الرصافي في تحدياته

خالد القشطيني

TT

بعد فترة طويلة من التنقيح والتصحيح والتحرير تمكن د. يوسف عز الدين من اعداد سيرة حياة الشاعر معروف الرصافي وتسليمها للنشر الذي قامت به دار المدى في دمشق. «الرصافي يروي سيرة حياته» ليست مذكرات أو يوميات الشاعر، وانما ما رواه لأحد مريديه الذي من دونها في حينها. ضم اليها يوسف عز الدين مقالات ووثائق أخرى تلقي مزيدا من الاضواء على حياة الشاعر وادبه.

المعتاد في المحررين ان يضفوا على ما يحررون من كتب كثيرا من اعجابهم واشاداتهم بمن يكتبون عنه. ولكن صديقنا الدكتور يوسف شاعر والشعراء لا يرحمون بعضهم البعض ولا يفوتون فرصة من دون ان ينالوا من اصحابهم ويكبروا سيئاتهم. وهو ما فعله يوسف.

عداء الرصافي للعائلة الهاشمية المالكة شيء معروف والقطيعة بين الطرفين مثبتة في كثير من اشعاره ووقائع حياته. ترجع اسباب هذه القطيعة الى وقوف الشاعر بجانب الدولة العثمانية ضد الثورة العربية التي ندد بها في الكثير من شعره. حاول الملك فيصل الاول ورئيس حكومته نوري السعيد رتق هذا الشق ولم ينجحا. أشهر محاولة في هذا الصدد جرت بعد ما نشر الرصافي قصيدته البائية التي اشار فيها الى الملك فيصل بقوله:

ليس له من أمره غير انه يعدد أياما ويقبض راتبا بالطبع استاء الملك من هذه الكلمات، ولكنه لم يفعل ما كان صدام حسين يفعل بمن يتعرض له، بل رتب لقاء خاصا بالشاعر ليعاتبه ويصالحه. وفي اثناء اللقاء قال له من باب العتاب الرقيق، بعد ان اشار لكل المسؤوليات والمنغصات والمتاعب التي كان يلقاها في حكم العراق، قال هل: أحقا يا معروف انا ذلك الرجل الذي لا يفعل غير ان يعدد الايام ويقبض راتبا؟ اجابه الشاعر على هذا العتاب ـ السؤال فقال «عسى الا تكون» يردد العراقيون الى الآن هذه الكلمات كوسام للشجاعة والاباء. ولكن يوسف عز الدين لا يرى شيئا من ذلك وينتقد الشاعر على شمخرته وتكبره بل وتطلعه لأن يكون في مكان الملك وأكثر.

ولكن لا بد لي من جانبي ان اعترف بتحزبي ـ ككل العراقيين ـ للرصافي. غير ان اعجابي به تعاظم الآن بعد قراءة هذه الوقائع التي ضمها الكتاب. شجاعة الرصافي التي اشرت اليها آنفا تتجسم بصورة اكبر عند قراءة هذه السيرة. الحقيقة انه اذهلني كما اذهل الدكتور يوسف باعترافاته، ومنها ميوله الغلمانية التي تذكرنا بميول ابي نواس، ولكن الشاعر العباسي عبر عن ذلك في اطار الشعر في حين سجل الرصافي هذه الميول تقريرا واعترافا. الكتاب في الحقيقة حافل بمثل هذه الاعترافات ونشكر المحرر على ابقائها وعدم شطبها وحذفها، وهذه شجاعة نسجلها ليوسف عز الدين.

الكتاب حافل بأمثلة غنية وبليغة تنم عن مشاعر الرصافي الانسانية. في حنوه على الحيوان وتفهمه للصوص وعطفه على المرأة وتواضعه الخاص من ذلك انه اخطأ في مهاجمة رجل بريء في الفلوجة. وعندما ادرك خطأه ذهب اليه في اليوم التالي ليعتذر وقال له لا سبيل للتعبير عن مدى خطئي بغير واحدة من اثنتين، اما ان تسمح لي بتقبيل يديك أو ان اغادر هذه المدينة ولا اعود اليها.

كنت قد نددت قبل ايام بمن يتباهون بتعرفهم بالشخصيات المهمة. هنا نجد الرصافي يزور مصر ويخرج منها ويقول انه لم يلتق بشوقي ولا حافظ ابراهيم ولا النحاس ولا اي من رجالات مصر. يظهر انه قضى ايامه في خان الخليلي كأي سائح أجنبي.

يكتشف القارئ من مطالعة هذه السيرة جانبا قلما اشار اليه أحد، وهو روح النكتة والفكاهة والسخرية في الرصافي، يروي فيقول انهم عينوه رئيسا للجنة الترجمة في وزارة المعارف ثم اكتشف انه لا يوجد اي عضو في هذه اللجنة ليترأس عليه. ولكنهم اشاروا به الى مكتبتها ثم وجد ان المكتبة لا تحتوي على غير ثلاثة كتب. التقى بالسيد مسعود الألوسي الذي ابدى اهتماما في الأدب فطلب من الرصافي ان يروي له بيتين رائعين من الشعر ليدونهما. فروى له ذلك وكتبهما السيد مسعود ثم سأله لمن البيتان. وكان الرصافي قد نسي اسم الشاعر فقال له انهما لي. وعندئذ مزق الرجل الورقة وقال كنت اريد بيتين من شاعر مهم! زاره المستر دنفيل من موظفي سن الذبان. وراح يتحدث اليه عن حكمة التطور التدريجي وعلى العراقيين الا يتوقعوا الحصول على كل شيء دفعة واحدة. فأجابه الشاعر ولكن كيف وانتم ايها الانجليز عندما اقمتم سن الذبان (القاعدة العسكرية البريطانية) لم تنتظروا التطورالتدريجي للمعسكر؟ اقمتموه دفعة واحدة! ولكن الظريف ان الشاعر تعلم من دنفيل اصل هذا الاسم. فأنا والرصافي ايضا وكل العراقيين يعتقدون ان المقصود بسن الذبان. سن الذباب، وهي تسمية غريبة، فلم يثبت ان للذباب اسناناً ويفرشونها كل يوم قبل النوم. لكن هذا الخواجة شرح للرصافي انه قبل ثلاثة قرون وجدت خريطة بالانجليزية وعليها هذا الاسم. وان المنطقة كانت تغص بالذئاب وكان سكان المنطقة من البدو يجمعون الذيب بذبان. وشكرا للانجليز على تعليمنا بما لم نعلم.

هذه ليست بسيرة الرصافي فقط وانما بسيرة العراق في عهده فالشاعر يروي الكثير عن العادات الاجتماعية في عصره وشخصيات ذلك الزمان. ويذكر فيما يذكر سبب فقره على ما يظهر. يقول انه كان لوالده سيف ثمين من الذهب اخبأه في سقف البيت على عادة أهل ذلك الزمن. وكان الشاعر في الاستانة. وعندما عاد الى بغداد وجد ان أمه قد باعت ذلك البيت من دون ان تعرف شيئا عن السيف، ولم يشأ الشاعر ان يزعج اصحاب البيت الجدد باستخراج السيف من السقف.

رصافية اخرى من رصافياته الانسانية. لا ادري ما حل بذلك السيف الآن، وما اذا كان قد نجا من ايادي ازلام صدام.

الكتاب مليء بالكلمات البذيئة والكلمات الغلط. وهذه متعة اخرى للقارئ وهي ان يعزل الاخطاء المطبعية من الكلمات السوقية، وهي مهمة ليست سهلة كما قد يتصور.