الكتاب لزوم ما لا يلزم

الإعداد لحملة «الكتاب والشباب» في دمشق لتشجيع الشباب على القراءة والمطالعة

TT

«لماذا نقرأ؟ وعلى ماذا نطلع إذا لم يكن لدينا اهتمام بشيء، وليس لدينا توجه أو هدف معين؟!» بهذا السؤال، بررت شابة جامعية أسباب عزوف الشباب عن القراءة، خلال نقاش مطول لمجموعة من الشباب الجامعي مع عدد من المثقفين والمتابعين للشأن العام من المخضرمين، في لقاء دعت إليه «دار أطلس» للنشر، بالتعاون مع المنتدى الاجتماعي في دمشق، بهدف الإعداد لإطلاق حملة «الكتاب والشباب» لتشجيع الشباب على القراءة والمطالعة وطلب المعرفة والاهتمام بالشأن العام وتحمل المسؤولية. حسب قول سمر حداد، صاحبة «دار أطلس»، حيث شُكلت لجنة تنسيق تضم الدكتور طريف بكداش، المهندسة سحر صادق، وسمر حداد، مهمتها تنظيم لقاء أسبوعي في المنتدى الاجتماعي، في محاولة لدفع الشباب نحو وضع برنامج عمل ثقافي يرتأونه مناسباً، سواء كان حواراً حول مشكلاتهم أو تجاربهم الحياتية المميزة، او مناقشة كتاب مهم، أو أي نشاط ثقافي آخر، وإن كانت غاية الحملة الرئيسية هي الترويج للكتاب والقراءة. الفكرة نبعت من الإحساس بتردي علاقة الشبان مع الكتاب، وتم في اللقاء الأول طرحها للتداول. كالعادة، رد البعض هذا التردي إلى ارتفاع سعر الكتاب وتلاعب دور النشر بمسألة الحسومات في المعارض. أحد الحاضرين فند هذا الادعاء بالقول، ثمن الكتاب يعادل أو يقل عن فاتورة وجبة غداء، أو تدخين اركيلة وكأس شاي في المطاعم التي ترتادونها أسبوعياً. أليس بالإمكان التضحية والاستغناء عن هذه المتعة لصالح اقتناء كتاب؟، وهناك من أشار إلى أن الوقت ضيق لا يسمح بالمطالعة لمجرد الاطلاع فقط، ثمة ساعات طويلة تستهلكها الدراسة. بالاضافة إلى التجول في الإنترنت لمتابعة ما يجري، وأيضاً استقبال الرسائل الإلكترونية. لذلك، وغيره، لا يتسع الوقت لقراءة كتاب، وإذا اتسع سيستغل لأخذ قسط من الراحة. اتفق مع هذا الرأي اكثر من شخص، وركزوا على علاقتهم المعطوبة مع الكتاب الدراسي، سواء في المدرسة أو الجامعة، فالمناهج طويلة وصعبة وتعتمد على التلقين، وربما هذا ما جعل علاقتهم السيئة مع الكتاب المدرسي تنسحب على الكتاب عموماً، لتصبح علاقة تنافر، إن لم نقل كراهية. وحسبنا رؤية الطلبة من مختلف الأعمار في اليوم الأخير من الامتحانات السنوية، وهم يمزقون الكتب وينثرون قصاصاتها في الشوارع، في مشهد انتقامي، لا يخلو من احتفالية بهيجة بعد انتهاء عام من القراءة القسرية المملة. المفارقة أن هذه الظاهرة باتت تقليداً يمارس منذ عقود، من دون أن تلفت عناية أحد من المعنيين بالعملية التعليمية لإعادة النظر في المناهج، حرصاً على مكانة الكتاب السامية في موروثنا الشعبي، المستمدة أولاً من قداسة الكتب السماوية، وثانياً احتراماً لحملة الأقلام من الأدباء والمثقفين المرموقين رواد النهضة. ولا تزال الذاكرة المحلية تحتفظ بحكايات كثيرة عن شبان الخمسينات والستينات الصغار، كيف كانوا يتباهون بحمل الكتب الكبيرة ذات العناوين المهمة ودواوين الشعر الغزلية، ويستعرضونها لدى مرورهم أمام مدارس الفتيات، حتى لو لم يكن بعضهم يطيق تعقيد المهم منها، ولا يتذوق بلاغة تلك الأشعار.

