العمارة في عالم إسلامي متغير

المجتمع و«الأبنية التي تدوم إلى الأبد»

TT

أصدرت مكتبة الاسكندرية أخيرا، كتاباً للدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الاسكندرية، بعنوان «العمارة والمجتمع». تطرق فيه إلى موضوعات مألوفة، لكنها تستدعي وجهات نظر ورؤى مختلفة، حيث استعرض العلاقة بين العمارة والمجتمع كآلية عمل مستمرة ومتكاملة وتفاعلية، في ظل سياق العالم والمجتمع الإسلامي المعاصر المتصف بسرعة التغير. وقدم الكتاب العناصر الرئيسية لآلية التغير، ثم مجموعة من الملاحظات حول وظيفة العمارة كانعكاس للمجتمع، وعلاقة ذلك بالهوية الثقافية المتغيرة. بالإضافة إلى تلك الموضوعات، قدم الدكتور سراج الدين رؤيته لدور المعماري في تقديم الماضي، وفي فهم الحاضر واستشراف المستقبل.

بدأ المؤلف كتابه بالحديث عن العالم الإسلامي، الذي يظل عالماً فقيراً بشكل عام، ويتكون في غالبيته من بلدان نامية يتركز معظم ثقلها في جنوب، وجنوب شرق آسيا، وتكتسحه تيارات قوية من التغيير خالقة التوتر والصراعات في الآلية المؤلمة الجارية لخلق وتطوير شعور جدير بالهوية، يكون معاصراً وأصيلاً في ذات الوقت. وهو في ذات الوقت مجتمع متنوع ومتباين، يمتد من المغرب إلى اندونيسيا، وهو بشكل عام عالم فقير، يتركز ثقله الديموغرافي في البلدان الفقيرة، مثل بنجلاديش وباكستان واندونيسيا ونيجيريا. ومن بين الاهتمامات الرئيسية لهذه الدول، تحديث القاعدة الاقتصادية من خلال تحسين الرفاهية والوضع المعيشي للمواطنين. ويشير مؤلف الكتاب، خلال هذا التعريف، إلى أن العديد من مجتمعات العالم الإسلامي، تبدو وكأنها تنحرف عن ضالتها، ولا تدرك مبتغاها في ظل تأثرها بالتيارات العالمية، خصوصاً التأثيرات القوية للدول الصناعية الغربية، الأمر الذي يعرضها لأزمة هوية.

انتقل الدكتور سراج الدين بعد ذلك إلى تقديم للروابط الرئيسية التي تربط بين العمارة والمجتمع، والتي تشكل جزءاً من الواقع المعيشي الديناميكي والمتغير في المدن المعاصرة، حيث تعتبر العمارة هي الأداة التي تعبّر عن هذا الواقع المتغير. فالنسيج العمراني والمباني، يعتبران مرآة فيزيائية للأوجه والأبعاد الآيديولوجية التي تحدد ماضي وحاضر المجتمع وتراثه الثقافي، بالإضافة إلى تطلعاته المستقبلية. فعلى احد المستويات هناك السعي للحفاظ على أفضل الأمثلة من المباني التقليدية كنماذج للإلهام المعاصر، ومع ذلك، فإن هذه الأبنية هي أيضاً شواهد على ما كانت يوما ما، رؤى معاصرة لما يعتبر اليوم مرحلة سابقة قد انتهت، لكنها بقيت جزءاً لا يمحى من تجربتنا التاريخية كشعب. ويأتي في هذا السياق، الحديث عن دور المعماري في الحفاظ على التراث القديم، الأمر الذي يأتي من خلال عملية تعليمية قوية للمعماريين تولد لديهم الحس النقدي المطلوب لفك مفاتيح المضمون الرمزي للماضي في أسلوب واقعي، وهو ما يتطلب معرفة واسعة بالمنهجية وبمضمون الدراسات التاريخية، بالإضافة إلى المقدرة على رؤية البيئة المبنية في الماضي، كما كان ينظر إليها من قِبل معاصريها. بعد التعرض للماضي، يجب علينا أن نفهم الحاضر، حيث يحاول العديد من المجتمعات إنكار عملية التحول وتفاديها، من خلال إطلاق صفة الكمال على الماضي الذي لم يوجد قط، إلا في أذهانهم، كما أن التأثير المنتظم لحركة الحداثة في التفكير المعماري خلال القرن العشرين، قد ساعد على تقوية نزعة البيئة الفيزيائية نحو العالمية، حيث تعاني المجتمعات الإسلامية من الغرق في طوفان التقنية الغربية والمستوردات الثقافية، التي لا تنسجم مع الظروف المحلية ولا تتفهم التقاليد الثقافية.

