حينما يجهل الناقد موضوعه.. سفر الحوالي في نقد الحداثة نموذجا

انطلق من ربط مسار الحداثة الغربية بالحقد على الإسلام.. وهذا تسطيح للتاريخ

TT

يقدم لنا الشيخ السعودي سفر الحوالي في كتابه «مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة» قراءة متكاملة، لا ينقصها إلا أنها حافلة بالإدعاء والتبسيط الشديد لمسار الفكر الغربي منذ اعتناق أوروبا للمسيحية في القرن الرابع الميلادي إلى عصر ما بعد الحداثة الراهن! يقوم «منهج» الحوالي على منطلقات أربعة هشة، تنم عن قصور جلي في الإطلاع على النصوص الفلسفية الغربية، التي يورد بعض الشذرات المقتضبة منها مفتكة من خارج سياقها، بالرجوع في الغالب إلى بعض المصادر الثانوية المشكوك فيها علميا، مع إصدار أحكام تثير استهجان من له اهتمام بالشأن الفلسفي. وهذه المنطلقات هي:

1 ـ رد واختزال الفكر الأوروبي إلى الخلفية الدينية الصليبية الحاقدة على الإسلام، مع الشكوى في الآن نفسه من عدميته ونأيه عن الدين.

2 ـ النظر إلى مسار الفلسفة الغربية والثورات الفكرية والسياسية التي عرفتها أوروبا باعتبارها من مؤامرات اليهود وخبثهم.

3 ـ اعتبار حركة الحداثة في عمقها ديناميكية خروج على الدين وعداء له، ومن ثم نعت التيار الحداثي العربي بالنعوت نفسها.

4 ـ النظر إلى الحضارة الغربية المعاصرة بصفتها خواء وعدما آيلا للسقوط والانهيار. والواقع إن هذه المنطلقات ليست بالجديدة في ذاتها، بل هي التي قامت عليها كتابات محمد قطب في الستينات والسبعينات، وكان من المفترض أن يكون قد تجاوزها الفكر الإسلامي وأدرك ثغرات ونقاط ضعفها; وقد زاد عليها الشيخ الحوالي بحديثه المستفيض عن البنيوية، الذي لا يخلو من خلفية سجالية محلية (هاجس الصدام مع التيار الحداثي النشط في مجال النقد الأدبي).

ولا بد من تقديم بعض الملاحظات المقتضبة على هذه الخلفية المنهجية، قبل الكشف عن جانب من الثغرات الكثيرة في المعلومات التي قدمها على مسار الحداثة الأوروبية.

* الفكر الغربي والدين

* يلاحظ بوضوح أن الحوالي ينعت الفكر الأوروبي بنعتين متعارضين، فهو من جهة أثر من آثار النزعة الصليبية المعادية للإسلام، وهو من جهة أخرى إلحاد ومروق من الدين.

ولا بد من التنبيه إن حركة الحداثة الأوروبية لم تكن منذ انطلاقها في عصر النهضة حركة معادية للدين، بقدر ما إنها لم تكن ذات مضمون صليبي معاد للدين (الإسلامي). فعلاقة الحداثة بالدين معقدة تتنزل في ثلاثة مستويات متمايزة:

ـ الخروج على اللاهوت الوسيط الذي هو حصيلة المزج بين المقولات الأرسطية والتيولوجيا المدرسية، من منطلق أفق تأويلي جديد (جوهر حركة الإصلاح الديني).

ـ الخروج على التأسيس الديني للمشروعية السياسية والمدنية بإلغاء عقد الائتلاف بين المؤسسة الكنسية والدولة، وتعويض هذه المشروعية بمبدأ الإرادة الفردية الحرة المطلقة. (جوهر التصورات العلمانية).

ـ بقاء الدين (المسيحي) أفق الدلالة الأساسي ومعين القيم السلوكية والاجتماعية حتى ولو تنوعت آليات وطرق استثماره.