المثقف كقيمة اجتماعية يبدو أنها فقدت الكثير من معانيها، مع دخول الألف الثالثة، وانتشار تقنية التواصل والاتصال، ومعها نمط جديد من ثقافة معلوماتية، تُعنى بالمعرفة كمعلومة ذات قيمة استعمالية استهلاكية، اكثر منها تثقيفا فكريا. فقد نصادف طفلاً في العاشرة من عمره، لديه معلومات في ما يخص عوالم الكومبيوتر واستخداماته من دون أن تترافق مهاراته بتفوق في المدرسة، ونعثر على مراهقين يتمتعون بذاكرة موسوعية حول أنواع أجهزة الهواتف النقالة وميزاتها وبرامجها، وأنواع السيارات ومواصفاتها، في حين لا تحتفظ ذاكراتهم بأي اسم لكاتب أو مفكر معروف، كونه لا يقع داخل دائرة اهتماماتهم، فهم يتصفحون مواقع الإنترنت لساعات طويلة يومياً، بحثاً عن أخبار تخص تنمية معلوماتهم حول أشياء تستهويهم. في هذا المجال، لا يمكن نكران الدور الكبير للإعلان وللتلفزات في تعميم ثقافة الاستهلاك، وخلق الطلب على ما يطرحه السوق من سلع جديدة، فلا تستحوذ على اهتمام الشبان الميسورين فقط، بل وعلى شرائح من الفقراء، ولو من قبيل المعرفة والاطلاع، ليس إلا. كما لا يمكن اغفال سعي كثير من الشباب لتنمية معلوماتهم في المرحلة الجامعية في ما يتعلق باختصاصاتهم العلمية، كون الكتب الدراسية القديمة لا تلبي حاجتهم المعرفية لمواكبة التطورات الحاصلة في مجال اختصاصهم، في ما لو كان لديهم طموح الهجرة لمتابعة الدراسة او العمل في الخارج. وهنا يطرح السؤال نفسه، بالقياس إلى الواقع الذي فرض منطق ثورات التحرر بدايات القرن الماضي، حين كان الكتاب الفكري السياسي والفلسفي رمز التقدم الحضاري، فأقبلت عليه الأجيال للالتحاق بركب التطور. ألا يمكن اعتبار أن الواقع العولمي الراهن، الذي حول العالم إلى سوق استهلاكي فرض أيضاً، نمطاً من التثقيف المعلوماتي الاستهلاكي لمواكبة منطق التطور الراهن؟، قد لا تصح المقارنة هنا، لكن إذا توقفنا، عند قول أحد الحاضرين المتقدمين بالسن في الجلسة الأولى لحملة الكتاب والشباب، بأن المناهج التي درسها حين كان شاباً، كانت تتضمن صفحات مخصصة للمطالعة، اثر كل فصل في الكتاب، وهي الصفحات التي أشار إليها شاب، وأكد بأنها لا تزال موجودة في كتبهم، لكنهم يمزقونها لعدم لزومها، كونها لا تدخل ضمن الامتحان، وتزيد من وزن الكتاب!.

الشباب يقرأون فقط ما يلزمهم لاجتياز الامتحانات، أو لتلبية احتياجاتهم اليومية في استعمال الأشياء الجديدة، ومنهم من يعتقد أن قراءة أي كتاب لا على التعيين قد يكون ضاراً، وقد يحمل أفكاراً من شأنها تشويش أذهانهم. لذا ارتأت شابة ضرورة الإعلان عن فحوى الكتاب وأهمية مضمونه، فثمة كتب لا أخلاقية، أو تحمل أفكاراً تتناقض مع القيم التربوية.

