هل الديمقراطية تكتمل بالحفاظ على الأقليات فقط.. أم عليها أن تخلق التعددية؟

«السوبر حداثة».. نظرية بسيطة في قالب معقّد

TT

ركز حسن عجمي في كتابه الجديد «السوبر حداثة ـ علم الأفكار الممكنة» الصادر عن «مكتبة بيسان» في بيروت 2005، على تفسير الظواهر بدلاً من تحليل المفاهيم كما في كتابه السابق *مقام المعرفة ـ فلسفة العقل والمعنى». انطلاقاً من أن الفلسفة بوظيفتيها الأساسيتين هي تحليل للمفاهيم كمفهومَيْ العقل والمعنى كما هي تفسير للظواهر* وبما أن «السوبر حداثة» تُعنى بشكل خاص بتفسير الظواهر وتعتمد في ذلك على مفاهيم «ما بعد الحداثة» كمفهوم اللا مُحدَّد، قام بتطبيق المفهوم الأخير على العوامل التي تحرّك المجتمع والتاريخ.

منطلق السوبر حداثة، من غير المُحدَّد أي عامل من العوامل هو الأساسي في تحديد الظواهر الاجتماعية والتاريخية، فمن غير المُحدَّد ما إذا كان العامل الاقتصادي أم الديني ـ العقائدي هو الذي يؤثر بشكل اكبر في صنع الاحداث ويغير مسارها، فإن عاملاً ما يصبح أساسياً في تحديد الظواهر الاجتماعية، بحسب اعتقاد الناس بسطوة هذا العامل عليهم.

كما تتناول السوبر حداثة المشاكل الفلسفية المحضة كمشكلة العوامل الذي يجعل النظريات العلمية ناجحة في تفسير الظواهر الطبيعية* يقول الكاتب انه يوجد مذهبان أساسيان في فلسفة العلوم وهما المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي. بالنسبة إلى المذهب الواقعي، النظريات العلمية ناجحة لأنها صادقة. أما المذهب اللاواقعي فيرفض القبول بفكرة أن النظريات العلمية صادقة ويقول إنها لا صادقة ولا كاذبة بل فقط مقبولة، ويعتبر أنها ناجحة لأسباب معينة كأن تكون ناجحة بسبب أن عقولنا تملك قدرات على إنشاء نظريات ناجحة في تفسير الظواهر والتنبؤ بها* من جهتها تقف السوبر حداثة في موقف بين المذهبين وتجد انه من غير المحدد ما اذا كانت هذه النظرية العلمية ام تلك صادقة.

هذا المذهب الذي استحدثه حسن عجمي يعتمد على استخدام مناهج ما بعد الحداثة من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي للحداثة، أي المعرفة.

فإذا كانت الحداثة هي المذهب الفكري الذي يقول إنه من الممكن الحصول على معرفة غير نسبية بل مطلقة وثابتة، فإن مذهب ما بعد الحداثة يقول إنه من غير الممكن الحصول على المعرفة الكاملة لأنه لا وجود لمعرفة مطلقة وثابتة بل المعرفة نسبية بحيث إنها تختلف من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر.