فبقدر ما أن المبدأين الأولين ليسا في نهاية المطاف هدما للدين وإنما لنمط من ممارسة الدين، فإن المبدأ الثالث يكشف عن العلاقة الملتبسة والمعقدة بالمرجعية الدينية التي وإن أزيحت من حقل السلطة، إلا إنها على عكس ما يتوهم الكثيرون لا تزال فاعلة مؤثرة في المسارات الفكرية والعقدية والقيمية حتى اليوم، بل أن بعض الباحثين الجادين، من نوع مارسيل غوشيه وجاني فايتمو، يذهبون إلى تبيان أن مفهوم العلمانية متضمن في صلب العقيدة المسيحية ذاتها من حيث تكريسها لمبدأ الإيمان الفردي في مقابل الديانات الوثنية القومية. وليس من الصحيح أن الفلاسفة منذ ديكارت حتى نيتشه، كانوا ملاحدة ورافضين للدين، بل العكس هو الأصح. فديكارت هو الذي بنى كل منهجه على فكرة الضمان الإلهي لتطابق الفكر والطبيعة الذي تقتضيه الحقائق العلمية نفسها. وتلميذه لايبنز، بنى كل نسقه الرياضي المحكم على الفكرة ذاتها. أما اسبينوزا، الذي ينعته الحوالي بداعية «وحدة الوجود»، فتقوم نظريته كلها على الكشف عن البُعد الإنساني القيمي في الدين. ولم يكن فولتير محاربا للدين في ذاته وإنما للمؤسسة الدينية في عصره. أما كانط، فلا يتجاوز مشروعه كما يؤكد في كتاباته كلها «إعادة بناء الميتافيزيقا» في ضوء علم عصره، ونظريته في العقل العملي مبنية على مسبقات الدين التي لا سبيل لتصور أخلاق بدونها. أما هيغل فمشروعه يتمثل في تجسيد المضامين الدينية المطلقة في التاريخ الموضوعي من خلال الدولة بصفتها وحدة روحية كاملة.

وحتى نيتشه نفسه لم يكن، إلا لمن يقرأه قراءة سطحية ساذجة، معاديا للدين، بل هو أكثر الفلاسفة المعاصرين، كما بين قراء العديد من المختصين فيه، تجذرا في الأرضية الدينية. ولا يزال للدين دور مكين في المقاييس الفلسفية المعاصرة، سواء كمصدر إيحاء مباشر كما هو بارز في كتابات ياسبرز ولفيناس وريكور وميشال هنري، أو مصدر استكناه وتساؤل وتأثر غير مباشر، كما هو بارز في كتابات هايدغر وغادامير ودريدا.

ومن الخطأ الجلي القول إن هذا المسار النظري كان موجها بالحقد على الإسلام، بل لا نجد لدى أي من كبار المفكرين والفلاسفة الأوروبيين إشارة هجوم على الإسلام، باعتبار أن العلاقة بالحضارة الإسلامية لم تكن حاسمة في ديناميكية هذا الفكر الداخلية إلا في مسالك الربط بين التراث اليوناني والحداثة، التي أدى فيها علماء الإسلام في العصر الوسيط دورا أساسيا، حتى ولو كان من التبسيط الشديد إرجاع حركية الحداثة إلى هذا التأثير الديني الذي لا غبار عليه.

* هل الحداثة مؤامرة يهودية؟

* من الخرافات المثيرة التي يتضح لها كتاب الشيخ الحوالي ترديد الأطروحة التي بنى عليها محمد قطب قراءته للفكر الأوروبي الحديث، وهي إرجاع كل التحولات المعرفية والمجتمعية الكبرى التي عرفها الغرب إلى ألاعيب اليهود ومؤامراتهم.

