مسرحية «مدرسة الدكتاتور» مترجمة إلى العربية

كما تشابه تجارب الشعوب إزاء الاستبداد!

TT

لم يكن غريباً ان تلفت مسرحية «مدرسة الدكتاتور» للكاتب الألماني ايريش كيستنر انتباه العراقية إقبال القزويني فتقرر ان تنقلها الى لغتنا، كما لم يكن غريباً ان تصدر الترجمة عن المجلس الوطني للثقافة في الكويت، ضمن سلسلة «ابداعات عالمية». إن كل سطر في هذا الكتاب يحيل قارئه، في منطقتنا، الى حوادث عايشها وكان شاهداً عليها، لا في ألمانيا، بل في وطنه الام، بحيث يبدو له ان المستبدين في العالم كله يتخرجون من مدرسة واحدة، ويتبادلون منهاجاً فعالاً يصلح لاذلال الشعوب، حيثما كانت.

تبدأ المسرحية بخطبة لرئيس الوزراء، أي بالمنافق الأكبر في الدولة، يترجى فيها الرئيس ان يبقى في منصبه مدى الحياة. ويقول: «البرلمان والحكومة والشعب، أي الجميع ما عدا شخص واحد، يترجون رئيسهم هذا الواحد بعينه، يطلبون منه بالحاح، هو مهندس دولتنا بشكلها الجديد، يتوسلون اليه ان يبقى في منصبه الصعب مدى الحياة. ان هذا الاجماع لا يحتاج الى تصويت أو احصاء. ان صندوق الانتخابات لا ينتظر سوى صوت واحد. صوته هو. ونحن نعلم ان ما نطلبه منه ونظنه تكريماً، هو في الواقع عبء كبير لا حدود له، يحمله معه حتى القبر».

يعطي المفتش اشارة نحو الخارج، بعد انتهاء الخطاب، فترتفع هتافات الشعب، بصورة ميكانيكية، تطالب الرئيس بالبقاء رئيساً. ويتقدم هذا الى المنصة لكي يلقي بدوره خطبة يعرب فيها عن «اذعانه» لقرار الشعب. ولكن أي شعب؟ واين هي الجماهير؟ ومن هو المواطن الذي يدري ماذا يحاك خلف أسوار القصر من دسائس؟

تأخذنا مسرحية كيستنر الى خفايا جهاز الحكم ودهاليز الانظمة الدكتاتورية، حيث لا سلطة حتى للديكتاتور نفسه، بل لحاشية تتألف من الوزير الأول، والطبيب الخاص، والمفتش، وزوجة الرئيس وابنه، والحاكم العسكري، وآخرين يتولون تنصيب دكتاتور ورفع آخر، شرط ان تكون الوجوه متشابهة والقامات متساوية في الطول والمتانة، فلا ينتبه الشعب الى عمليات تصفيات الرؤساء الذين يتمردون على الحاشية، ويظن ان رئيسه باق مدى الحياة.

ومن أجل الاستمرار في ضخ الرؤساء الى قمة السلطة، تتولى الحاشية اقامة مدرسة للدكتاتوريين، يجري اختيار طلابها من الرجال الذين يشبهون الرئيس، لتدريبهم على تقمص دوره حين تأتي ساعة الحاجة الى أحدهم. ويتولى التدريب بروفيسور ضليع في علم نفس الاستبداد.

وفي هذه المدرسة، يتعرف القارئ على انماط عجيبة من البشر منهم ذلك الاسكافي الذي يستعد لأن يصبح رئيساً، ذات يوم، اذا جاءه الدور ووصل الرقم اليه. انه يروي للمفتش، وهو يتسلى بدق المسامير الحديدية في نعل الحذاء، كيف انه دخل السجن بعد قيام الثورة والغاء النقابات: «في السجن، كان يوجد عمل على الأقل. كانت الدولة تحتاج الى جنود، والجنود يحتاجون الى احذية. وانتهى كل ذلك بعد الافراج. مراقبة الشرطة. راسائل تهديد. تحطيم زجاج النوافذ. مقاطعة. اصدقاء جبناء. جيران متشفون. واذا جاء زبون فهو جاسوس. الأطفال كانوا جوعى. الزوجة أصابها المرض. اخذت تعاني مرضاً عصرياً اسمه الخوف وليس له دواء».

الصدفة خدمت الاسكافي فتعرف على البروفيسور الذي لاحظ الشبه بينه وبين الرئيس، وقرر ان يضمه الى المدرسة. وكان لا بد من خداع الزوجة والأولاد، والايحاء لها بأن زوجها هرب الى كازابلانكا لكي يعمل في ورشة، ومن هناك يرسل لها النقود.

وللترويح عن طلاب المدرسة، لا بد من مجموعة من النساء اللواتي وقعن في قبضة الحاشية وتحولن الى آلات خاضعة للتهديد، ممنوعات من العيش الحر ومحتجزات في مكان ما من القصر. ويدور في احد فصول المسرحية حوار بين اثنتين منهن، باولا وستيلا، تخبر فيه احداهما الاخرى، همساً ان الرئيس غير موجود. انه ميت من زمن. وتتساءل ستيلا: «ميت؟» ومن الذي يخطب في الناس؟ من الذي يبعد الوزراء عن مناصبهم؟ من الذي يوقع أوامر الاعدام؟ من الذي يفتتح النصب التذكارية؟ من الذي يجرح في محاولات الاعتداء؟».

