ربما كانت الديمقراطية نظاما ناقصا ولكنه ليس سيئا على الأقل

أكثر البحوث حول التاريخ والثقافة الإسلامية أنجزها المستشرقون الذين ذمهم إدوارد سعيد

TT

خلال السنوات الثلاث الأخيرة أطلق على التسعة عشر عربيا الذين شاركوا في هجمات 11 سبتمبر بنيويورك وواشنطن الكثير من التسميات من بينها «الإسلاميون».

وبدون أن يعرفوا ذلك كانوا في حقيقة الأمر «استغرابيين». وهذه هي رسالة كتاب «الاستغراب: التاريخ المختصر للعداء تجاه الغرب»، وهو دراسة حوارية كتبها إيان بوروما وأفياشاي مارغاليت البروفسوران في كلية بارْد بنيويورك والجامعة العبرية في القدس على التوالي.

يعرّف المؤلفان الاستغراب بأنه «الصورة غير الإنسانية للغرب رسمت على يد أعدائه». وهما اختارا التعبير اقتباسا من كلمة «الاستشراق» التي استخدمها الراحل الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد قبل 25 سنة ليصف رؤية «الامبرياليين» الغربيين التي تم تطويرها افتراضا حول الشرق خلال القرن التاسع عشر.

لكن اللعب على الكلمة لم يكن موفقا. فـ «المستشرقون» لم يكونوا يكرهون أبناء الشرق حتى مع تطويرهم لأوهام حول «الشرق» فإنهم لم يقللوا من شأن الثقافات التي درسوها، والتي بدون «المستشرقين» لم تتوفر ربما الفرصة لثقافات قديمة مثل البابلية والآشورية والمصرية والفارسية والصينية كي تكتشف وتدرس مثلما هم فعلوا. وأكثر البحوث الأخيرة التي جرت حول التاريخ والفن والثقافة الإسلامية قد تمت لا على يد أكاديميين مسلمين بل على يد نفس «المستشرقين» الذين ذمهم إدوار سعيد. ومن بين هؤلاء هناك تشامبوليون ورولنسون وغودار وبايبكا وبرنارد لويس الذين لا يمكن مقارنتهم بهتلر وستالين وأسامة بن لادن ومحمد عطا.

كذلك هو الحال مع تقديم كراهية الغرب باعتباره شكلا من الثنائية المانوية. ففي الثنائية المانوية والمسيحية يعتبر الشرق مبدأ ضروريا في نشأة الكون وليس موضوعا للكراهية. وبهذا الشكل من الثنائية لا يمكن لطرف أن يوجد بدون الآخر بينما إذا أجريت أي مقارنة بين الشرق والغرب فإن كليهما قادران على البقاء.

لكن ما الذي يعني في نهاية المطاف هذا «الغرب» بالنسبة للمستغربين الذين يفترض أن يكونوا محسوبين على الناشطين الأصوليين الذين يكرهونه ويتمنون تدميره؟

هل هي الديمقراطية أم العلم الحديث موضع كراهيتهم؟ أم هو مفهوم الفرد أو الصيغة السائدة اليوم عن المجتمعات متعددة الثقافات؟

لا يقدم المؤلفان أي تعريف. وفي بعض الصفحات كانوا قريبين من ذلك حينما قالوا إن أرسطو مثل «الغرب» لأنه سعى إلى فهم العالم من خلال العقل بينما أفلاطون وأحفاده استسلموا للفكر الباطني. وهكذا يمكن القول إن أثينا القديمة تمثل «الغرب» بينما اسبارطة مثلت «المستغربين».

وقيل لنا إن «المستغربون» يكرهون الغرب لأربعة أسباب هي: الغرب يفضل المدينة الآثمة على الريف الأخلاقي، والغرب يبدل البطولة بالتجارة، والغرب يفكر بالمادة فقط لا بالروح، والغرب يعبد الشر.

لكن أسبابا كهذه هي عمومية تماما لتفسر لنا سبب مسعى المؤلفين كي يظهرا لنا السبب وراء جعل بعض الناس مستعدين ليموتوا من أجل قتل الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين.

من ضمن الحجج التي يطرحها المؤلفان المدينة في مواجهة الريف لكن ذلك لا ينطبق على الإسلام لأن الإسلام كان دين المدن منذ البدء، إذ كانت مكة ينظر لها قبل الإسلام بأنها «مدينة آثمة» من قبل البدو الذين كانوا يقيمون في الصحراء «الطاهرة» بالجزيرة العربية. واليوم هناك ثلاث من أكبر ست مدن في العالم مسكونة من أغلبية مسلمة.

كذلك فإنه لا يوجد أي دليل يثبت أن أفلاطون أو أي فيلسوف آخر له علاقة بهذا الموضوع قد كره المدينة لأنها «آثمة». وأبرز الأفكار المعادية للغرب ولدت داخل المدن الكبيرة فحلم ماركس الإجرامي لم يكن مكان تشكله الريف البريء بل في المتحف البريطاني الواقع في قلب لندن، كذلك هو الحال مع لينين الذي قام بانقلاب عام 1917 في بتروغراد أكبر المدن الروسية آنذاك. كذلك هو الحال مع هتلر وحزبه النازي الذي ولد في مدينة ميونخ التي كانت تعد آنذاك المدينة الثانية من حيث عدد السكان ولم تكن في أي حال من الأحوال مدينة ريفية.