ومن الواضح إن هذا الحكم متهافت. ويتجلى هذا التهافت في اعتبار أساسي هو هامشية تأثير الثقافة اليهودية كمرجعية نصية وعقدية لأسباب بديهية ذات صلة بالقطيعة بين اليهودية والمسيحية، والعزلة التي كانت إلى عهد قريب مضروبة على الجاليات اليهودية في أوروبا. فلئن كان مفكرون من أصول يهود أثروا في الفكر الأوروبي، فهذا التأثير ليس عائدا إلى أصولهم الدينية، بل إلى اندماجهم في إشكالات عصرهم ومناخهم الفكري الذي عكسوه وعبروا عنه، وليس إلى ما يخولهم صاحبنا من قدرات سحرية خارقة للتلاعب بالعقول والألباب. فليس ماركس وفرويد ودوركايم وليفي شتراوس ودريدا مفكرين معزولين مبتدعين، بل لا يمكن قراءة وتأويل أعمالهم إلا ضمن مسار فكري متكامل يلتقون فيه مع مفكرين آخرين مهدوا لهم وأثروا فيهم وتداخلت آثارهم مع كتاباتهم وأفكارهم، وهؤلاء المفكرون ليسوا يهودا.بل إن هؤلاء الفلاسفة الذين يذكرهم سفر الحوالي خارجون عن التقاليد الدينية اليهودية، ولا علاقة لهم مباشرة بها. ففكر ماركس مثلا لا سبيل لفهمه بدون ربطه بأصوله الهيغلية، ولم يكن هيغل يهوديا بل كان مناوئًا لليهود، ناقما عليهم في كتاباته. وماركس يقر بوضوح إنه لم يفعل سوى قلب الجدلية الهيغلية وتحويلها من السمة المثالية (تطابق حركة التاريخ والعقل) إلى السمة المادية الواقعية (حركة التاريخ بصفتها صراع طبقات قوامه علاقات الإنتاج الاقتصادية).

ماركس وهيغل يصدران عن الهم ذاته، ويعكسان المناخ الفكري نفسه، أي أفق التاريخانية، ويتعاملان مع الإشكال المجتمعي الذي طرح في القرن التاسع عشر، وهو العلاقة الجديدة بين حقل الدولة ودائرة المجتمع المدني من حيث هي إطار فاعلية الذات الحرة، وآثر قسمة العمل الناتجة عن الثورة الصناعية.

ليس إذن لليهودية كديانة وتقاليد أي أثر في فكر ماركس، الذي لم يكن يخفي عزوفه عن الدين ونبذه للتعصب للطائفية والقومية.

وكذلك الشأن بالنسبة لفرويد الذي يندرج مشروعه لبناء علم للنفس الإنسانية في سياق التحول الابستمولوجي النوعي الذي دشنته المدرسة الوضعية، أي فكرة تمديد إطار المعقولية العلمية إلى الظواهر الإنسانية بحسب نموذج العلوم الطبيعية الدقيقة.

ولم يكن فرويد متعصبا لليهودية دينا وقومية، بل إن كتابه «موسى والتوحيد» يشكل نقدا عميقا للتراث اليهودي، وتشكيكا في أصوله ومعتقداته.

ولا يشذ دوركايم عن هذا المناخ الابستمولوجي نفسه، في محاولته بناء علم موضوعي دقيق يصوغ فيه قوانين الظاهرة الاجتماعية، فأين اليهودية من هذا التصور وهذا المسلك المنهجي؟

أما كلود ليفي شتراوس، مؤسس الانتربولوجيا البنيوية، فلا يتسنى فهم فكره خارج التقليد الانتربولوجي الذي يشكل امتدادا له من منظور الثورة اللسانية التي فجرتها لسانيات دسوسير بنظريتها حول العلامة اللغوية التي مهدت لنشأة علم متكامل للدلالة.

وليس لأصول ليفي شتراوس اليهودية أثر في هذا التحول المعرفي المنهجي، وقد عرف الرجل بدفاعه عن التنوع الثقافي وإيمانه بوحدة وتكافؤ الأصول الرمزية للحضارات البشرية (راجع كتاب «الفكر المتوحش»).

وكذا الشأن بالنسبة لدريدا، الذي يندرج فكره في تيار نظري واسع، يطلق عليه ببعض التجاوز «تيار ما بعد الحداثة»، وهو التيار الذي فلت من السور الهيغلي، وسعى إلى الخروج من ديناميكية التنوير والحداثة بنقد ذاتية الوعي والنزعة الإنسانية الشارعة. وإلى هذا التيار الذي ارتبط بفيلسوفين عرف أحدهما بعدائه الهستيري لليهودية (نيتشه)، واتهم الآخر بالنزوع النازي (هايدغر)، ينتمي عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين ليسوا من أصول يهودية، فأين إذن مؤامرات اليهود وألاعيبهم السحرية؟! من الواضح إن الشيخ الحوالي لا يستند في قراءته للفكر الأوروبي إلى أعمال المفكرين والفلاسفة الأوربيين، بل إلى «بروتوكولات حكماء صهيون»، وما تضمنته من ترهات حول دور اليهود في الثورتين الفرنسية والبلشفية، وتحكمهم في العالم.

