الفساد الأخلاقي يبدأ من الغموض اللغوي

أميركا وأبوغريب وأساليب التعذيب

TT

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، صرح نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني لاحدى الصحف الاميركية، قائلا بأن الادارة الاميركية ينبغي عليها من الآن وصاعدا ان «تعمل خلال الجانب المظلم».

ذلك يعني، كما يستنتج منه، تعليق العمل بالأوامر القضائية واتفاقيات جنيف الخاصة بمعاملة سجناء الحرب، اما البرتو غونزاليس، مستشار بوش الرسمي، والذي رقي الى منصب النائب العام، فقد زود رئيسه بنماذج وصيغ يستطيع بها القيام بحملة ضد بعض القتلة الموجودين في ولايات اميركية كانوا يستهدفون المدنيين، وكأن لسان حاله يقول: اذا كان الارهابيون قد تجاهلوا القوانين، فلماذا تهتم الادارة الاميركية وحلفاؤها بالتفاصيل الانسانية؟

ومنذ ان نشرت صور السجناء العراقيين في ابوغريب العام الماضي والتي تصور الاساءة البالغة للسجناء وامتهان انسانيتهم، يكون «الجانب المظلم» الذي نوه اليه ديك تشيني قد عرض بشكل ساطع ومبهر. ويكشف تحقيق عن حالة سجن ابوغريب ان التعذيب كان يمارس لغرض انتزاع الاعترافات. غير ان الرئيس الاميركي جورج بوش يصر بشدة على ان جنوده قد وجهت اليهم تعليمات واضحة بعدم القيام بأي عمل غير قانوني. وفي هذا يقول: «لدينا قوانين». وبعد احداث ابوغريب اتضح انه تم توظيف مجموعة من المحامين الذين يتقاضون اجورا باهظة بغرض ابتداع وسائل للمراوغة بهذه «القوانين».

وفي كتابه «التعذيب والحقيقة: أميركا، ابو غريب والحرب ضد الارهاب»، يبحث المؤلف مارك دنر خلال التقارير الرسمية والنسخ الاصلية للمقابلات مع السجناء والشهود ومن خلال تحقيقاته الخاصة في العراق ليكشف عن السلوك الخاطئ في التنصل من المسؤولية لدى الرئيس جورج بوش، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، ويؤكد على المشاركة الرسمية في ممارسة تلك الانتهاكات.

يرى المؤلف ان الفساد الاخلاقي يبدأ من الغموض والالتباس اللغوي، اذ من السهولة الكذب حينما يضفي المرء الغموض وعدم الوضوح على الحقيقة. ان الافعال الشنيعة او المقيتة من الممكن الدفاع عنها اذا ما اطلق عليها اسم آخر ثم يستشهد بفيلم «القيامة الآن» الذي يدور حول حرب فيتنام ويقول بأن احدا لم يخبر «ويلارد» لقتل «كورتس». انهم ببساطة يقولون ان امر الكولونيل يجب ان «يلتزم به»، وحينما يبدي القاتل عدم فهمه يضيفون «وبشكل شديد التحيز».

العسكريون البيروقراطيون الذين يشير اليهم المؤلف يمارسون نفس هذا الاسلوب الغامض المراوغ، احد الكولونيلات يسوغ استعمال اسلوب «الحرمان من النوم» في معتقل غوانتانامو وذلك بالقول: ان مثل هذا الاجراء «ربما موجود في القاموس». اذن فقد اصبح ذلك التعذيب النفسي مجرد مفردة قاموسية ظريفة، ومن هنا كانت الخطوة التالية لصياغة جديدة وظفت في سجن ابوغريب، حيث تبقى الزنزانات مضاءة طيلة اربع وعشرين ساعة في اليوم وتسمى بـ «تكييف عملية النوم، كما لو ان المسألة تتعلق بشيء سيكولوجي.

يقول المؤلف ان وكالة المخابرات الاميركية المركزية مختصة بمثل هذه التعابير والالفاظ الجديدة، الضرب كمرحلة اولى يفسر على انه يجمل قضية الاستجواب وليتصور المرء كيف ستجمل الحياة من خلال الضرب بالسوط وإطلاق الكلاب المتوحشة.

مثل هذه «التجميلات» تعتبر امتيازا ويكثر استخدامها مع النزلاء الذين تصفهم الوكالة بـ «السجناء الدسمين جدا»، اللغة الغامضة وغير المفهومة مثل المخدر، انها تمنع الاذن من سماع صراخ الضحية وتكبت كل الاحاسيس التي لم يزل يمتلكها المرء.

لذلك فإن الذين يقومون بالتعذيب يمكن ان يصفوا انفسهم مثل الفنانين الذين يتسابق احدهم مع الآخر لتحقيق اكثر الاساليب ابداعا من العدوانية.

تستخدم الاصطلاحات اللاتينية لأنها غير مفهومة وكذلك اللغة العامية الدارجة لأنها اختزال موجز لا يمكن تثبيت معناها الدقيق وليس لها مكان حتى الان في المعاجم والقواميس. عسكري اميركي برتبة فريق يأخذ اربعة عكسريين عراقيين ويأمر جنوده ان «يجردوهم من ملابسهم ويتعاملوا معهم فيزيائيا». يتساءل المؤلف فيما اذ كان هذا التعامل الفيزيائي يعني تعريتهم او وضعهم في مكان منعزل؟ التعامل الفيزيائي يعني التمرين الجسدي، وهل يعني هذا تمرينا رياضيا ام يعني الضرب؟ ان الغموض في إصدار الامر كما يشير احد التقارير «يمكن ان يؤدي الى اي امتهان»، غير ان من الصعوبة ان يكون هذا الامر امتهانا حين يكون غرضه «تنعيم السجناء»، كما يرد التعبير، أو ليس التنعيم مفردة ايجابية مثل ناعم ورقيق وشفاف؟.

خلال صفحات الكتاب التي تربو على الخمسمائة، يضمّن المؤلف ثماني صفحات منه للصور الفوتوغرافية التي نشرت اغلبها في صحف العالم، خاصة صورة المجندة ليندي انغلاند وزملائها الذين جمعوا السجناء وشكلوهم على هيئة هرم للتمتع بمشاهدتهم.

* التعذيب والحقيقة: أميركا، ابوغريب، والحرب ضد الارهاب

* المؤلف: مارك دنر

* الناشر: غرانتا، لندن 2005