حداثة واقفة وحداثة جالسة

«متحضّرون على ما يقال» لعالم الاجتماع الفرنسي جورج بلانديي

TT

جورج بلانديي هو أحد كبار المفكّرين الاجتماعيين الفرنسيين، الذين اختصوا برؤية عميقة حول قضايا التخلّف والتنمية والعالم الثالث. وقد أصدر المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بتونس ترجمة لكتابه «متحضرون على ما يقال»، الذي نشر بالفرنسية عام 2003، أنجزها الباحث عبد الرزاق الحليوي.

يستعرض عالم الاجتماع في هذا الكتاب جملة من الأبحاث والدراسات، التي توجت حياة كاملة خصصت للعلاقات بين البلدان المصنّعة والبلدان الأخرى.

يتساءل بلانديي: هل غدا مفهوم الوضع الاستعماري وهو أداة فكريّة، إلى جانب التنظير المنبثق منه، مفهوما لاغيا ومهجورا بسبب زوال المستعمرات التي أنشأتها الامبريالية في القرن التاسع عشر؟

للإجابة عن هذا السؤال، ينطلق من الملاحظة بأنّ «ما بعد الاستعمار» ليس إزالة للاستعمار، بل إزالة لأبرز أشكاله فحسب. فهو يحافظ على فضاءات شاسعة للتأثير والهيمنة غير المباشرة، مستعملا روابط التضامن الناتجة عن عهد المستعمرات، وإن تغيّرت أطرافها وطبيعتها. فهي ضروب من التضامن الاقتصاديّ والسياسيّ والدينيّ والثقافيّ، الذي يربط ـ في كنف مصالح مشتركة ـ بين أقليّات مهيمنة من الدولة المستعمرة سابقا وبين الأقليّات المهيمنة، التي ظهرت مع الاستقلالات. وهكذا أصبحت الآن اللفظة المستحدثة «فرنسافريك» (Françafrique) أقصى تعبير انتقاديّ عن هذه الحقيقة الملاحظة. وبرزت صيغة أخرى من العلاقات الموصولة وهي التي توجّه إلى البلدان المستعمرة سابقا سيولا متدفّقة من المهاجرين أصيلي المستعمرات القديمة. فإذا بالتعدّدية الاجتماعيّة والثقافيّة، بعد أن كانت في الخارج، في المستعمرات، نتاجا للغزو ولتركيز عاملي الاستعمار الفاعلين، أصبحت تتكوّن وتنتشر في داخل الدول الإمبرياليّة سابقا. إن هذه التعدّدية تستبطن ما تبقّى من العلاقة الاستعماريّة في إشكال أخرى، كما لو ما زالت هذه العلاقة تحتلّ النفوس والضمائر، ولكن بالإبانة عن طريق لغات أخرى وحركيّات ثقافيّة أخرى.

وفي خصوص البلدان ذات وضع ما بعد استعماري، يرى جورج بلانديي أنّه يجب أن يصرف الانتباه إلى ما هو مصلحة مصانة، وإلى ما يكشف عن مفعول تأخيري للوضع القديم. وتتشكّل الحركيّات الحاليّة في شكل أربعة مجالات أساسيّة: الدولة الحديثة، وهي الشكل المغرّب للسلطة ورهان المواجهات والاضطهادات العنيفة، الاقتصاد، خاصّة باعتبار شكله الماليّ المولّد لمجابهات داخليّة وأحلاف خارجيّة، التكنولوجيا التي تحدث تبعيّة جديدة وضروبا من اللامساواة المستحدثة، والتي تفرض بقوّة متزايدة حتميتها الخاصّة. ومن جهة أخرى فإنّ البلدان المهمينة اليوم والتي توجد بينهما القوى العظمى الاستعماريّة سابقا، فإنّها، حسب التحليل السوسيولوجي لجورج بلانديي، تسعى إلى التحقّق من جدوى مفهوم الوضع الاستعماري من منظورين أساسيين هما: فمن جهة، عوّض زوال الأقاليم وحدود الهيمنة الاستعماريّة القديمة لبلاد على بلاد، بسيطرة برزت في شكل قوّة ـ ماليّة وتقنيّة ـ وتحكّم في الشبكات. ومن جهة أخرى، جعلت القدرات التكنولوجيّة الجديدة من كلّ المجالات التي تؤثّر فيها ـ ميدان الكائن الحيّ والدراسات الهندسيّة المشتركة والإعلام والآلات الأوتوماتكية والاتّصال والشبكات والافتراضي والمخيال التقني ـ «عوالم جديدة»، حيث تتركّز شبه مستعمرات «من الداخل». وفي كلتا الحالتين يحافظ مفهوم الوضع الاستعماري على قوّة تأويليّة ونقديّة، وليس مجرّد نتاج لظروف تابعة حاليّا للحاضر وأداة فكريّة سيطويها النسيان.

