دعوة لإعادة التوازن بين قيم الشرق والغرب

تغيرات مفهوم الحضارة شرقاً وغرباً

TT

بالرغم من أن كتاب (في أصول المسألة الحضارية) للكاتب المصري د. أنور عبد الملك، الصادر مؤخراً عن مؤسسة دار الهلال المصرية، مجملة هو تجميع لعدة مقالات نشرت للكاتب على مدار عام كامل بجريدة الأهرام القاهرية، إلا أن أسلوب تتبع الأحداث وتحليل منطلقاتها عبر رؤية فكرية محددة المعالم جعل من الكتاب وحدة بحثية ذات تسعى للوقوف على ماهية الإشكاليات الدولية الراهنة.

ويشير المؤلف بداية إلى أن البحث عن بداية إدراك المسألة الحضارية في الفكر الإنساني تقود حتما إلى الدراسات الغربية التي كانت ترى في الحضارة الغربية المرادف الوحيد لمفهوم الحضارة عبر تاريخها الممتد من الإغريقية والرومانية وحتى عصرنا الحالي، إلا أن التحول ولو جزئيا مع بداية عصر الاكتشافات البحرية الكبرى وتحرك قوافل الغزو التجاري صوب أميركا الوسطى والجنوبية، حيث اصطدم الغرب بما تبقى من حضارات هندية عريقة، انعزلت تدريجيا بفعل التبشير الكاثوليكي، وإقامة أنظمة حكم وافدة مهمتها تدمير الثقافات المحلية، كما جاء اللقاء بالحضارة العربية الإسلامية عبر حروب الفرنجة الساعية لاسترداد القدس لقلب الدائرة المسيحية من خلال سلب ونهب وتدمير معالم هذه الحضارات حتى سقوط غرناطة 1492، ثم تعرفت أوروبا على الثقافات الأفريقية خلال مرحلة غزو قلب القارة السوداء لاستنزاف طاقاتها البشرية عبر نهج العبودية العنصري، وتم فتح آسيا الغربية ثم الجنوبية والجنوب شرقية، حتى المرحلة النهائية لبحثهم عن قارة أسطورية أطلقوا عليها «كاثاي» أي الصين.

ويرى المؤلف ان إسهامات الفكر الغربي المحدودة عن المغايرة والتنوع اقترنت بفكر استعماري شيفوني منذ البداية، غير أن ذلك لا ينفي اهتمام الغرب في مرحلة لاحقة بالبحث في أصول الحضارات الضاربة في التاريخ بصورة أكثر عمقا وتأصيلا من الحضارة اليونانية والإغريقية، وذلك عبر المدخل الجيوسياسي. ومثال ذلك الحضارة الفرعونية والفارسية والثقافات الهندية وأيضا القيم الحضارية الصينية، مشيرا إلى أن الغرب في خشيته من قوة القيم الحضارية وإمكانية «تحولها لصخرة تتحطم مشاريعه الإمبريالية عليها»، سرعان ما بات يروج لاعتبار الحضارة شيء بعيد، يمكن الاعتزاز به، ولكنه لا يمت إلى مكانة مؤثرة في حياتنا المعاصرة. وهو ما يعني تهميش العمل الفاعل لشعوب المجتمعات العريقة في عالم اليوم، بما يؤدي قصرا لتبني قيم التقليد للغرب كسبيل للتبعية المطلقة. وهذا ما تم بالضبط في الدائرة الحضارية الشرقية الكبرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية العربية الفارسية بعد كسر شوكة شموخها العلمي الفكري الاقتصادي الحربي.

ويتابع د. أنور عبد الملك في كتابه تنقله من الرؤية العامة في المفاهيم الحضارية والقيم المجتمعية إلى تلاقي تلك الرؤى مع المخططات الدولية السائدة، ليبرز لنا الأصول الثقافية والدينية للعلاقة المميزة بين أميركا وإسرائيل وكيفية توظيفها في المواقف السياسية، كما يوضح لنا مقومات الصين الحضارية كعضو فاعل في الساحة الحضارية لعصر ما بعد الأيديولوجيات والمخططات الأميركية للحيلولة دون ذلك، ثم ينقلنا لتساؤل مهم حول طبيعة المرحلة التي نحياها وهل هي انتقالية؟ أم أنها مرحلة تحول جذري؟! وهل الموقف الأميركي الراهن هو حقا رد فعل لحادث برجي التجارة؟

ويجيب د. عبد الملك مستعرضا النتائج غير المرضية لسياسة الهيمنة لدى الساسة الأميركيين، بعد مضي عقد كامل من انهيار الاتحاد السوفياتي، فتفكيك يوغوسلافيا الاشتراكية باسم نصرة الإسلام وتفكيك البوسنة لحماية المسيحيين ونهج التعامل في كوسوفو ومقدونيا لم يحققا للدبلوماسية الأميركية أي مكتسبات دعائية لدى الرأي العام العالمي، كما فشلت المدخلات الأميركية في تقويض أركان النمو الاقتصادي في أسيا، ونجحت أفريقيا في مسيرتها التحررية، وتوقفت المذابح العرقية في رواندا، ووضعت الحرب الأثيوبية الإريترية أوزارها وبدت أميركا اللاتينية رافضة لسياسة التهميش والتغييب، وانتشرت الديمقراطية في بيرو وشيلي والمكسيك، كما ارتفعت قدرة كوبا وفنزويلا على الساحة القارية.

ويواصل د. أنور عبد الملك تحليله للواقع الدولي، موضحا حجم التناقضات بين أوروبا وأميركا، وكيفية العلاقة المحتملة بين أوروبا الموحدة والقطب الأوحد دوليا، إلا أن حوار الحضارات، الذي جاء كفكرة مواكبة لتشكيل اللجنة الوطنية لليونسكو في طوكيو عام 1955 بالتزامن مع مؤتمر باندونج في إندونيسيا، كان الهدف تقدير القيم الثقافية للشرق والغرب بالتوازي، والدعوة لتعميق ما يجمع بين شعوبها من تجانس، مع احترام تباين طرق التعبير والشخصية الخاصة لكل منهما، وهذه الأمور يجب أن تكون على رأس جدول أعمال أي حوار بشرط أن يشمل الحضارات العالمية كلها، وليس الغرب والإسلام فحسب.

* في أصول المسألة الحضارية

* المؤلف: د. أنور عبد الملك

* الناشر: مؤسسة دار الهلال المصرية