أي إسرائيل ستتكون في المستقبل القريب؟

الحريدية والصهيونية في دراسة فلسطينية

TT

يأتي كتاب الباحث الفلسطيني نبيه بشير «عودة إلى التاريخ المقدس» محاولة للإسهام في دراسة ما طرأ على المجتمع اليهودي في العقدين الأخيرين من ناحية تعزيز الخطاب الديني والدمج بين المفاهيم والأهداف السياسية والدينية، وتمظهرها بأنماط جديدة متدينة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، تركز على الدور المركزي للأفكار الدينية، وبالتالي تعاظم دور الدين، وليس المقصود ارتفاع نسبة المتدينين، وإنما ازدياد مستوى التدين وشدته، إذ نسبة المتدينين لم تتغير منذ العقد السادس من القرن الماضي حتى الآن، وتبلغ نسبتهم اليوم حوالي 53% ينتمون إلى ثلاثة أنماط: 5% حريديم، 12% متدينون، 35% تقليديون. أما العلمانيون فحوالي 43% والمعادون للدين 5%.

وتتجلى إحدى صور هذا التدين في تعزيز شدة تأثير المعسكر الحريدي (ذلك المجتمع اليهودي المتزمت دينياً في إسرائيل وخارجها) في عملية اتخاذ القرار السياسي بين أروقة البرلمان وفي الحكومة الإسرائيليين، وتبدو بوضوح على صعيد عدد المقاعد في الكنيست، فقد نال المتدينون ستة عشر مقعداً في عام 1949، بينما حصلت الأحزاب الدينية في الكنيست الخامس عشر عام 1999 على سبعة وعشرين مقعداً، تعود إلى ثلاث قوائم متدينة هي شاس وهمفدال ويهدوت هتوراه. جاءت هذه التحولات في المجتمع الإسرائيلي في هذه الحقبة التاريخية من خلال عملية جدلية تتلخص في التعزيز الدائم لإرادة وفعل المجتمع المتدين عموماً، والفئات الحريدية خصوصاً، تحت تأثير آخذ بالتصاعد على المجتمع برمته، علمانيين وتقليديين. تنبع الأهمية الكبرى لهذا الكتاب في كونه يكشف عن أهم سمات المرحلة الجديدة التي ما زلنا في صلب عملية تبلورها والمرشحة لتكون القاعدة التي سيبني عليها المجتمع الحريدي في المستقبل القريب نظرته لدولة إسرائيل ولسياساتها، ومن دون شك ستكون لها إسقاطات كبيرة جداً على جميع الصعد السياسية منها والثقافية حتى القطرية في الشرق الأوسط. وعلى ذلك نشهد ظهور استعداد جديد لدى الفئات الحريدية والمتدينة لاستيعاب التأثيرات المختلفة ذات الثقافة العلمانية الغربية. في هذا الجانب، يتوقع الباحث ظهور تكوين غريب في العقود المقبلة، تجمع بين الحريدية والصهيونية. والحريدية تعني «اليهودية الأرثوذكسية» وهي فرقة دينية يهودية حديثة ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر، وكانت على عداء مع الصهيونية، على أن الحاخامات الأرثوذكس تمكنوا من صهينتها. اليوم نحن أمام حريدية متأثرة بالمجتمع الإسرائيلي وبالصهيونية معاً، كما هو حاصل على أرض الواقع في العقود المنصرمة. ومن جانب آخر، نشهد صهيونية منغمسة بمفاهيم دينية حريدية غريبة عن منشأها، ترفض السياسة الاتحادية المتوافق عليها، أو بلورة سياسة صهيونية جديدة.

