رحيل «النوبلي» الأميركي سول بيلو مؤرخ مجتمع مدينة ما بعد الحرب العالمية الثانية

TT

الكاتب الأميركي سول بيلو، الذي رحل يوم الثلاثاء الماضي عن 89، والمتحدر من عائلة روسية يهودية، ترك بصماته على الرواية الأميركية في النصف الثاني من القرن العشرين. وكان يحلو لبيلو، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، القول دائماً بأنه مؤرخ للمجتمع. وقال ذات مرة «لا استطيع تجاوز ما رأيته وبمعنى آخر أنا ملتزم مثل المؤرخ الذي قيد نفسه بالكتابة عن الوضع الذي عاشه». وشكلت مدينة شيكاغو مسرحا لمعظم أحداث رواياته حتى وصفته ميكاكو كاكوتاني الناقدة الأدبية في صحيفة (النيويورك تايمز) بشاعر المجتمع المديني. وكان عمره تسع سنوات حين انتقلت عائلته من كندا إلى مدينة شيكاغو التي نشأ وقضى معظم حياته فيها، وبالمقابل جعل منها المدينة الأولى في الأدب الأميركي. لقد أصبحت شيكاغو بالنسبة له مثل لندن بالنسبة إلى ديكنز أو دبلن بالنسبة إلى جيمس جويس أو القاهرة في حالة نجيب محفوظ. وقدم سول بيلو أبطالا حالمين وباحثين ومثقفين يعيشون في مجتمع مدينة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو مجتمع فاحش الغلاء السيطرة فيه لرجال الأعمال ووكلاء مصانع السيارات وللمضاربين في سوق المال. كتب عن عصر ما بعد الحرب عصر المادية وانتعاش الرأسمالية في شيكاغو مدينة أعلى ناطحات سحاب في أميركا. وكتب في روايته «هيرزوغ» عن صراع الكائن في أن يكون إنسانا في المدينة وفي القرن الأخير في مرحلة التحولات العلمية، وكيف يمكن أن يحقق إنسانيته في مكان يكون فيه موضوعا لسيطرة هائلة وتحت ظروف عصر المكننة. في بداية الخمسيانات من القرن الماضي شق سول بيلو طريقه كروائي بعد نشر رواياته» مغامرات «أوجي مارش» و«هندرسون ملك المطر» و «هيرزوغ» التي رسم فيها شخصياته بطريقة تقليدية، لكنها تميزت الشخصيات بذواتها المتفوقة وبأطروحاتها وأفكارها الكبيرة. ووصف بيلو بطل روايته «هندرسون ملك المطر» بالشخصية الدونكيخوتية، فيجوين هندرسوون بطل الرواية هو عازف بيانو ومربي خنازير يبحث عبثا عن الحقيقة الكبرى وعن الهدف الأخلاقي للحياة. وتبدو شخصياته قريبة جدا من حياته وقد قال مرة «إن الرواية هي أعلى شكل للسيرة الذاتية». ولكن من الصعوبة أن تجد سول بيلو كاملا في رواياته وهو يبدو كما قال مرة أندريه جيد عن ديستوفسكي «إنه من الممكن أن تجد شيئا ما منه في كل قصصه ولكن من الصعوبة الإدعاء التعرف على كامل شخصيته في قصة واحدة».

ولد الكاتب في تموز/ يوليو عام 1915 في حي فقير للمهاجرين في ضاحية من ضواحي مدينة مونتريال الكندية وقد هاجرت أسرته اليهودية من روسيا قبل سنتين من ولادته، وكان والده سلومون بيلو يعمل تاجرا للبصل المصري. وكانت والدته متدينة جدا ولم يوفق الوالد في تجارته فقررت العائلة النزوح إلى أميركا واستقرت في مدينة شيكاغو حين كان عمر الكاتب تسع سنوات. وبدأت محاولاته في الكتابة بوقت مبكر ولم يوافق والده على على ذلك. وقال له مرة ساخرا «انت تكتب ومن ثم تشطب». وعندما بلغ العشرين من عمره سأله والده «هل تعتبر الكتابة وظيفة؟». لكنه وجد تشجيعا من والدته التي توفيت وهو في عمر 17 عاما وفي عام 1933 التحق بجامعة شيكاغو. وبعد سنتين انتقل إلى شمال غربي أميركا لأن الجامعة هناك أرخص وفي عام 1937 حصل على شهادة بالأنثربولوجي وبعلم الاجتماع وشكل هذان الاختصاصان الأساس لأعماله الروائية وقال «كل مرة أعمل على أطروحتي تستحيل إلى قصة».

