الفساد في لبنان واقتراحات لإخراج البلد من بؤرته

تكلفته الشهرية في القطاع الصحي الأغلى في العالم بعد أميركا

TT

هناك مثل فرنسي قديم يقول «ان سرقة الدولة ليست سرقة»، ورغم ان هذه المقولة أصبحت كاسدة في تلك البلاد، إلا انها ما تزال رائجة في بلد مثل لبنان. وإذا كانت التغيرات السياسية الحالية على الساحة اللبنانية تبدو واعدة للكثيرين للانقلاب على اختلالات عمرها بعمر الدولة، فإن الأقلام بدأت تشحذ أسنتها لتسجل الاقتراحات والرؤى والتصورات للبنان جديد يتغلب على محنة المحسوبيات وتسلط القوي على الضعيف، بانتهاك القوانين واللعب على كل حبالها.

ويأتي الكتاب الصغير الذي أصدره عن «دار النهار» باسكال كلود مونان، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة القديس يوسف، تحت عنوان «أفكار من أجل لبنان، المحاسبة باب الحرية» في إطار المحاولات المتعددة، التي تولد حاليا، للمساهمة في بناء جمهورية العدالة والمساواة والحقوق.

وهذا الكتاب بحجمه وصيغته ليس سوى محاولة توصيف لاهتراءات الوضع السابق والمستمر، واقتراحات عملية لجعل الآتي شيئاً مختلفاً تماماً.

فقراء الصحف باتوا يتسلون يومياً بأخبار الفضائح والصفقات، وملفات الفساد التي تفتح وتغلق من دون ان يعرف المواطن سبباً لذلك. وهنا يتساءل الكاتب، كما يفعل كل المواطنين الذين يعانون محنة الظلام في مطلع القرن الحادي والعشرين: كيف يمكن ان تكون كلفة قطاع الكهرباء في لبنان 10 مليارات دولار من أصل الدين العام، في حين ان كلفة إعادة الحياة إلى هذا القطاع في العراق ـ الذي تبلغ مساحته 40 مرة مساحة لبنان ـ لا تتجاوز الملياري دولار أميركي؟

ويستشهد مونان ببعض الفضائح التي عرتها الصحف، بحيث تبين ان الكلفة الشهرية للفساد في القطاعات الاجتماعية تبلغ نصف مليار دولار، وفي القطاع الصحي مثلاً تتخطى الفاتورة الملياري دولار سنوياُ، أي ما يعادل 12% من الناتج المحلي، وهي الأغلى في العالم بعد الولايات المتحدة، بينما يقف لبنان في المرتبة الـ 96 عالمياً من حيث جودة الخدمات الصحية.

لقد أدمن بعض السياسيين اللبنانيين «أكل الجبنة»، وتقاسم الحصص، ويروى ان الرئيس الراحل فؤاد شهاب قال لأحد مقربيه قبيل وفاته: «إن الزعماء السياسسيين مستمرون في اعتبار الدولة «بقرة حلوباً» ولا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية أو الطائفية او الإقليمية، ولا يشعرون بأن الأرض تتحرك من تحتهم. إنهم سيستيقظون يوماً ليروا الثورة في كل مكان».

وما هو مؤسف ان هذه الثورة الموعودة لم تحدث بعد، رغم مرور عقود على تلك النبوءة المؤجلة، وقد تبين ان النظام اللبناني عرف كيف يحمي نفسه من المحاسبة والمساءلة، وقد وجدت الأجيال اللاحقة للرئيس شهاب ان ليس من المعقول جعل القوانين والأنظمة فوق سلطة الوزير، او ان تكون لأجهزة الرقابة الكلمة الفصل «فنزعت فتائل هذه الأجهزة وصواعقها، وصرفت الأنظمة والمراسيم من الخدمة إلى التقاعد» في أحيان كثيرة. وبالنتيجة فإن محاكمات المسؤولين بقيت من الشحّ بحيث يصعب اعتبارها متناسبة في أي حال، مع عدد الملفات الفضائحية المثارة. ولهذا فإن باسكال كلود مونان في الحيز المخصص للاقتراحات والبحث عن الحلول في كتابه، يركز بشكل أساسي على أهمية وضع قانون انتخابي عادل يفرز طبقة سياسية تمثّل الناس، وهو يقترح لذلك الدوائر الصغرى أو الوسطى مع تمثيل أكثري، وضرورة تحاشي ان تكون هذه الدوائر مصطنعة بهدف تذويب أصوات الناخبين وتزييف إراداتهم. ويرى ان تطبيق النسبية كما هو مقترح الآن، مطلوب لضمان أوسع رقعة في التمثيل الصحيح. «لكن التركيبة الطائفية وعدم انتشار الأحزاب غير الطائفية يجعلان فرصة ولادة هذا الحل المنشود في غاية التعقيد، مع التأكيد ان مثل هذا الحل يفترض ولادة قيصرية يخشى ان تؤدي إلى ولادة مخلوق عجيب. من هنا فإن ورشة هذا الحل ينبغي ان تكون بنداً أول على جدول أعمال مجلس النواب الجديد».

باسكال كلود مونان، يعتقد ان ثمة عملاً شمولياً إصلاحيا لا بد ان يطال الكثير من المؤسسات ومنها المجلس الدستوري الذي ينبغي تجديد الدم الذي يسري في عروقه، وإعادة النظر في دوره بحيث يصبح بمقدوره النظر في دستورية القوانين من تلقاء نفسه، ومن دون انتظار تقديم الاعتراضات امامه، كما من الضروري إعادة النظر في دور المجلس الوطني للإعلام ليكون حاكماً لا محكوماً، ومستقلاً لا ينتخب أعضاؤه سوى مرة واحدة، مما يحررهم من أي حسابات جانبية قد تحكم آراءهم. ولا بد أيضاً من تعزيز دور البلديات والهيئات المدنية. وقبل كل ذلك لا بد من تأمين حيادية القضاء الذي بات متهماً دولياً بدل ان يكون حكماً بين الناس. وثمة قانون حول الإثراء غير المشروع صدر عام 1999، ولم يعمل به إلا في الحدود الدنيا، ولا بد من تفعيله لمحاسبة السرقة والساطين على المال العام.

ويلفت الكاتب إلى نقطة شديدة الأهمية نادراً ما أثيرت قبل تشكيل الحكومة الجديدة التي أبصرت النور من أيام، وهي عملية فصل النيابة عن الوزارة، إذ أن الخلط بين منصبين، جعل المجالس النيابية غير قادرة على حجب الثقة عن أي من الحكومات المتعاقبة. ففصل النيابة عن الوزارة قاعدة اساسية لقيام نظام برلماني، وبدونه لا إمكانية لقيام رقابة متبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

مونان لا يسهب في الشرح، لكنه يلقي حجراً في مياه راكدة، خاصة ان الحجارة من هذا النوع باتت تتزايد، وكل يحاول أن يدلي بدلوه. يبقى أنها ليست المرة الأولى التي يخضع فيها النظام اللبناني الفاسد والمفسد للتشريح والاعتراض الكبير من جهة المواطنين كما الأكاديميين، إلا ان السؤال هو: أما حان الوقت بعد، للانتقال من طور الكلام إلى حيز الفعل؟

أفكار من أجل لبنان، المحاسبة باب الحرية المؤلف: باسكال كلود مونان الناشر: «دار النهار»