معنى الحداثة في الجزء الثاني من كتاب «متحضّرون على ما يقال»، يتعمّق بلانديي في مفهوم الحداثة وأشكالها ومضامينها المختلفة. فالحداثة عند بلانديي هي قبل كلّ شيء قطيعة أو تصدّع في المجتمعات والحضارات التي يضعف فيها التقليد. وهي التحرّك البطيء الذي يغدو فيما بعد غازيا فاتحا. وطيلة قرون متتالية، في أوروبا، وخلال معارك دارت بين القدماء والمحدثين، بدأت الحداثة تعمل انطلاقا من الفترة التي تفتح فيها العالم على الاكتشافات، وأخذت فيها الأفكار تذيع ويضاعف المطبوع ذيوعها ولم تعد فيها المعرفة خاضعة تماما للعلوم اللاهوتيّة. وولدت فيها إنسيّة تؤكّد أنّها في طور «نهضة». ثمّ أضاءت فلسفة الأنوار سبل العقلانيّة المنتشرة وتطوّر العلوم وتطبيقاتها وتصاعد الدّول التي بدأت تنزع نزعة بيروقراطيّة وتكاثر المصانع وظهور طبقات اللاّمساواة الجديدة.

ولكن ماذا يقصد جورج بلانديي بـ«زمن الحداثة الواقفة»؟

يقول الباحث: إنّها صاحبة المبادرات الجريئة وحليفة الإيمان في التقدّم، الموقّرة من قبل البورجوازيّات الغازية. لقد كانت تعبّر تعبيرا أيديولوجيا وثقافيا ووجوديّا عن قناعات البرجوازي التحرّري وجسارته. وفي الواقع، اندرج كلّ من المبدع الحداثيّ والسياسيّ التقدّمي ورجل الأعمال المجدّد ثمّ المتبنّي لآراء «سان سيمون»، اندرجوا كلهم في نفس التشكيلة التي كانت تنادي بتحرير الفرد: فبوصفه مبدعا ومولّدا للقطيعات والتغييرات والاختراعات، كان الفرد يعتبر نفسه قادرا على إحداث عهود ذهبيّة أو أيّام انتصارات: قادمة. ولم تأت بعد، في ذلك الوقت، الفترة التي ستعلن عن زوال سحر العالم.

ويعتقد جورج بلانديي أنّ الحداثة قد مثّلت بالنسبة إلى المجتمعات المحظوظة انطلاقة في الإنتاج والاستهلاك إلى أن حدثت الأزمة الحاليّة بمفعول «الصدمة البترولية». لكنّ الفكرة التي كانت تقود الناس ظلّت: «إنّي أستهلك، إذن أنا موجود». وهو إلزام مطلق، خاصّة أنّ المصنوعات لم تصنع لتدوم وأنّ الموضات والإشهارات كان المصنوعات لم تصنع لتدوم وأنّ الموضات والإشهارات كان الغرض منها تنشيط السوق باستمرار بتكييف الحاجات والرغبات تكييفا تزايدت نجاعته. وأضحى مستوى المكانة الاجتماعيّة ونوعيّة الحياة الفرديّة رهينين بصلوحيّة بطاقات وسندات الاعتماد البنكيّ، كما أضحى العمل لا يهمّ في حدّ ذاته، بل فيما يوفّره أو لا يوفّره من إمكانيّات. وبهذه الأشكال، تعتبر الحداثة مفعّلة للرخاء، إذ تدفع إلى البحث عن أفضل مكان بين القادرين على الجلوس حول مائدة الاستهلاك الكبرى.

ويضيف بلانديي بأنّ الحداثة شيء آخر أيضا، إنّها امتداد وتوسّع. هي تفتّح على الخارج والأحداث والمجتمعات الأجنبيّة ـ حتى أبعدها ـ وعلى مشاكلها، بواسطة شبكات الاتّصال والوسائط بأنواعها. فليس ما بدأ هو زمن العالم المحدود، بل زمن العالم المضيّق. ولقد أصبح المحدثون حاليّا يستهلكون يوميّا جميع الأحداث والصور الآتيّة من الخارج، يتخذونها غذاء مشبوها: للسلبية المستسلمة (تجنّب الأسوأ)، ولسوء التفاهم أو عدم التفاهم (الفصل أو الإقصاء) ولأحلام الفرار (السفر) وللاختيار الشخصي (الالتحاق أو المشاركة أو المحاكاة) كما يتّخذونها لاستعمالات أخرى. ومن هذه الناحية، تضايق الحداثة المعاصرة وتصدم. ويختم جورج بلانديي مقاربته المطولة والعميقة لمفهوم الحداثة بوصفها بأنّها ملتبسة وعرضة حاليا للشكوك وهي «مشققة» تترك المجال لأصناف من التجريب تناوئها. لكنّها تتضمّن وسائل تأمينيّة يتّصل بعضها بطبيعتها ذاتها. وإذ أصبحت ايديولوجيّة للتغيير من أجل التغيير، فقد منحته قيمة إيجابيّة في الجملة، مهما كان محتواه ومداه وواقعه. ويمكنها أيضا أن تمثّل شبح ثورة. وهي حليفة مجتمعات العصر التقنّي الإلكتروني، وتساهم في تغذية وهم التحكّم العقلاني الكبير والقدرة على تحقيق التصوّرات الجيّدة للمستقبل، رغم تفاقم المشاكل وضرورة حلّها بسرعة. والحداثة تفرز أشكالا من التفكير تتعارض قطعيّا مع تقلبّات العالم الحاليّ ومظاهره العابرة ومع ثبات الهياكل والنظم. وهي إذ تحاول طمأنتنا، تحرّضنا على منح الثقة للغير وتفضيل الأمن على المخاطرة، وتصبح بالنسبة إلى عدد متزايد من الناس «حداثة جالسة».