* الحداثة والدين

* لا يفتأ الشيخ الحوالي في كتابه «مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة» يكرر الفتاوى والأحكام المنددة بحركية الحداثة في أصولها الغربية وحضورها العربي، بصفتها خروجا على الدين وزندقة والحادا. وحتى الأشكال الأدبية من إبداع شعري وروائي لم تسلم من هذه الأحكام ، وكأن الشعر العمودي ونحو سيبويه من أصول الدين وثوابته.

والواقع إن مفهوم الحداثة، الذي هو محور الكتاب، لم يخضع لأي تحديد نظري دقيق، وإنما اختزل في ما يعتبره الشيخ الحوالي مسارا إلحاديا مناوئا للدين ومتنكرا لقيمه السلوكية والخلقية. وينم هذا الحكم عن تبسيط شديد وجهل حقيقي بديناميكية الفكر الغربي الحديث. صحيح إن الممارسة الدينية تراجعت في البلدان الغربية إلى حد بعيد (باستثناء الولايات المتحدة الأميركية)، بيد إن الظاهرة الإيمانية لم تتقلص أو تتراجع وإنما اتخذت مسارب ومسالك أخرى، كما بينت الدراسات الاجتماعية المعاصرة، ومن آخرها أعمال روجيس دوبريه ومشال نوار ومارسيل غوشيه.

فإذا كانت المؤسسة الدينية قد ترهلت ومسها الوهن والضعف ولم تعد تتحكم في وعي الناس وخياراتهم السياسية والمجتمعية، إلا أن المقدس لا يزال حاضرا في أساس اللحمة الاجتماعية وأرضية التنشئة القيمية. فحتى العلمانية ذاتها هي فكرة ذات مرجعية دينية، كما يبين غوشيه، الذي يربطها بالديانات التوحيدية التي تقتضي تنزيه الربوية عن شوائب الدنيا وتلغى ضرورة تقديس الحاكم ومبدأ الدولة المقدسة.

أما مثل التنوير المتولدة عن عقلانية الوعي والنزعة الإنسانية، فهي في الصميم ترجمة لحركة إصلاح ديني عميق كان من رواده ديكارت وكانط وروسو.

وكما يبين هايدغر، فإن مفهوم العقل بصفته «رأسويا»، أي عقلا تعليليا قائما على نظام الأفكار في علاقتها بالطبيعة، هو مفهوم ذو خلفية لاهوتية مسيحية.

ويذهب الفيلسوف الإيطالي المعاصر، جاني فايتمو، إلى أن فكر ما بعد الحداثة الذي ينعته الحوالي بالعدمية العبثية والخواء، أقرب لروح الديانة المسيحية وأكثر تعبيرا عنها من الميتافيزيقا الوسيطة أو العقلانية الحدثية اللتين تقومان على النظرة الانطولوجية، أي الإيمان بتطابق العقل والوجود، وهي فكرة تصطدم في نهاية التحليل بالمعتقد الديني.

وإن خالفنا فايتمو الرأي، إلا أن أطروحته تكشف عن حضور المقاييس الدينية حتى لدى أكثر الفلاسفة حداثة.

ومن المثير حقا محاكمة الحوالي للتيار الحداثي العربي لتطبيقه بعض الأدوات المنهجية المعاصرة على النصوص التراثية، متجاهلا كون علماء الإسلام الأوائل سلكوا المنهج ذاته، فلم يكن لمنطق أرسطو أو علوم البلاغة والبيان مشروعية نصية أكثر من بنيوية ليفي شتراوس ولسانيات تشومسكي وحفريات فوكو. فالموقف الرافض للاستئناس بأدوات المناهج المعاصرة في قراءة وتأويل النصوص المرجعية للثقافة الإسلامية، يؤدي إلى أحد أمرين:

ـ إدعاء القدرة على التماهي مع المعاني الأصلية الحقيقية والنهائية للنصوص، وهو موقف هش معرفيا بالنظر إلى الطابع الاختلافي واقعا وعقلا لكل ممارسة تأويلية، وخطير عقديا لما يتضمنه من ادعاء القدرة على الإحاطة بغايات ومرامي الكلام الإلهي.