ترد صاحبتها: «ببغاوات مرتدية معاطف رئاسية. اجهزة اوتوماتيكية طويلة وعريضة بحجم الرئيس. والآن يحكم الطرطور رقم 3، وربما رقم 4 ».

وهكذا تمضي المسرحية، بأسلوب ساخر سخرية سوداء، وبجمل قصيرة اشبه بالبرقيات، لكي تصف لنا الاجواء داخل «مدرسة الدكتاتوريين»، وهي عبارة عن قاعة فيها كراس وأدوات قياس وميزان وعدة مرايا كبيرة ذات الاجزاء الثلاثة، كما في محل للخياطة، وهناك ايضاً كرسي على منصة يشبه العرش، وعلى الجدران صور كبيرة للرئيس في أوضاع مختلفة. ان القاعة مليئة بالرؤساء المزيفين، اولئك الذين يستعدون للحلول على العرش عند الحاجة، يرتدون معاطف مزينة بأنواط ونياشين. يقف بعضهم أو يجلس أو يتمشى، مثل مشاهد المسرح الصامت (البانتوميم)، الثامن والتاسع يتدربان أمام المرآة على الحركات والوضعيات، العاشر والحادي عشر يصححان لهما الحركات.

الثاني عشر يتمرن بمنتهى الوقار على الصعود الى المنصة والنزول منها، الثالث عشر والرابع عشر يساعد احدهما الآخر في تبادل المشط والفرشاة.

الرابع يقف على الميزان... فإذا زاد بضعة غرامات عن الوزن المحدد للرئيس فلا بد من تمارين وحمية لكي يعود الى وزنه الأصلي. ان كل طالب في المدرسة يحمل رقماً وينتظر دوره في ارتقاء العرش، وهو دور يعرف مسبقاً انه لن يتقمصه طويلاً.

لكن الرياح لا تسير، دائماً، حسب هوى الحاشية. وهي حاشية متنافرة ومتحاسدة ومنافقة. فيقرر عدد من الطلاب التمرد على الوضع القائم، بمساعدة احد الضباط، واغتيال رجال الحاشية، ووقف ماكينة تفريخ الرؤساء، واعلان حكومة جديدة. وتصطدم الخطة بأن اعضاء الحكومة الجديدة هم من المنفيين الموجودين خارج البلاد، ويقرر الضابط ان «وزراء يحملون في جيوبهم جوازات سفر أجنبية، غير مقبولين على الاطلاق. فالشعب يسميهم نسخاً انجليزية. هذا هو صوت الشعب».

وبدلاً من ان تتحقق ثورة طلاب مدرسة الدكتاتوريين، اولئك المساكين الذين جيء بهم للقيام بمهمة الدمية المطيعة، يتسلم الجنرالات الحكم ويجبرون الطالب رقم سبعة، باعتباره الرئيس، على اذاعة اسماء حكومة تتألف من دستة من الضباط الكبار الذين كانوا في خدمة الدكتاتور حتى صباح يوم الانقلاب.

يحاول السابع ان يتمرد وان ينفرد بالميكرفون لكي يدعو الشعب الى التجمع أمام القصر لنجدة حركة التمرد. لكن الخطاب لم يكن يذاع مباشرة، بل يسجل على شريط، ويتقدم الحاكم العسكري، أقوى رجل في الحاشية السابقة، لكي يذيع خطاباً آخر.. وتستمر المهزلة.

عاش مؤلف المسرحية ايريش كيستنر (1899 ـ 1975) حياته مستقلاً، رافضاً الارتباط بحزب معين. وتعرض للاعتقال مرات كثيرة لكنه لم يفكر بالهجرة من بلده. وتعرضت كتبه للحرق والمصادرة، ومع هذا فقد تلقف قراء خارج المانيا أعماله وتحولت رواياته الى افلام في هوليوود. وعندما اصيب، بعد الحرب العالمية الثانية، بمرض القلب، فإنه لم يتخل عن عزيمته وواصل دراسة الأدب والفلسفة حتى حصل على درجة الدكتوراه، وكان يجد سلواه في كتابة القصص للأطفال.

في مطلع شبابه، انتقل كيستنر من درسدن، مسقط رأسه، الى برلين ليعمل في صحفها كاتباً وناقداً أدبياً. وكتب الشعر والقصة والرواية والمسرحية، قبل ان يقرر الانتقال مع زوجته الى ميونخ، غداة الحرب الثانية. وفي هذه المدينة لفظ انفاسه.

ويشعر قارئ «مدرسة الدكتاتور» بترجمتها السلسة الجميلة، انه حصل على نصف المتعة. اما المتعة الكاملة فهي ان يشاهدها تؤدى على المسرح في بلد عربي يتحلى أهل الثقافة فيه بالشجاعة ورحابة الصدر. انها مسرحية كتبت قبل نصف قرن تقريباً، لكنها تصلح لهذه الساعة وكأنها كتبت أمس.