كيف ساهم صندوق النقد الدولي في صناعة أزمات العالم الثالث

شهادات اقتصادية لاستجليتز الحائز نوبل للاقتصاد ورئيس مجلس الاستشاريين في عهد كلينتون

TT

هذا الكتاب هو بمثابة شهادة تنطوي على درجة كبيرة من الأهمية يرويها لنا المفكر الاقتصادي الأميركي جوزيف استجليتز رئيس مجلس الاستشاريين الاقتصاديين الأميركي في فترة رئاسة بل كلينتون وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي. فقد رأى وعاصر، وهو يشغل هذين الموقعين، كيف تصاغ السياسات المالية والاقتصادية وكيف أدت هذه السياسات إلى الكثير من المآسي التي تعرض لها فقراء العالم الثالث بسبب إصرار العاملين في تلك المؤسسات على آليات عمل تبنى على أسس أيديولوجية وسياسية تتفق مع مصالح أو قناعات أصحاب السلطة في تلك المراكز الدولية.

ويرى استجليتز في كتابه أن تلك السياسات ما زالت تؤمن أن السوق يصل تلقائيا إلى اكثر النتائج فاعلية عندما تنفض يد الدولة عن التدخل لصالح الفقراء وتقوم بتخفيض أو إلغاء ما يقدم من دعم للسلع والخدمات الضرورية من صحة وتعليم ومسكن، وهذه السياسات التي يصر على تطبيقها البنك الدولي في الدول التي تلجأ إليه طلبا لمعونته حسب تعبير استجليتز تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة في عالم اليوم لادارة دفة العولمة.

ويذكر العالم الأميركي الحاصل على جائزة نوبل عام 2001 في كتابه الذي يصدر قريبا بعنوان «ضحايا العولمة» عن دار ميريت بالقاهرة بترجمة لبنى الريدي، أن صندوق النقد الدولي لا يريد أن يقتنع أن الاعتماد على قوي السوق ليس دائما هو الحل الأمثل ولا يريد أن يعترف أن هناك حالات كثيرة تستوجب تدخل الدولة لاصلاح ما أفسده السوق ولسد الثغرات التي خلقها. ويشير جوزيف استجليتز الى أن الخصخصة ـ رغم انه من مؤيديها ـ قد تؤدي في بعض الحالات خصوصا عندما تباع مشروعات القطاع العام للأجانب إلى أضرار جسيمة للاقتصاد الوطني، كما ان الانتقال من نظام التخطيط وتوجيه الدولة لاقتصادها إلى نظام السوق يجب أن يتم بحذر وببطء وإلا دفعت الدولة ثمنا باهظا في صورة انخفاض شديد في معدل النمو وزيادة نسبة فقرائها وارتفاع معدل البطالة وشيوع الفساد، وهو ما حدث في روسيا وفي بعض بلدان الاتحاد السوفيتي السابق نتيجة تطبيق نصائح الصندوق الذي أوصى تلك الدول بسياسة العلاج بالصدمة والانتقال مباشرة إلى نظام السوق دون تدرج أو حذر.

وقد نجت الصين من هذا المصير بسبب التزامها بالانتقال إلى نظام الاقتصاد الحر بطريقة تدريجية جنبتها الكثير من الأزمات التي عانت منها غيرها من البلدان في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.

