رحلتي بحث عن قصيدة تشبهنا

TT

كتبت النص الشعري الاول في سن الثالثة عشرة، واذكر انه كان نصا زجليا بالعامية المغربية، وقد لعب بعض أساتذتي في المرحلة الثانوية، دورا تحفيزيا اساسيا في تأطير خطواتي الاولى واحتضان دهشة الكتابة التي كانت تغمرني آنذاك. وبدون شك، فان القراءة والتكوين الذاتي لعبا ايضا دورا مسعفا على تعميق وعيي بالكتابة وشروط العملية الادبية والجمالية.

من الواضح جدا، ان الكتابات الاولى، هي عملية تأسيس، مع ما كان يميزها من نقصان وجوانب تعتبر واضحة، بل ان مجموعتي الشعرية الاولى «لك الامارة ايتها الخزامى» (الدار البيضاء 1982)، كانت سيئة الحظ، وخضعت لخيارات ايديولوجية وسياسية اكثر مما تميزت بروح الشعر. وأظن ان الامر كان يتعلق بوعي شعري خاطئ، ذلك ان السياسة كلما دخلت افقا افسدته، خصوصا عندما يتعلق الامر بالأفق الابداعي والجمالي. بالطبع، ان الانتساب السياسي هو عمل نبيل ويعبر عن روح مدنية وعن مواطنة كاملة. لكن الشعر لا يحتمل ان يكون خادما لدى اي أفق آخر غير أفق الشعر. بهذا المعنى، اعتبرت ان مجموعتي الشعرية الرابعة «حياة صغيرة» التي صدرت عام 1995 عن (دار توبقال) بمثابة مجموعتي الشعرية الاولى. بمعنى آخر، كان علي ان انتظر سنوات من التعلم والتواضع وروح التلمذة والانصات لسيرورة الشعر والكتابة الادبية لكي اتعلم كيف اكتب نصا شعريا جميلا ولكي يصبح لي عمل شعري اعتز به ويحظى باحترام القراء والنقاد. ان الشعر بالنسبة الي هو تمرين روحي، وبحث في اللغة وتمثل للتجربة الانسانية بتفاصيلها اليومية، في علائقها بالذات باللغة، بالآخرين. كتابة القصيدة بقدر ما فيها من روح فطرية وتلقائية بقدر ما تحتاج الى معرفة والى خبرة في الكتابة وفي الحياة، لذلك، يمكن ان نلاحظ أن الشعر الجميل اضحى قليلا اليوم في المغرب، في العالم العربي وفي العالم. وربما لذلك ايضا اصبحت كثير من النصوص الشعرية تتشابه وتستنسخ بعضها بعضا، لأن الكتابة السائدة اصبحت تستسهل عملية الانتاج والابداع، في حين، وعلى مستوى آخر يمكننا ان نلاحظ أن كبار شعراء العالم اصبحوا يستصعبون الكتابة ويقدرون خطورتها ويعترفون بثقل المسؤولية الجمالية والادبية والاخلاقية للكتابة. اذا انصتنا لما يقوله شعراء عرب كبار من امثال ادونيس، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، ومحمد بنيس، على سبيل المثال لا الحصر، ندرك الى اي حد اصبح البحث عن كلمة جديدة يتطلب استعمال القواميس، والى اي حد يتطلب بناء علاقة بين كلمة وكلمة اخرى، كثيرا من الحرص والتدبير الجمالي والفني، خصوصا عندما يتعلق الامر بأسماء مرجعية يقرأها الجميع وينتظرها الجميع في كل المنعطفات والمراحل الادبية. لا أريد ان اضع نفسي في مصاف هذه الاسماء الوازنة، فلست سوى تلميذ كبر على ذراعي القصيدة العربية، ولكنني في نفس الآن، استشعر نفس الاحساس بمسؤولية الكتابة، وأدرك الى اي حد اصبحنا في حاجة الى مثل هذا التقدير لمسؤولية الكتابة. لقد قضيت من الوقت ما يكفي لكي اتعلم كيف اكتب وبالخصوص ان اكتب نصا جميلا. ومعنى ذلك، ان النص الجميل لا يمكن ان يأتي بين عشية وضحاها، معناه ايضا، ان الكتابة السائبة السهلة لا يمكن ان تنتج نصا جميلا، الكتابة التي تنجز على حافة الطاولة والمكاتب والمناضد لا يمكن ان تنتج نصا جميلا كما الكتابة في المقهى او في القطار او في الطائرة او في الممرات العابرة. صحيح، يمكن ان نكتب نصوصنا الشعرية جسديا ونحن في الفراش، ونحن نحلم، ونحن نتمشى في غابة او على شاطئ، او في طريق خاوية او حتى في ازدحام المناكب، وزحمة الناس في الحواري والأزقة الضيقة، لكن ذلك لا يعني ان النص الشعري يصبح جاهزا وإنما هو مجرد عمل اولي يبدأ بجمع اطراف فكرة او صورة داخل الروح. لكن العملية الابداعية تتطلب وقتا وجهدا وراحة بال ومزاجا رائقا. الكتابة تتطلب ايضا اعتماد المرجعيات والإنصات لتجارب وأصوات الجغرافية الشعرية في العالم. لا يمكن ان ننجز عملا شعريا ناضجا في حركة الشعر المغربي المعاصر من دون ان ننفتح على المنجز الشعري الكوني. ولن ابالغ ودونما ادنى مجازفة يمكنني ان ازعم بان الشعرية المغربية لم تعد في حاجة للاستناد الى المنجز الشعري العربي.

نعم، ينبغي ان نقرأ الشعر العربي وان نواكبه وان ننصت اليه، لكن، اصبح من غير المقبول ان نستنسخه كما يفعل بعض الزملاء وبعض الزميلات، علينا ان نبحث عن الشعر الجيد والجميل في ينابيع اخرى. وأظن ان كثيرا من الشعر يكمن في تجربتنا التاريخية، في تراثنا الشفوي، في الخبرة الانسانية العميقة للمغرب العميق، الشعر ما زال كامنا في الخرافات والأساطير الشعبية المغربية، في تجربة الانسان العادي، في مكونات الفضاء المعماري والعمراني المغربي في المنظر الطبيعي المغربي..الخ. وكل ذلك لم نستثمره كما ينبغي لكي ننتج نصا شعريا يشبهنا ويعبر عن روح وعمق وضوء هذا المغرب.

* شاعر ورئيس سابق لاتحاد كتاب المغرب ذكريات طبيبة عراقية