يمكن القول إن الزعم بتدمير الغرب للبطولة لصالح تفضيله التجارة ينطبق على الكثير من الحضارات القديمة وفي أوقات مختلفة. ظن زينوفون أن أثينا القديمة كانت هكذا وجوفنال أدان روما القديمة لهذا السبب. كذلك هو الحال مع اليهود الذين احتقروا أرض الكلدانيين التي اعتبرت أرضا للتجار. لكنهم هم أيضا لاحقا كانوا موضع السخرية لنفس السبب من قبل منتقديهم. أما نابليون فأسقط الإنجليز من حسابه باعتبارهم «أمة أصحاب الحوانيت» بينما تطلق هذه التسمية على قومية البارسيس في الهند وعلى الاثنية الصينية في جنوب شرق آسيا من قبل مواطنيهم من الهندوس والبوذيين والمسلمين.

ان الاتهام بأن الغرب لا يفكر الا بالمادة وليس بالروح، كما يشير بوروما ومارغاليتن هو نتاج الرومانتيكية الأوروبية، وبشكل رئيسي الألمانية، التي هي نتاج غربي مميز. ان ذلك يستند الى الغموض الزائف من ذلك النوع المناسب لأحاديث طاولة العشاء في صالونات برجوازية مختارة.

غير أن الحقيقة هي أنه بدون الحد الأدنى من الأمن المادي، ناهيكم عن الراحة الفعلية، لا يمكن أن يكون هناك اهتمام واسع بأية روحانية. فممارسو اليوغا الهنود قد يسعون الى الروحانية عبر الجوع والفقر المفروض ذاتيا ولكن ما من دليل على انهم وجدوها. وأخيرا فان صورة الغرب كتجسيد للشر، في الأصل على الأقل، هي نتاج المذاهب المنشقة التي مزقت المسيحية إربا منذ تبنيها من جانب القسطنطينية باعتبارها دين الامبراطورية الرومانية.

وغالبا ما يجري اغراء الأعداء الكثر لنموذج الوجود الغربي، اذا ما كان للمرء ان يتحدث عن مثل هذا النموذج الواحد، من جانب الثروة والقوة وليس من جانب الظلام الفعلي أو المتخيل لروحه «الشريرة».

ولا يعتبر اسلاميو الوقت الحاضر الغربيين «اشرارا»، ولكن وفق كلمات آية الله الخميني، «مخلوقات عنيدة» يجب حثها على العودة الى الجزء السليم باتجاه «الدين الوحيد الصحيح»، أي الاسلام. وقد اذهل سيد قطب، وهو احد المنظرين المؤسسين للاسلام المتطرف الحديث، ما رآه خلال زيارة له الى الولايات المتحدة استمرت عاما. ولكنه لم يعتبر الولايات المتحدة «شرا». بل على العكس من ذلك أظهر أو تظاهر بتعاطف معين مع الشعب الأميركي الذي اعتقد ان افراده ضحايا نظام وثني.

وينتهي القارئ الى افتراض ان تعبير «الغرب»، كما يستخدمه بوروما ومارغاليت، يعني كل المجتمعات الليبرالية بينما «النزعة الغربية» هي تعبير شامل لكل انماط التوتاليتارية عبر التاريخ. وهذا يؤدي بالمؤلفين الى الاشارة الى أن الحروب التي شنت الديمقراطيات الغربية باسم «الروح الروسية» و«العرق الآري» و«ديانة الشينتو اليابانية» والشيوعية والنزعة الاسلامية تمتلك الأصل ذاته، وهو الفكر التآمري.

وهذا بالطبع تعبير شامل يتحدى أي تقييم جاد.

ويخصص ما يقرب من ربع الكتاب لمقالة طويلة كان المؤلفان قد نشراها في مجلة «النيويوركر» حول كتاب تيودور هرزل الموسوم (الوطن الجديد القديم). وفي ذلك الكتاب يصور هرزل، مؤسس الصهيونية، مجتمعه الطوباوي كدولة صغيرة جديدة تقع في فلسطين وتعتمد على مزيج من العلم الأوروبي الحديث والروحانية الشرقية. وقد اشترى المقيمون اليهود لهذا «الوطن الجديد القديم» الأرض التي قامت عليها دولتهم الجديدة وكرسوا الكثير من وقتهم ومواردهم لمساعدة سكان البلاد، أي العرب الفلسطينيين، على الخروج من العصر المظلم للفقر والجهل والمشاركة في مزايا التنوير الأوروبي.

وهذه المقالة جديرة بالقراءة. ولكن من الصعب رؤية علاقتها ببقية الكتاب. وربما اضيفت لجعل هذا الكتاب الصغير أكبر حجما.

وتلمح المقالة الى أن اليهود كانوا يحاولون جلب الغرب الى زاوية صغيرة من الشرق المظلم، ولكن كان نصيبهم الفشل لأن دوافعهم كانت دينية واثنية وليس الليبرالية والديمقراطية، أي أعظم قيمتين لدى الغرب.

ان ما يجعل هذا الكتاب الصغير الأنيق ذا قيمة كبيرة هو رسالته الجوهرية، كما عبرت عنها السطور التالية: «ان البرجوازية، المادية غالبا، وغير البطولية، وذات الطبيعة المناهضة لليوتوبيا في الحضارة الليبرالية يمكن أن تجعل من الصعب تعريفها... فجمهورية فايمر لم تسقط فقط بسبب الوحشية النازية والحماقة الرجعية والطموحات العسكرية أو الجدالات التي صاغها المنظرون الفاشيون. انها سقطت أيضا بسبب أن عددا قليلا من الناس كانوا مستعدين للدفاع عنها».

وبكلمات اخرى فان الديمقراطية، وهي نتاج غربي أساسا، ربما كانت نظاما ناقصا ولكنه يبقى ليس سيئا، على الأقل، بالنسبة لكل الخيارات المتاحة. وبالتالي فإنها تستحق الدفاع عنها حيثما تكون والكفاح من أجلها حيثما لا تكون.