الجسد وسؤال المعنى

«النص والجسد والتأويل» لفريد الزاهي

TT

تنطبق على كتاب «النص والجسد والتأويل»(1) للباحث فريد الزاهي، صفة «التجريب النقدي»، وذلك بالنظر إلى السياق المعرفي غير التقليدي الذي يندرج في إطاره، وباعتبار الحدود الاستدلالية التي يقترحها على أكثر من صعيد; سواء على مستوى موضوعه المركزي الذي هو «الجسد»، أو على مستوى البناء الإشكالي الذي يصل تلك المقولة بالتعبير الأدبي، أو من خلال ربط المستويين معا بآلية مركزية من آليات التداول والإنتاج الذهنيين: أي «التأويل». وهو الإجراء الذي يحقق مآرب الناقد في الخروج من الأدبي الخاص إلى الثقافي العام، ومن التفصيل النقدي الجزئي إلى الرؤية الفكرية الطامحة للشمول.

وبغض النظر عن الإنجاز التحليلي المختلف، والمحصلات النقدية الحصيفة، التي يمكن أن يشف عنها كتاب «النص والجسد والتأويل»، فلعل الأجدر بالانتباه هو القلق المعرفي الأعمق الذي يصهر الباحث داخله الانشغال الموضوعي الضيق بامتداداته الذهنية، بأسئلة الدرس النقدي العام وأزماته، وهو ربما يفسر تلك المواءمة المتزنة في الكتاب بين تأصيل الأسئلة النقدية، ومحاولة توسيع مدارها الإشكالي، وبين التحليل النصي وتدعيم الرصيد النظري بالمفاهيم والمقترحات المنهجية الجديدة: «الجسد»، «الصورة»، «المتخيل»، «التأويل»، «الرمز»، «القدسي»، «الذات»، «الكتابة»، ودوال عديدة غيرها تؤثث مساحات التقعيد والتحليل والاستنتاج، متاحة من دوائر: «الرمزية» و«الهرمونوسيا» و«السيميائيات» و«التحليل النفسي» و«الظاهراتية» صوى النظرية، ناهلة من النظر الصوفي والاجتهاد السردي والفقهي والكلامي، نسغ البناء الجدلي، الذي تثرى دلالاته بالتصادي مع مجمل حلقات التأليف النقدي لفريد الزاهي، بدءا بـ:«الحكاية والمتخيل» وانتهاء بـ:«العين والمرآة» مرورا بـ:«الجسد والصورة والمقدس في الإسلام»، وعديد الترجمات ذات الصلة بالمدار المعرفي ذاته، فضلا عن عشرات المقالات المنجمة عبر الصحف والدوريات العربية والفرنسية، المتناولة لقضايا الصورة والتشكيل الجسدي في الرواية والسينما والفنون البصرية المختلفة.

ولعل إنجاز الزاهي في هذا السياق لا يمكن أن يختصر في مجرد استحداث معادل عربي لانشغال نقدي ذي صبغة غربية في أسسه ومفاهيمه، لأن الناقد لا يخفي جذوره لدى الباحثين الآخرين، لكنه يعيد بناء الدرس المعرفي والجمالي حول الجسد، في واقعه الجديد; إنه يترجم، ويقرب، وينحت، جهازا مفاهيميا كاملا، ثم يظهر ماذا حذف وماذا أضاف في أسس المعمار، وأخيرا يطلعنا على المشهد النقدي الذي يحب أن نراه معه، مزيجا من رؤيا الفيلولوجي والناقد الثقافي ومؤرخ الأفكار والجمالي المولع بتشكلات الصور.

لماذا «النص والجسد والتأويل» أو بالأحرى لماذا «الجسد» ثم «النص» فـ«التأويل» في المرتبة الأخيرة؟ وفيم يفيد هذا التركيب المبني على المصاحبة والعطف والجدل؟، ولم انتقاء الجسد من ضمن الظواهر الإنسانية، وإفراده بخصيصة المرجع والأصل؟ ومن ثم ربطه بالعملية التعبيرية ممثلة في«النص» وبآلية التداول ممثلة في «التأويل»؟

يضعنا الزاهي منذ البداية أمام افتراض لا يخلو من طرافة تسعى مجمل فصول الكتاب وفقراته إلى التدليل على رجحانه النظري والتحليلي، يقول:

«إن وجود النص وهويته، إن صح القول، تتطلب التأويل وتفترضه. فالمعنى النصي ليس معطى سابقا على تجربة القراءة والتلقي. وإذا كان الوجود والحياة تأويلا فإن النص أيضا يكون تأويلا للوجود في اللغة وعبرها. ومن ثمة فإن هوية النص تتحدد بهذه الوضعية الأنطولوجية. أما علاقة الجسد بالنص فإنها تكمن في البداية في ذاك التداخل اللساني والواقعي بين المتن والجسد، أي في العلاقة التكوينية التي ينسجها الجسد مع النص فيهبه فيها كل معطياته الإدراكية تخييليا ومتخيلا. الجسد إذا، موضوع النص ومنبع معطياته ومنتجه ومتلقيه في الآن نفسه. إنه يشد النص إلى مسألة الوجود، كي يصغي لها وينتجها تخييليا» (ص 18-19).