لعبة صندوق النقد الدولي استجليتز يلقي اللوم على صندوق النقد الدولي فيما حدث لهذه البلدان ويرى زيادة على ذلك أن الصندوق مسؤول عن حالات الفشل في أنحاء كثيرة من العالم مشيرا إلى أخطاء فادحة وقعت أثرت بشكل مرير على الفقراء بسبب سياسات الصندوق القديمة البالية. ويذكر مؤلف الكتاب انه كان دائما مهتما بالتنمية الاقتصادية وان ما رآه في فترة عمله ضمن مجموعة مكونة من ثلاثة خبراء يشكلون مجلس المستشارين الاقتصاديين التابع للرئيس كلينتون مهمته تقديم الاستشارات الاقتصادية لمؤسسات السلطة التنفيذية الأميركية منذ عام 1993 وحتى 1997، غير أفكاره بشكل جذري في كل من العولمة والتنمية. وقد تحقق أثناء عمله من الأثر المدمر الذي يمكن أن يكون للعولمة على البلدان النامية وفقرائها مؤكدا أن فائدة العولمة وقدرتها على إثراء كل سكان الكرة الأرضية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تمت مراجعة الطريقة التي تدار بها كلية، خاصة الاتفاقيات التجارية الدولية التي لعبت دورا كبيرا في إلغاء الحواجز التجارية والسياسات التي فرضت على دول العالم الثالث في إطار عملية العولمة. وعلى ذلك يجب ان يتم تناول المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها شعوب تلك الدول دون تحيز وانفعال وذلك بترك الأيديولوجيا جانبا وفحص الوقائع الخاصة بكل دولة لتحديد افضل قرار يتعين على المسؤولين بها اتخاذه. إنه يرى أن القرارات والسياسات المالية عندما تتم على أسس أيديولوجية وسياسية تؤدي دائما الى مبادرات ناقصة عاجزة تماما عن حل المشكلات التي تعاني منها الشعوب الفقيرة وهذا العجز سببه مراعاة تلك المبادرات لمصالح وقناعات أصحاب السلطة ودعا جوزيف استجليتز الباحثين الاقتصاديين وراسمي السياسات المالية في المؤسسات المالية الدولية إلى التطرف كعلماء وان يقيموا دورا علميا مبنيا على الوقائع والأرقام عندما يتصدون للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، لكنه عاد وأشار إلى أن الباحثين عندما يضعون التوصيات يصبحون مسيسين ويلوون الحقائق لتناسب أفكار المسؤولين.

وتحدث المفكر الأميركي عن مسيرته البحثية في المجالات الاقتصادية، مشيرا إلى أنها توزعت بين الاقتصاد الرياضي البحت الذي ساهم بجهد كبير في تطوير احد فروعه والذي يسمى بـ «اقتصاد المعلومات»، كما ساهم بجهد ملحوظ في بعض مجالات الاقتصاد التطبيقي، خاصة القطاع العام والتنمية والسياسة المالية. لقد أمضى، كما يقول، 25 عاما يكتب عن الإفلاس وقيادة الشركات والانفتاح والوصول إلى المعلومات، كما شارك في مناقشات بشأن تحول الاقتصاديات الشيوعية إلى اقتصاد السوق. وقد ساند بقوة سياسات التحول التدريجي إلى نظام السوق في الصين وانتقد بشدة الاستراتيجيات المعاكسة لها في روسيا وبعض بلدان أوروبا الشرقية. إن السياسات التي كان ينادي بها في البنك الدولي والبيت الأبيض كانت مرتبطة بعمله السابق في مجال الاقتصاد وانصبت على بحث الأسباب التي تجعل الأسواق لا تعمل بالشكل المثالي، بالإضافة إلى دراسة حالات عدم تماثل المعلومات من اجل وضع قواعد لنظريات اكثر واقعية لسوق العمل والأسواق المالية وبحث أسباب تفاقم البطالة. وذكر استجليتز أن الوصفات التي توصل إليها بعد دراساته كانت واضحة تمام الوضوح لكنها مع ذلك كانت دائما ما تصطدم مع الوصفات التي يصر عليها صندوق النقد الدولي والتي تعتمد جزئيا على فرضية تجاوزها الزمن، إذ يرى أن السوق يصل بصورة تلقائية إلى اكثر النتائج فاعلية ولا داعي لأي تدخل من قبل الحكومات لضبط الإيقاع في الأسواق.

ويشير استجليتز إلى أن خلافاته مع صندوق النقد الدولي حول الأفكار والمفاهيم الخاصة بدور الحكومة ودورها في الاقتصاد قادته إلى فكرة مركزية حول إصلاح المؤسسات الدولية وتخليصها من «النفاق» الذي تعاني منه. وقد خص بحديثه وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد الدولي مشيرا إلى أن الأولى رغم مطالبها الدائمة بالشفافية، حين يكون الحديث عن أزمات مالية عالمية، إلا أنها تعتبر اكثر المؤسسات العالمية افتقادا للشفافية. وقال المؤلف الأميركي انه لهذا يصر بشدة عند مناقشة الإصلاح على ضرورة زيادة شفافية هذه المؤسسات واعلام المواطنين بما تقوم به ومنح حكوماتهم إمكانية التدخل بدرجة كبيرة في صياغة القرارات والسياسات المالية والاقتصادية الخاصة ببلادهم، فالحكومات والأسواق من وجهة نظره لا بد أن تكون العلاقة بينهما تكاملية تعتمد على الشراكة فالحكومة يجب أن تضطلع بدور هام بالنسبة لقضايا عدم المساواة والبطالة والتلوث.