يصف الباحث أسس تطور هذا التكوين، ويولي أهمية كبيرة للخلفية التاريخية والثقافية التي ترجع إلى الثورة البروتستانية وحركة التنوير الأوروبية، ولسياق الحريدية الثقافي، لأن العديد من الميزات مدينة لتلك الخلفية وذلك السياق، ولا يمكن لأية دراسة تبحث في تطور مجتمع الحريدية دون العودة إلى السياق التاريخي والثقافي والسياسي الأوروبي الذي نشأت فيه، مما كان له تأثير كبير على تطور وعيها الديني. ولا يمكن استيعابها كظاهرة إلا باستعراض نشوئها وتطور تياراتها المتعددة بأفكارها الدينية والعقِدية والفكرية المختلفة، وتشمل: الحسيدية، الحريدية اليهودية الألمانية، جماعة ملوبافيتش، اليهودية الإصلاحية، اليهودية المحافظة. بالإضافة إلى التنظيمات الحريدية في العصر الحديث (تيار همزراحي، ابراهام يتسحاق هكوك كوك، منظمة أغودات يسرائيل الحريدية، منظمة شباب أغودات يسرائيل، بوعاليه أغودات يسرائيل) كذلك أسباب ظهور العقدية الصهيونية والتعريف ببعض جوانبها والأساس المشتركة بين جميع تياراتها المختلفة.

يتميز المجتمع الحريدي في إسرائيل بعدة خصوصيات تغطي الديني والثقافي والاجتماعي والعقِدي. وتنبع نظرة الحريديم للثقافة من نظرتهم الشاملة والماهوية إلى التراث الديني والكتاب المقدس، المحتوي باعتقادهم على كل علم وثقافة ممكنة، ولا يعتقدون بأن هناك ضرورة للانفتاح على ثقافات الديانات والحضارات الأخرى. بالإضافة إلى اعتقادهم الراسخ بأنه لا يمكن النظر إلى تاريخهم بالرغم من التطورات والمستجدات العصرية إلا من خلال مؤشرات وسمات فوق ـ تاريخية تكمن في صميم التراث الديني المقدس. فعلى الصعيد الديني، يتبنون التفاسير الأكثر مغالاة وصرامة، ويتقيدون بالاختيارات الأكثر تشدداً من ناحية العبادات والتعاليم الدينية، وإن لم يعثروا عليها فإنهم يبدعونها حسب قاعدة (الصرامة والعسر) لا (التسامح واليسر) مما يلزمهم بالانعزال عن اليهود غير المتقيدين بالتعاليم الدينية بحذافيرها. فيما على الصعيد الاجتماعي، يعدون أنفسهم النخبة الاجتماعية والمثال الأعلى الواجب على جميع اليهود الاحتذاء به، رغم أنهم في حقيقة الأمر مجتمع فقير اقتصادياً، منغلق على نفسه اجتماعياً في أماكن سكناه. في حين نلاحظ في مواقفهم العقِدية عدم تضامنهم مع العقِدية الصهيونية، وهم بشكل عام ـ مع التمييز بين عدة تيارات وفئات ـ ما زالوا ينتظرون مجيء المشيّاح (المسيح اليهودي المنتظر) الذي سيأتي ويخلصهم من متاعب الحياة الدنيا ويقيم ويحقق مملكة الرب على الأرض التي ستمتد مملكته إلى السماء، رغم أن هناك قناعات عديدة داخل هذا المجتمع تفسر المشياح ليس بوصفه شخصية بشرية، أو ذات صفات إلهية، وإنما فكرة أو مجاز لحالة التحرر من القيود ومن استعباد الشعوب الأخرى لهم.

وبالنسبة إلى الصهيونية، فهي مرفوضة رفضاً قاطعاً على الصعيد المبدئي رغم محاولات بعضهم التقرب منها، ليس بدافع التضامن مع مُثلها وطموحاتها، وإنما بدافع آني ومادي، حتى إن تيار الصهيونية الدينية لا يرى في تحقيق أهدافها هدفاً بحد ذاته، وإنما أداة يستخدمها من أجل إحقاق خطط الرب الموضوعة مسبقاً منذ الأزل. وتُبرز الحقبة التاريخية الجديدة، الممتدة من مطلع ثلاثينات القرن العشرين وحتى اليوم، بنية مركبة ومعقدة تتسم بعدم الوضوح. كانت فيها تجربة الحريديم داخل المجتمع الإسرائيلي، وقبل ذلك داخل الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل النكبة، ومن خلال تعاملهم مع مؤسسات الدولة، تدفعهم دوماً للتوصل إلى ما يمكن تسميته بالمصالحة مع الصهيونية.