لا شك أن هناك من تملكته الدهشة من هكذا طرح ينطوي على مؤشرات خطيرة في ما يخص النظرة إلى الكتاب، كعامل تحريض على التفكير، وكأنما تلك الشابة تستسلم سلفاً لقناعة لا تريد لها أن تتزعزع، طلباً للاستقرار الداخلي، فلا تختار من المعرفة إلا ما يكرس قناعاتها، لا ما يحرضها على التفكير، وإعادة النظر في تلك القناعات!، عدا عن عدم الثقة بالقدرة الذاتية على تمييز الغث من السمين، في تجنب لمقولة شائعة «من زاد علماً زاد هماً وغماً»، وكما يبدو ان الاجيال الطالعة تنشد راحة البال والتنعم برفاهية الجهل!. خطورة هذا التفكير تتأتى من حجم انتشاره بين الأجيال الجديدة، مما ينعكس على علاقتهم بالثقافة والمثقفين.

في جلسة مع مجموعة من الشباب في سن 20 ـ 25، ومعظمهم يتطلع للعمل في الصحافة، كانوا يتندرون على الصورة النمطية للكاتبة والكاتب، فالكاتبة من وجهة نظرهم، تحرص على أن تظهر كامرأة «جميلة وذكية»، بمعنى أنها تبالغ بماكياجها واكسسواراتها، كما تبالغ بالحديث عن الشعر والأدب الذي تكتبه، وهي تفعل ذلك لدحض الصورة السابقة التي خلفها اليسار عن «الكاتبة المسترجلة». أما الكاتب الأديب، فقالوا نادراً ما نعثر على أديب كشخص طبيعي، عادة يكون بشعر طويل مزيت ولحية غير مشذبة وحذاء مغبر، يعني مظهره مجعلك، يتحدث عن الذات، والتحرر الداخلي، ويسارع لمديح أول امرأة يلتقيها، وتزيد سعادته إذا كانت شاعرة أو قاصة، بمعنى «جميلة وذكية»، فيتبناها وقد يكتب عنها، أما هي تتمسكن حتى تتمكن.

الطريف، أن رسامي هذه الصورة الساخرة للكاتب والكاتبة، بالكاد قرأوا قصة أو رواية أو قصيدة، أو كانوا على صلة بأديب أو أديبة سوى معرفة سطحية عابرة في مقهى، أو سمعوا عنهم يوماً، والأغلب اقتبسوا شخصياتهم من المسلسلات التلفزيونية الفكاهية.

إذا كانت هذه أحد أشكال نظرة الشباب إلى حملة الأقلام والمبدعين، فمن أين سيأتيهم الفضول لقراءة ما ينتجون؟، أو هل سيملكون القدرة على محاكمة ما يقرأونه بعيداً عن الاستهزاء والاستخفاف بمن رهنوا حياتهم للأدب؟!. ولكي لا نسقط في التعميم، ما زال هناك شباب يؤمن بالكلمة، بل ويعتبرون ممارسة مهنة الكتابة نوعا من المظاهر الاجتماعية المرموقة، لكنهم عادة ما يكونون من بيئات فقيرة، أو ريفية تسلك طريق الأدب والثقافة للانخراط في الهمّ العام، واحتلال مكان يطمحون إليه، أو يتحدرون من عائلات تهتم أساساً بالقراءة والثقافة، وفي الحالتين يشكلون نخبة ضئيلة قياساً إلى الشريحة الأوسع ممن يلهثون لتحقيق طموحاتهم بأقل جهد ممكن، والكتاب في حياتهم لزوم ما لا يلزم.

حملة «الكتاب والشباب»، لم تجرؤ على طرح القراءة كهدف أول ووحيد، بل لجأت على سبيل التشجيع، إلى مجاراة الشباب ليكون الكتاب واحداً من أنشطة كثيرة يمكن لها أن تغني نظرتهم إلى الواقع و تساعدهم في الحياة العملية، وعلى إيجاد حلول لمشكلاتهم ورسم مستقبلهم في ظل أوضاع متغيرة ومتقلبة، هذا مع تردي التعليم وارتفاع معدلات البطالة وتدهور الوضع المعيشي.