ووصف جوزيف استجليتز العمل في البنك الدولي وعملية اتخاذ القرارات فيه بأنها تعتمد على خليط غريب من الأيديولوجيا والاقتصاد الرديء، وهي عقيدة تخفي وراءها مصالح خاصة فعندما كانت الأزمات تضرب بلدا ما كان الصندوق يصف حلولا قديمة وغير ملائمة دون أن يأخذ في الاعتبار الآثار التي تنتج عنها وتؤثر سلبيا على حياة تلك الشعوب.

وقد أدى هذا طبقا لوجهة نظر استجليتز إلى أن حالات فشل الصندوق في حل مشكلات البلدان النامية كانت دائما ما تزيد على حالات نجاحه وقد أنتجت سياسات الصندوق الخاصة بالتكيف الهيكلي لمواجهة الأزمات وحالات عدم التوازن المزمنة في اقتصادياتها الدولية التي طلبت مساعدة الصندوق العديد من حالات الهياج الشعبي والمجاعات فيها، وكانت المزايا تذهب فقط إلى الأثرياء فيها بينما يزداد الفقراء فقرا.

العولمة والنموذج الأميركي

* واشار استجليتز الى أن من يحطون من قدر العولمة غالبا ما يغفلون مكاسبها لكن موقف أنصارها غير متوازن بدرجة كبيرة، فالعولمة بالنسبة للفريق الثاني هي المرتبطة بالنموذج المنتصر الأميركي الطراز، ويجب على البلدان النامية القبول بها أن كانوا يريدون محاربة الفقر والنمو. لكن هذه العولمة في كثير من دول العالم النامي لم تجلب المكاسب الاقتصادية التي وعدت بها وأدت إلى زيادة الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون ولم تنجح العولمة في تخفيف الفقر كما لم تنجح في تأمين الاستقرار لان الدول التي تخلت عن الاشتراكية في أفريقيا مثلا وتدبرت أمرها لتشكيل حكومات نزيهة بدرجة معقولة، ووازنت ميزانياتها واحتفظت بالتضخم عند مستوى منخفض وجدت أنها ببساطة لا تستطيع جذب الاستثمار، وهي بدونه لا تستطيع أن تحقق نموا ثابتا لها. وقد جلب اقتصاد السوق مثلا لروسيا واغلب دول الاتحاد السوفيتي بدلا من الرخاء الذي وعد به صندوق النقد الدولي فقرا غير مسبوق، وقد اثبت هذا الاقتصاد الذي نصحهم به الصندوق انه أسوأ مما تنبأ به الزعماء الشيوعيون في تلك البلدان. ودلل استجليتز على ذلك بإجمالي الناتج المحلي للصين عام 1990، الذي كان لا يمثل سوى 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في روسيا، لكن هذه الصورة انعكست في نهاية عقد التسعينات. حيث شهدت روسيا زيادة غير مسبوقة في الفقر بينما حققت الصين انخفاضا كبيرا في الفقر لديها، بسبب أن الثانية نفذت برنامج تحول اقتصادي صممته بنفسها وطبقا لظروفها بينما خضعت روسيا لبرنامج صممه صندوق النقد الدولي وكان سببا فيما تعرضت له من أزمات.

ووصف جوزيف استجليتز البلدان الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأميركية بالنفاق لأنها تطالب الدول النامية بإلغاء الحواجز أمام منتجاتها بينما تحرم تلك الدول من تصدير منتجاتها الزراعية إليها، وبذلك تفتقد دخلا هي في اشد الحاجة إليه، وقال انه دخل صراعا أثناء عمله في البيت الأبيض من اجل محاربة هذا النفاق لكنه لم ينجح بسبب تحكم المصالح الخاصة التجارية والمالية في القرارات.