أما في ما يختص باستشراف المستقبل والاستعداد له، فيذكر المؤلف أن المعماريين يتبعون شعار «الأبنية تدوم إلى الأبد»، في حين أنهم يجب أن يكونوا قادرين على فك رموز الماضي، بما يمكنهم من فهم كيفية نظر الأقدمين لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، مسلحين بمعرفتهم القائمة على المقارنة، كما يجب عليهم ألا يفكروا في مبانيهم الفردية فقط، لكن بعلاقتها مع المجتمع والمحيط الأكبر، والاهم من هذا، يتوجب على المعماريين الجمع بين كل ما سبق لتصميم وتفعيل منتجات تستطيع قادرة على الديمومة.

تعرض الدكتور سراج الدين أيضا، في هذا الفصل، إلى دور المعماري في المجتمع كدور محوري في تحديد فهم المجتمع لواقعه، وفي صقل رؤيته لذاته ولتعبيره الثقافي الأصيل. وهو يشير إلى أن المعماريين والبنائين والمخططين المعماريين، هم الوحيدون القادرون على صناعة منشآت تصبح في ما بعد معالم مهمة، وعلامات بارزة ضمن البيئة العمرانية العامة. ولكي ينجح المعماريون في ذلك، يجب أن يتحلوا بالفهم التاريخي والثقافي والقدرة على فك وفهم رموز المحاكمة الجمالية الأساسية، التي تضيف المغزى والمشروعية لأمثلة الماضي على عالم اليوم والغد.

أما الفصل الثاني من الكتاب، فيدور حول مفهوم العمارة كمقولة فكرية، تعتمد على نظرة معمارية نقدية محددة، وتركز بشكل أساسي على النقد متعدد الأبعاد، الفيزيائي والثقافي، وذلك المتعلق بالسياق والمحيط. وجميعها تتعامل مع المقولة الفكرية المعمارية، كما تتجلى على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، وتنقسم إلى ثلاثة أجزاء، هي: مفهوم الأصالة الثقافية وتجلياته في العمارة المعاصرة في المجتمعات الإسلامية، واستخدام العمارة الحاذقة والمركبة القائمة على اللغة المحلية، وأخيرا الجماليات العمرانية الحديثة، التي قدم لها المؤلف عدداً من الأمثلة الحائزة على جائزة الآغا خان للعمارة، مثل مبنى مسجد بونج في باكستان، ومسجد نيونو في مالي، ومركز رمسيس واصف في مصر. وينهي الدكتور سراج الدين كتابه بتقديم مفهوم للنقد المعماري، فهو يجب أن يكون على مستوى واع رفيع ينظر إلى العمل المعماري على عدة مستويات منها، البناء بوصفه بناء، وهو ابسط أنواع النقد والتقييم وأكثرها مباشرة، إذ يعتمد على النظر إلى مدى استجابة المبنى للجوانب الوظيفية والى صفاته الجمالية. للحوار مع الأقليات والمعارضة، وفي ذات الوقت دعم الترابط الاجتماعي. والبناء في سياقه المادي، ويشمل ذلك دراسة ايجابيات وسلبيات العلاقة بين المبنى والبيئة المحيطة به، مثل مدى التناسق أو التنافر، والبناء في سياقه الحضاري، ويشمل ذلك مدى ملاءمة البناء وتوافقه مع التراث الحضاري، الذي تعبّر عنه الأشكال البنائية التي أنتجتها المهارات التي افرزها المجتمع عبر التاريخ، البناء في سياقه الدولي، وهو مكانة العمل المعماري، باعتباره جزءاً من الشبكة الدولية للتيارات والأساليب والمدارس الفكرية ومدى مساهمته في تطويرها أو بلورتها، سواء عن طريق التأييد أو الابتكار. وأخيرا يأتي البناء في سياقه الفكري، كآخر مستوى للنقد المعماري البناء، ويشير هذا المستوى إلى مدى تأثير العمل المعماري على الاتجاهات المحلية، ويضيف إلى المستوى الفكري للمنطقة، ولا يعتبر هذا مرادفاً للنظر إلى البناء في سياقه الدولي، فالوسط الفكري على المستوى المحلي والإقليمي يهتم بقضايا واقعية وملحة تنبع من الظروف المحلية، حتى وإن كانت هذه القضايا عالمية، فهذا المستوى الأخير للنقد يختلف عن أكثر الآراء المتداولة في النقد المعماري.