أهمية المعرفة كأمنة في ذاتها، والمعرفة قيمة الإنسان وليست سوى عملية البحث المستمر عنها. وهي لا تسقط علينا من أعلى أو تأتينا من أسفل، بل لا بد من خلقها. وخلق المعرفة يعني خلق أفكار منطقية وموضوعية* على هذا الأساس تتخذ السوبر حداثة قيمتها كونها محاولة في إنشاء ما هو جديد. فالطريقة الأفضل لمواجهة تكاثر المعلومات واجتياحها لأدمغتنا هي أن ندرسها ونُقيم فكراً جديداً، بدل من أن نكون متلقين لفكر الآخرين. فالحداثة وما بعدها بشكليهما الحالي من نتاج الحضارة الغربية التي لم نشارك فيها في القرون الماضية* علينا الآن أن نبدأ بمشاركة العالَم بفكر جديد ومنطقي وعلمي وإلاّ تحوّلنا إلى تابعين. والطريقة الفضلى في مواجهة العولمة وما قد تحمل من استعمار وهيمنة تكمن في تقديم مشاريعنا الفكرية والإنسانية. من هنا لا بد أن نواجه العولمة والاستعمار الخارجي والداخلي بالكلمة أي بالبحث العلمي. رغم اننا نتكلّم عن مجتمع شرقي وآخر غربي فالمجتمعات في خلاصتها واحدة* وإذا ما أردنا أن نكون عرباً أو شرقيين لا بد أولاً أن ننتمي إلى الإنسانية وتراثها. على هذا الأساس يبدأ بما انتهى الفكر الغربي إليه، فبينما قدّم الفكر الغربي الحداثة وما بعدها يحاول حسن عجمي أن يصوغ في المقابل ما هو مختلف ألا وهو السوبر حداثة* وبما أننا لا بد أن ننتمي إلى تراث الحضارات كلها لا بدّ لنصِّنا أن يخاطب كل إنسان أكان شرقياً أم غربياً علماً بأننا حصيلة كل الحضارات* فإذا ما كانت السوبر حداثة مفيدة للغرب ستكون مفيدة أيضاً للشرق والعكس صحيح* لن تتمكن مجتمعاتنا من أن تتطور من دون تطور المجتمعات الأخرى والعكس صحيح أيضاً* من هنا نرى أن الغرب يسعى إلى التأثير فينا لأنه لن ينجح في جعل نهضته مستمرة بمعزل عن نهضة الشعوب الأخرى. والمثل الأساسي كنموذج على تطبيق السوبر حداثة فهو التالي: توصل الغرب إلى جعل الديمقراطية ـ الليبرالية نظاماً ناجحاً وسعى فكره الفلسفي إلى تحديد ما هي. ولقد عرّف جزءاً من الديمقراطية على أنها الحفاظ على الأقليات العرقية والدينية واحترام حقوقها ومعاملتها بمساواة وعدل وإشراكها في المجتمع والدولة* لا أحد يستطيع أن يرفض نظاماً أخلاقياً وإنسانياً كهذا، لكن السوبر حداثة ترى ان الذي يُميّز الديمقراطية هو أنها تخلق التعددية بدلاً من أن تحافظ عليها فقط. بمعنى آخر، لا بد للديمقراطية ـ الليبرالية أن تهدف إلى بناء مجتمع متعدد الأعراق والمذاهب والأفكار وبذلك تزول الأكثرية وديكتاتوريتها* وحينها فقط تصبح المشاركة الاجتماعية والسياسية مشاركة ديمقراطية وحرّة فعلاً* أما أن نحافظ على التعددية أو على الأقليات الموجودة في المجتمع فقط لا غير فهذا قد يؤدي إلى بناء مجتمع ونظام طائفي كالمجتمع والنظام اللبنانيين.

من جهة أخرى، بينما تقول الحداثة بوجود نظام فكري وقيمي صادق وحق وهذا النظام واحد لا يختلف وبذلك ترفض الأنظمة والقيم الأخرى، وبينما تقول ما بعد الحداثة بعدم تفضيل نظام فكري وسلوكي على نظام آخر وبذلك تستنتج بأن لنا الحق في اختيار أي نظام من دون سواه، تعبّر السوبر حداثة عن فكرة أننا لا بد أن نُوحِّد إنجازات الحضارة الإنسانية في نظام اجتماعي متكامل* هذا النظام هو الذي يجمع بين قيم الديمقراطية ـ الليبرالية كقيمة الحرية وقيم الاشتراكية كمنحى لإعادة توزيع الثروة* ومن بين الأفكار الممكنة التي تطرحها السوبر حداثة فكرة إعادة توزيع الثروة على أساس رفع دَخل الفرد، فعندما يرتفع دَخل كل فرد إلى أقصى حد ممكن حينها يتكوّن المجتمع من أفراد أحرار في تصرفهم وفكرهم* وفضيلة إعادة توزيع الثروة من خلال رفع الدخل تكمن في انها تحافظ على الحريات والملكية الخاصة، فرفع دخل الأفراد لا يؤدي إلى خرق حرية الآخرين وحقهم في ما يملكون.

* «السوبر حداثة ـ علم الأفكار الممكنة»

* المؤلفة: حسن عجمي

* الناشر: «مكتبة بيسان» في بيروت 2005 .