ثمة إذن موازاة عمودية بين الجسد والوجود من جهة، وموازاة أفقية بين الجسد والنص من جهة ثانية، وتقوم علاقة الموازنة الأولى على الاختزال المجازي الذي يضحى الجزء فيه دالا على الكل، بينما تنهض المقارنة الثانية على سند اللغة، والآصرة التحويلية للقيم في العلاقتين معا هي التأويل، فما الجسد إلى تأويل للوجود واختزال لظواهره، وما النص إلا تأويل للجسد ودلالة على تشكله الفني، وانتقاله من نطاق الفطرة إلى حيز الخبرة.

هكذا يتحول الجسد إلى قاعدة للوعي والتعرف التخييلين، وإلى أصل لغواية الأدب ، بينما يمسي التأويل آلية للمحاكاة والتشكل، ولما أن الأمر يتعلق في المستويين معا بماهية الإدراك والتخيل فإن بعد الظاهر والمرئي الذي يحيل عليه الجسد، ومن ثم المتن /النص، لن يتحدد إلا بقيمته التخييلية وبقدر دلالته على الباطن ورمزيته على المخفي وبلاغته في استكناه غير المنظور. وهو ما يخرجه من نطاق الظهور الكلي إلى حيز الخفاء المراوغ والخلافي، وتبعا لذلك فإن الوعي بالجسد هو إدراك لجدل الخارج والداخل، الدال والمدلول، الذي يخترق نطاق الوعي الزمني والفضائي والإيقاعي، وهو ما يشرحه الزاهي بقوله:

«فتجربة الجسد تساهم في بناء العمل الأدبي... والكثير من المفاهيم التي تؤسس التحليل التقني الوظيفي للنص الأدبي الحكائي ترتكز على مقولات ذات مصدر جسدي واضح، كالرؤية والحركة، أو لها علاقة مباشرة به كالكلام والفضاء والزمن... وكل فصل بين حياة الجسد ومكونات النص يغدو عسفيا». (ص 34).

من هنا يمكن فهم لغزية الانجذاب نحو الأدب، وكنه الفتنة التي يحققها، إنها في شكل من أشكالها تعتبر تنويعا على غواية الجسد الأصل، بل لعل التلازم بين التجسد والكلام الإلهيين في اللاهوت المسيحي أن يقرب الفكرة التي يسعى الباحث إلى تطويرها مستثمرا أهم إنجازات الفكر الغربي المعاصر، كما تفسر ربطه الخاص بين مختلف صيغ التشكيل الجمالي والتأليف الذهني لعوالم الصور والقيم الجسدية وذاكرة المتخيل التي تنبعث في عمقها من أصل جسدي، حيث إن بين الصور والمتخيل، علاقة تحاك جدلي فبقدر ما تعكس التكوينات الصورية قيم الذاكرة الجماعية ومكوناتها النسقية، انطلاقا من وظائف التمثيل الجمالي المتنامي والمتحول، يمثل المتخيل مدونة متعالية من الصور الثابتة والمكرسة، وهو الفهم الذي يجعل من الاشتغال على الصور الجسدية في كتاب فريد الزاهي، مقاربة لذهنية التمثيل وآلية المتخيل العام بحيث تعمق في هذا المستوى مقولات «باختين» و«جلبير دوران» و«ستراوسن» وغيرهم. بل ربما كان الزاهي في هذا السياق من النقاد العرب القلائل الذين كرسوا اشتغالهم النقدي لفهم جماليات الجسد، بما هو صورة، في علاقته بمقولات الإنجاز الأدبي، وفي التحامه بدوال «الهوية» و«الغيرية» و«الواحدية» و«التعدد»، مطورا بذلك إنجازات سابقة لـ«عبد الكبير الخطيبي»، و«عبد الوهاب بوحديبة» و«مالك شابل»، و«شربل داغر» في حقل التراث الإسلامي، ومستلهما الإنجازات النظرية الأكثر حداثة لكل من هايدغر، وميرلو بونتي، وفوكو، وريكور، وديريدا... في قراءة النسق الثقافي الغربي، وفي تفسير الهيمنة المتنامية لدولة الصور. وفي هذا السياق الأخير تندرج ترجمته البارعة لكتاب رجيس دوبري المتحفي: «حياة الصورة وموتها» الذي شكل إحدى أعمق المقاربات النقدية لكيان الصورة عبر التاريخ العقدي والرمزي والأسطوري والوسائطي الغربي على مر العصور.

* ناقد من المغرب

* النص والجسد والتأويل

* المؤلف: فريد الزاهي:

* الناشر: دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2004 .