ـ إضفاء القداسة على أدوات وآليات معرفية ومنهجية بعينها لم ير فيها القدماء أنفسهم سوى «علوم آلة» خادمة للنص، ولم يتفقوا على شروط وأبعاد استخدامها.

وما لم يعه «شيخنا» الحوالي هو إن مدار تطبيق هذه المناهج والأدوات المعرفية ليس النص في ذاته، وإنما أنماط التلقي البشري التي لا قداسه ولا عصمة لها. فليس ثمة علاقة مباشرة بالنص، بل لا بد لعملية التأويل من وسائط عديدة يعود بعضها إلى الخلفية الثقافية والبعض الآخر لمعطيات الواقع، وتدخل فيها اعتبارات النظام المعرفي الذي يضع ضوابط الفهم ويحدد إمكاناته وهوامشه، فكيف إذا تعلق الأمر بنصوص تطبعها الإشارة والإيحاء والاستعارة، وهي بذا «حمالة أوجه»، خرجت من عباءتها مئات الفرق والمذاهب والطوائف التي لا يمكن تقويمها آليا من منطلقات جزئية غير موضوعية، والأمثلة كثيرة على نجاح مفكرين معاصرين في تطبيق أدوات المناهج المعاصرة على النصوص الدينية والتراثية بدون السقوط في مذمة نزع القداسة عن النص والتنكر للدين. فهذا مثلا المفكر المغربي طه عبد الرحمن يدافع عن النظريات الكلامية الأشعرية بأحدث عدة منطقية ولسانية، ومثله عديد من الباحثين لم يجدوا تناقضا لا عقديا ولا علميا في إخضاع النصوص التراثية إلى هي تجليات تلقى النصوص المؤسسة (القرآن الكريم والسنّة المطهرة) كمسالك التأويل المعاصرة. بل لا بد من الإشارة هنا إلى أن الخروج عن قواعد وشروط الرهان التأويلي للعصر ممتنع في نهاية المطاف، والدليل على ذلك الحضور غير الواعي لمفاهيم ومثل الحداثة في كتاب الحوالي، الذي أراد تصفية الحساب معها.

فالرؤية الوضعية حاضرة في تبنيه للمقاييس العلمية وافتخاره بأن المسلمين اكتشفوا قبل الأوروبيين المنهج التجريبي بدون إدراك للخلفيات النظرية والايديولوجية للرؤية التجريبية نفسها التي اعتبرها هايدغر «الرؤية الميتافيزيقية للعصور الحديثة»، ونظر إليها هابرماس بصفتها «ايديولوجيا السلطة التقنية».

ولا نخال الحوالي يرفض مبدأ الديمقراطية أو حقوق الإنسان وغيرها من مثل ومكاسب التنوير والحداثة، حتى ولو أراد صبغها بصفة إسلامية خالصة، على غرار من بشر في الستينات في أوج المد اليساري، باشتراكية الإسلام، ومن يجهد في البحث عن النظريات والقوانين العلمية في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة لتثبيت وتدعيم إيمان الشباب.

* العلاقة بالحداثة الغربية

* ليس من همنا إفاضة القول في هذه الإشكالية الملتبسة الموروثة عن القرن التاسع عشر، وإنما حسبنا استعراض مقاربتها في كتاب الحوالي، التي تقوم على فكرتين أساسيتين مترابطتين:

ـ إن الحداثة الغربية فاسدة ومهترئة ومصيرها السقوط والانحدار.

ـ لا سبيل للالتقاء مع هذه الحداثة التي تقوم على تصور احادي مناوئ للإسلام ولرؤيته للوجود والمجتمع والدولة.

ونجد الفكرتين حاضرتين بقوة في كتابات محمد قطب (شقيق سيد قطب)، الذي تحدث عن جاهلية القرن العشرين، واستند إلى بعض الكتابات الأدبية والفكرية الأوروبية المتشائمة حول مصير الحضارة الغربية، متوقعا سقوطها الوشيك، كما إنه تبنى خيار العزلة الشعورية والمعرفية إزاء «الغزو الثقافي الغربي» من منطلق القطيعة الوجودية والمعرفية بين الإسلام والحداثة الغربية. وتقوم على هذه المقارنة على اختلالات وثغرات جلية، وتنم عن تجاهل حقيقي لديناميكية الحداثة الغربية، التي من أبرز خصائصها القدرة على المراجعة الذاتية والنقد الداخلي المستمر.