يعرض الباحث تطور الحريدية ويكشف تفاصيل ونقاط تحولاتها التي كان لها أثر بالغ على مستقبل تطور نظرتها للمشروع الصهيوني ونتائجه; ويتوقف عند الاعتقاد المهيمن بين الإسرائيليين، خصوصاً الباحثين والمؤرخين منهم، عندما يؤكدون أن الحريديم كانوا وما زالوا مناهضين للصهيونية ولدولة إسرائيل. ويكشف عن حقيقة أن هذا الاعتقاد غير دقيق على الإطلاق ولا يرتكز إلى معطيات موضوعية ميدانية، بل إنهم كانوا وما زالوا في العديد من المفاصل المركزية يعارضون الجوانب العلمانية في العقيدة والنشاط الصهيوني. كما يكشف عن التحولات في نظرتهم بتياراتهم المختلفة للنشاط الصهيوني منذ البداية، ويتوقف عند أسبابها وشدة تأثيرها وآثارها على السياسة والمجتمع الإسرائيليين. ويعرض لسلوك وأساليب تعاملهم مع الدولة وردود فعلهم على نتائج حرب حزيران، وحقيقة اعتلاء حزب حيروت الحكم عام 1977 واشتراك الأحزاب الحريدية في الائتلاف الحكومي، ومن ثم تعاملهم مع أجهزة الدولة والمجتمع منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، مبيناً أن الائتلاف مكَّن حزب حيروت من الوصول إلى السلطة السياسية، وكان نقطة تحول في غاية الأهمية، ستؤدي مستقبلاً إلى تعزيز قوتهم السياسية وقوة تأثيرهم في عملية صنع القرار. مثلما أدت إلى جانب عوامل أخرى إلى ظهور حركة شاس، حزباً سياسياً وحركة اجتماعية تجمع بين طياتها المحور الشرقي والمحور الديني.

هذه الحقيقة الأخيرة، تكمن أهميتها في السياق الحريدي الصهيوني، كون حركة شاس لا تتردد في التزاحم مع الأحزاب الأخرى على مقاعد الحكومة. ومن ناحية أخرى تحاول أن تتبنى الصهيونية إلى جانب محاولتها تفريغها من مضامينها وركائزها الأساسية ومدها بمضامين أخرى مغايرة كلياً، وأيضاً في دفع المجتمع والأحزاب الحريدية إلى الانخراط أكثر فأكثر في السياسة الإسرائيلية وتعزيز قوة هذه الأحزاب في عملية صنع القرار الإسرائيلي. أخيراً يبدو الكتاب ـ حسب رأي الباحث ـ وكأنه جواب على سؤال طرحه الباحث الإسرائيلي أبيعيزر رفيتسكي في عام 1997 «هل يمكن لحقيقة أن الحريديم عاركوا الصهيونية الهرتسيلية بصرامة في الماضي، ينازعون اليوم حول مسألة طابع دولة إسرائيل، أن تشير إلى إخفاق الصهيونية أم إلى نجاح تاريخي لها؟!» يتلخص الجواب في أن الحركة الصهيونية رغم أنها خلقت واقعاً ومنظومة عقديين، لكنها لا تستطيع فرض تصوراتها ومنطلقاتها على جميع الفئات والمجموعات الاثنية والطائفية اليهودية، وان جميع هؤلاء يتعاملون مع هذا الواقع من خلال منطلقاتهم وغاياتهم ومصالحهم الذاتية من دون الالتزام بالمعاني والتصورات التي جاءت بها الحركة الصهيونية.