، لكن يجب قبل ان نطالب بإعادة المجلات، بأن نرفع التابوهات أيضا، ولا اقصد بالتابوهات هنا اباحة مجلات البورنو، بل بالسماح بنشر الفن الجاد دون التضييق عليه، والجماعات الثقافية الأوروبية في العصور الوسطى عانت، لذلك تخلصوا الان من سلطة الكنيسة المطلقة والمؤسسة السلطوية، وللأسف نحن كنا اكثر تحررا مما نحن عليه الآن يجب ان نقاوم الفكرة بالفكرة، لا نمنع الصحافة الصفراء، ولكن نطلق في مقابلها صحافة جادة، ولنر من سينتصر، لقد وصل الأمر الان ان رواية «بنت من شبرا» لفتحي غانم التي صدرت منذ عشرين عاما يمنع التلفزيون أذاعتها الآن ويطلب إحالتها للكنيسة لاجازتها، هل نحن نسير إلى الوراء أم إلى الأمام بهذه الصورة، مصر في حاجة لاكثر من 200 مجلة ثقافية لكن يجب ان تتيح الحرية أولا لإصدار هذه المجلات.

* كنت من مؤسسي ملحق المساء الأدبي الشهير في الستينيات، ومازلت مشرفا على صفحة الثقافة في جريدة «الجمهورية»، لماذا تراجع دور هذه الصفحات الان في اعتقادك؟ ولماذا لا تقوم بتفريخ أجيال جديدة من الكتاب؟

ـ اعتقد ان «الجمهورية» لها تراث ثقافي حقيقي، وأول ملحق ثقافي في مصر كله قدمه فيها طه حسين. وكان فيه أيضاً لويس عوض ومحمد مندور والشرقاوي، وايضا «المساء» كان ملحقها سببا في ظهور جيل الستينيات بأكمله، من جمال الغيطاني إلى اصلان إلى خيري شلبي وغيرهم. ونحن الآن نستعد لإصدار ملحق ثقافي جديد من 16 صفحة بـ«الجمهورية» لكن اعتقد عموما ان الصحافة الثقافية بالجرائد مظلومة لأنها معرضه للحذف، والتأجيل دائما، ولو بسبب إعلان، أو حادث يحتاج الى تغطية موسعة وهذا موجود في كل الجرائد، وهو شيء مؤسف لان الثقافة ليست مجرد قصص وشعر بل هي عماد الحياة وتلعب دورا رئيسيا في صياغة المجتمع.