ومع إن العزلة عن الحداثة الغربية والقطيعة معها غير ممكنة عمليا، فإن الدفاع عن هذا الموقف الانكفائي ضار بالنسبة للمسلمين، ومخالف لإحدى القواعد الراسخة في الإسلام، وهي فضيلة الحوار والانفتاح.

والإشكال المطروح هنا هو: ما هي مبررات رفض الحداثة الغربية؟ هل لاعتبار مصدرها (الغرب) أو مضمونها (العداء للإسلام والتناقض مع قيمه ومبادئه)؟

فإذا كان الجواب بالشق الأول، فإن الأمر لا يعدو كونه تعصبا، فالعبرة ليست في مصدر الأفكار وإنما في مضامينها، والحقيقة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها.

وإذا كان سبب الرفض هو المضمون، فلا بد من إدراك إن المضامين النظرية والقيمية للحداثة هي حصيلة ثلاثة روافد:

ـ رافد تاريخي أسهم فيه المسلمون كما بين الحوالي.

ـ رافد عقلاني إنساني لا نخاله في ذاته مدار اعتراض، وإن كان من المبرر إخضاعه للنقد والنقاش بالحجة والبرهان.

ـ رافد موضوعي ليس ناتجا عن خيارات عقدية أو قيمية، بل عن محددات وعوامل ذات صلة بتشكل الواقع نفسه. فللحضارة الزراعية، مثلا، نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما للحضارة الصناعية أنظمتها المختلفة، وللحضارة التقنية الثانية (أو الموجة الثالثة، حسب عبارة علماء الدراسات المستقبلة) أنظمتها المميزة.

فإذا كانت للحداثة الغربية رواسب حضارية خاصة، فإن لها في الآن نفسه قيم وسمات كونية، تخترق شتى الثقافات وتستوعبها ولا تتصادم مع قاعدتها الدينية والحضارية العميقة، وهذا ما يسمح في آن واحد بالكلام عن الحداثة كظاهرة تاريخية شاملة وعن الحداثات المتنوعة (الأوروبية، والأميركية واليابانية والهندية). فما هي ثوابت وأسس الحداثة في ما وراء اختلاف وتنوع صيغها؟ إنها أربعة، لا نخالها مدار اعتراض، وهي:

ـ مبدأ الإرادة الإنسانية الحرة، أي ما عبر عنه هيغل بعبارة «الوعي بالذات» في مقابل التصور الجوهراني المثالي للوجود (الكوسمولوجيا الأرسطية)، بما لهذا المبدأ من نتائج في مستوى الممارسة المعرفية والمشروعية السياسية.

ـ مبدأ الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية وليس الفصل بين الدين والدولة، الذي هو عماد العلمانية الفرنسية لوحدها. ويعني هذا المبدأ نزع القداسة عن المعطى السياسي وتأسيس شرعية الحكم على التعاقد والخيار الحر.

ـ مبدأ العقلانية: أي إخضاع الظواهر الطبيعية والإنسانية لأدوات التحليل الفكري بدون مصادرة أو تقييد.

ـ مبدأ التجريب العلمي أي التحقق من الفرضيات المنطقية ـ الرياضية المتصلة بالظواهر الطبيعية عن طريق أدوات الاختبار التقنية المخبرية.

وهذه المبادئ الأربعة قابلة للاستيعاب والتأقلم في أنسجة حضارية متمايزة ومتنوعة، وعلى ا لأخص في نسيجنا الحضاري الإسلامي، مما لا يخفى على ذي لب ومنطق سليم.

* تصحيحات على منهج الحوالي

* بقيت بعض التصويبات والتصحيحات الجزئية التي لا بد من إجلائها بعد تفكيك منهج الحوالي في قراءة الفلسفة الغربية والفكر الأوروبي الحديث.