وذكر أن الغرب هو الذي قاد العولمة واجندتها لضمان تكديس نصيب غير متكافئ من المكاسب على حساب العالم النامي بما قام به من سياسات تمثلت في عدم فتح أسواق أمام منتجات العالم الثالث، ولم يكتف بذلك بل قام بدعم منتجاته وخاصة السلع الزراعية في مواجهة المنتجات القادمة لبلدانه من الخارج وهو ما جعل الدول النامية غير قادرة على المنافسة.

ويشير جوزيف استجليتز الى وجود تحولات عكسية في الأهداف والوظائف التي أنشئت من اجلها المؤسسات المالية الدولية، كما يشير إلى وجود مؤسسات أخرى تدعو إلى ضبط الإيقاع الاقتصادي والمالي لهذه المؤسسات الدولية التي جنحت عن دورها وراحت تقوم بدور مخالف يحقق نتائج عكسية لما ينبغي أن يحققه من أهداف، كما تحدث استجليتز عن قوانين غير عادلة تحكم تجارة العالم وتؤدي إلى أضرار كثيرة وفي نهاية كتابه يحاول استجليتز ان يرسم ملامح المستقبل عن طريق إجراءات يراها ضرورية من اجل تحقيق مستقبل افضل للعالم كله ومن هذه الإجراءات إصلاح صندوق النقد الدولي والنظام المالي العالمي والحاجة إلى مؤسسات دولية عامة يكون فيها العمل الجماعي مرغوبا واعتماد الشفافية كأسلوب عمل ضروري من اجل علاج المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها سكان العالم.

وطالب جوزيف استجليتز المؤسسات المالية الدولية بالاعتراف بأخطار تحرير سوق رأس المال وعدم مقاومة تدخلات الحكومات لاصلاح اختلالات السوق، كما دعا إلى تعديل التشريع الخاص بالإفلاس بحيث يعترف بالطبيعة الخاصة كحالات الإفلاس الناجمة عن اضطرابات الاقتصاد الجمعي ما يؤدي إلى دفع الدائنين إلى مزيد من الاتفاق المهني بدلا من تشجيع الاقتراض المتهور. كما أشار إلى ضرورة تحسين تنظيم وضبط العمل المصرفي في البلدان المتقدمة والنامية وتحسين إدارة المخاطر في مواجهة التقلب السريع لاسعار الصرف ودعا إلى تحمل الدائنين مخاطر التقلبات الكبيرة في أسعار الفائدة وتحسين شبكات الأمان بما يؤدي إلى زيادة قدرات الجماعات الأكثر عرضة للضرر على مواجهة المخاطر وتحسين رد الفعل الدولي في مواجهة الأزمات وعودة صندوق النقد الدولي إلى تقديم الأموال للبلدان التي تواجه ركودا اقتصاديا وطالب الخبير الأميركي المؤسسات المالية الدولية بإلغاء الديون التي منحها الصندوق والبنك الدولي إلى زعماء فاسدين مثل موبوتو رئيس زائير الكونغو الديمقراطية حاليا لأنها ذهبت إلى إثرائه ولضمان أن تبقى بلاده خلال سنوات الحرب الباردة موالية للغرب ويقول استجليتز انه ليس من العدل أن يتحمل مواطنو الشعوب قروضا منحت لزعمائهم الفاسدين الذين لم يقوموا بدور في خدمتهم بل كان يعملون دائما على خدمة مصالحهم الشخصية.

وطالب جوزيف استجليتز الدول النامية بأن تتحمل بنفسها مسؤولية تحقيق الخير لنفسها، لافتا إلى أن ذلك لن يتم إلا عن طريق حكومات فعالة وسلطات قضائية ومستقلة ونظم ديمقراطية وانفتاح وشفافية، والقضاء على الفساد الذي خنق القطاع العام، كما خنق نمو القطاع الخاص، كما طالب بسياسات نمو دائمة تؤدي إلى تحسين حياة الفقراء وتحويل المجتمعات، ومنح الأشخاص فرص النجاح والحصول على الرعاية والتعليم، بدلا من مساعدة حفنة من الناس على الإثراء وإنشاء صناعات لا تفيد سوى الصفوة في تلك البلدان.