وقبل أن ينهي دراسة الماجستير ترك جامعة وسكانسن وعاد إلى شيكاغو. وفي نهاية الثلاثينات، انتقل إلى مدينة نيويورك وحاول كتابة الرواية والقصة ولكن من دون أي نجاح، وبدأ في كتابة عروض للكتب. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية رفض دخول الجيش بسبب إصابته بالفتق ومن ثم التحق بمشاة البحرية وأثناء فترة تدريبه قصفت هيروشيما بالقنبلة الذرية. أثناء الخدمة العسكرية كتب روايته الأولى «رجل متدله»، وعندما بلغ الثلاثين من عمره كتب روايته الثانية «الضحية» حول معاداة السامية. وقد كتبها تحت تأثير الكاتب الروسي ديستوفسكي. ولم تسجل كلا الروايتين أي حضور أدبي بسبب ضعف البناء الروائي وتأثرهما المفرط بأسلوب الرواية الأوروبية. وفي نهاية أربعينات القرن الماضي، حصل على منحة دراسية في باريس وبعد فترة طويلة من التسكع والتفكير في مستقبله كتب روايته الثالثة «مغامرات أوجي مارش». التي استوحي شخصيتها من صديق الطفولة جوكي. وعندما نشرها عام 1953، دخلت في قائمة أحسن المبيعات، ووصفه النقاد بالصوت الجديد في الرواية الأميركية نظرا لأسلوب الكاتب المتدفق الذي يشبه موسيقى الجاز ولغتها المزيجة من اليديش والإنجليزية، والقريبة من لغة الشاعر والت ويتمان. وفي روايته الرابعة «هندرسون ملك المطر» شعر بأنه قد سيطر أدواته الإبداعية وتبعها عام 1964 بروايته الخامسة «هيرزوغ». وقد حصلت الرواية على جائزة الكتاب الوطني. وبعد ذلك كتب مسرحية «المحلل الأخير» التي لاقت فشلا ذريعا عند عرضها في برادوي كما هو الحال مع بضع مسرحيات أخرى كتبها فيما بعد. وفي عام 1969 كتب روايته «كوكب السيد ساملر» وهي عن رجل ينجو من المحرقة النازية ويعيش في نيويورك يجتر تاريخه وماضيه. وحصل بيلو على جائزة الكتاب الوطني للمرة الثانية عندما نشر روايته «هدية هامبولت» والتي كانت واحدة من أنجح رواياته وقد حصل في عام 1975 على جائزة البوليتزر. ومهدت هذه الرواية الطريق للحصول على جائزة نوبل للآداب وقد وصفتها الأكاديمية السويدية قائلة بأنها «تفيض بالأفكار وتومض بالسخرية وهي كوميديا مرحة وتتقد بالرحمة». وبعد نوبل كتب رواية قصيرة ومجموعة قصص قصيرة، ثم كتب رواية طويلة استوحاها من حياة صديقه البروفسور آلن بلوم صاحب كتاب «انغلاق العقل الأميركي». الذي مات بمرض نقص المناعة المكتسبة / الأيدز. وأطلق على الرواية اسم «رافيلشتاين». وقد صفها حينها الكاتب جونثان ويلسون في «نيويورك تايمز بوك ريفيو» بالرواية العظيمة التي تتحدث عن صداقة الرجل الأميركي. تلاحظ الناقدة الأميركية ميكاكو كاكوتاني بأن أدب سول بيلو ظل مدينا لدراسته الأولى للكتاب المقدس ولقراءته لمسرحيات شكسبير ولكبار كتاب روسيا من القرن التاسع عشر. وتقول «إن أعمال بيلو القوية تستمد تقاليدها من الوجودية الأوروبية ومن الأخلاقيين الروس ومن الدماء الأميركية الحمراء أمثال ميلفل ودريزاير من أجل خلق عالمه الروائي المتميز».