1 ـ علاقة أوروبا بأرسطو:

يقول الحوالي: «لئن كانت كتب أرسطو بمنزلة الكوة الصغيرة التي نفذت منها أوروبا في انفلاتها من سجن الكنيسة المظلم...». وهذا الحكم غريب وينم عن تجاهل حقيقي لفكر أرسطو وأثره في التراث الأوروبي الوسيط. فالمعروف إن الفلسفة المسيحية الوسيطة منذ القرن الرابع الميلادي، قامت على هاجس التوفيق بين النصوص المقدسة والفكر اليوناني، وعلى الأخص فكر أرسطو، الذي غدا مقوما رئيسا من مقومات اللاهوت المسيحي. ولا أحد يجهل دور القديس أوغسطين (403 ـ 354) في هذا المجال. فكيف يكون أرسطو هو كوة انفلات أوروبا من سجن الكنيسة، بينما هو في حقيقة الأمر الأساس النظري الذي بنيت عليه التقاليد الفكرية المسيحية؟

2 ـ عقم الفلسفة:

يقول الشيخ الحوالي متحدثًا عن مآل الفلسفة في أوروبا بعد الحرب العالمية: «ومع اتساع الهوة بين الواقع المعاصر بيأسه وقنوطه ومعضلاته المستعصية، وبين النظريات الوضعية ـ الشمولية منها والنسبية، ظهر جليا عقم الفلسفة، وتسرب فراغ المضمون.. هذا الملجأ الهش الذي هرب إليه فلاسفة اللامعقول وهو الأدب، وكان الدخول من باب النقد الذي باسمه تحولت اللغة إلى موضوع لجدل فلسفي عقيم...».

ولا شك إن هذا الحكم الجريء يفتقد الدقة، في ما يتعلق بمسارالفلسفة المعاصرة التي لم ينحسر زخمها أو تتقلص طاقتها الإبداعية، بل تغيرت أدواتها وإشكالاتها ومناهجها، كما هو الشأن دوما في تاريخ الفلسفة. فمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت من أكثر مراحل تاريخ الفلسفة ثراء وخصوبة، ففي هذه الحقبة ظهرت فلسفة هايدغر، التي تعتبر إحدى أهم الفلسفات في تاريخ الفكر الفلسفي برمته، وظهرت الوجودية بمدارسها، والشخصانية، وظاهراتية هوسرل وميرلوبونتي، والوضعية المنطقية باتجاهاتها المختلفة، وتأويلية غادامير ريكور ولفيناس وحفريات فوكو وتفكيكية دريدا وكل ما في الأمر، إن الفلسفة انتقلت من حقل المنظومات النسقية المغلقة التي تدعى تقديم معرفة مكتملة ويقينية بالوجود والطبيعة والمجتمع إلى مفهوم الصياغة الإشكالية وإعطاء الأولوية للنص واللغة، ولا يعني هذا التحول العدمية الفارغة، باعتبار إن الفلسفة ليست خطابا معرفيا ولا نظريات علمية، وإنما هي نشاط تأويلي نقدي ينمي الحس النقدي.

3 ـ عقيدة البنيوية:

يقدم الشيخ الحوالي تعريفا مشوشا ومغلوطا للبنيوية، معتبرا إياها امتدادا لنظرية «العقل الجمعي» لدى دوركايم، وأن أبرز سماتها «تجريد اللغة من دلالتها الإشارية المألوفة، وعدها نظاما من الرموز يقوم على علاقات ثنائية»، ومن هنا ظهرت فكرة «البنية»، والقول باعتباطية الرمز اللغوي، وهو ما يعني أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة العلاقات التعسفية، أي: العلاقات التي لا ترتبط ارتباطا طبيعيا أو منطقيا أو وظيفيا بمدلولات العالم الطبيعي.

ويذهب الحوالي إلى تتبع آثار وتأثيرات البنيوية، متوقفا عند المدرسة الشكلية الروسية، ونقد رولان بارت، ولسانيات جاكوسبون، ومدرسة تشومسكي، انتهاء بفلسفات فوكو ولاكان والتوسير ودريدا.

ولا شك إن هذا الجزء من كتاب الشيخ الحوالي هو الأضعف فهو لا يفهم القول باعتباطية العلامة اللسانية، أي العلاقة بين الجانب الصوتي المادي في اللغة وجانبها التصوري الدلالي، ما دام يرتب عليها نتائج زائفة أي اعتباطية العلاقات الاجتماعية، وهو قول يتناقض بداهة مع المضمون الوظيفي للفكرة البنيوية: أي اعتبار العلاقات الاختلافية بين عناصر البنية المترابطة عضويًا أساس الدلالة. وهو المنهج الذي بنى عليه ليفي شتراوس دراساته الانثربولوجية حول القرابة والأساطير والزواج، واعتمدته سميولوجيا بارت ونظريات النقد المتفرعة من البنيوية.

أما حشر تشومسكي في التصنيف البنيوي فأمر غريب، مجانب للصواب، ذلك إن التصورات البنيوية لا تنسجم مع أطروحته بفطرية اللغة وثبات الطبيعة الإنسانية واستناده على المفاهيم الديكارتية.

أما اشاراته حول فلسفة التوسير وفكر فوكو (مركزية الجنون في استكناه الحقيقة الإنسانية) فلا تحتاج لوقفة تصويب لبداهة زيفها.

ويختم الحوالي حديثه المستفيض عن البنيوية بتأثيرها في الساحة العربية، بالإشارة إلى أعمال نقاد أدب من نوع كمال أبو ديب ومدرسة مجلة «فصول» المصرية وعبد الله الغذامي وسعيد السريحي، معتبرا إنهم يعتمدون البنيوية عقيدة ومنهج حياة، يلخصه في هذا التصور الغريب: «إنها جبرية من نوع غريب لم تعرف البشرية له نظيرا من قبل». أي إضفاء القوة المطلقة للغة وسلب إرادة الإنسان، خاصة الشاعر». ويخلص الحوالي من محاكمته للبنيوية إلى القول: «أليست البنيوية منهجا مطردا بقوانين وتحليلات شمولية وقاطعة لا تستثني قائلا ولا نصا ولا لغة؟».

ثم أليس الموقف الألسني يجرد كل قاعدة من قدسيتها، بل لا يرى قاعدة إلا في ما هو متداول وممارس من طرف المجموعات البشرية، وفي بعض الأحيان يرى تكسير القاعدة «قاعدة». وينهي الحوالي كتابه بتكفير الحداثيين العرب لتطبيقهم المقاييس البنيوية على القرآن الكريم، وقولهم بموت المؤلف واستقلال النص.

أما القول بأن البنيوية عقيدة ومنهج حياة فيتناقض مع الحكم عليها بالخواء والعدمية. والواقع إن البنيوية ليست سوى منهج من بين المناهج التي بلورتها العلوم الإنسانية المعاصرة لقراءة النصوص وتأويل الظواهر الرمزية من منطلق لا يصادم الدين في شيء، وهو النظر إلى عناصر اللغة أو الوقائع المجتمعية بصفتها تنتظم في شبكات نسقية تمنحها الدلالة من حيث علاقة انتظامها ذاتها.

ومن المشروع توجيه النقد إليها بهدم النزعة الإنسانية وتقويض مقاييس الذاتية والعقلانية التجريبية، وهي التهم التي وجهها إليها الماركيسون وعلى رأسهم لفوفير وغارودي، بيد إن هذا النقد يصدر عن منطلقات حداثية لم يتبينها الحوالي، الذي أطلق صفة الحداثة على أفكار وفلسات تتميز بحرصها على نقد الحداثة وتجاوزها. أما نعوته للحركة الحداثية العربية بالخروج عن الدين، فلا تعدو أن تكون تهما باطلة، لا دليل عليها. فليس من هم المنهج البنيوي التعرض لمصدر النص، أو نزع قداسته، وإنما يتناول كما بينا من قبل أنماط تلقيه وصيغ ورهانات تأويلية، وليس لهذه الهوامش والتأويلات والشروح قداسة، ولا تتماهي مع الدلالات والمعاني المطلقة للنص.

XXX حاصل الأمر، إن كتاب الشيخ سفر الحوالي، لا يصح أن يعتبر مقدمة في الفكر الغربي والحداثة، بل هو قائم على أغلاط شنيعة وأخطاء في فهم جلي للنصوص، بدون رجوع للمصادر الأساسية للفلسفات وأمهات الكتب التي تعرضها موضوعيا. وإنما استند الشيخ الحوالي على مراجع ثانوية غير صادرة عن مختصين، وظفها في إصدار فتوى بتكفير وتبديع الاتجاه التحديثي العربي.